صدر مؤخرا للروائي والقاص " محمد صوف " مجموعة قصصية تحت عنوان " أزعم أن ... " عن دار النشر " مرايا " 2008. وهي مجموعة تتألف من أربع عشرة قصة، وقد آثر القاص " محمد صوف " وسم كل قصة منها بخط من الخطوط الملونة، بداء باللون الأصفر وانتهاء باللون الوردي، وحسب علمي، فهذه هي المجموعة الأولى من نوعها التي تعوض العناوين بتقنية الألوان. 1- عتبة النص " العنوان " : يشكل العنوان غواية النص كما يقول " كونغور "، فهو أول عتبة يصطدم بها القارئ، فيكون بمثابة صك، أو عقد قرائي بين النص والمتلقي. وقد عنون القاص " محمد صوف " مجموعته القصصية بجملة فعلية " أزعم أن ... " وهي جملة غير مفيدة دلاليا، وإن كانت تامة نحويا : ولعل ما يؤكد ذلك نقط الحذف الثلاثة. ذلك أن دلالة العنوان باعتباره أثرا (علامة) يفرض ملامسة " المعنى الحرفي الذي تقدمه الألفاظ للعنوان في مرحلة أولى ... ويعتمد في مرحلة ثانية على السياق الثقافي العام الذي يؤطره النص، وعلى التأويل العقلي الذي يبحث عن دلالات عامة تتجاوز المعاني الحرفية للألفاظ " . لقد ورد في لسان العرب أن الزعم هو : القول يكون حقا ويكون باطلا، وهو على أربعة أوجه، يكون بمعنى : الكفاية والضمان وبمعنى الوعد وبمعنى القول والذكر وبمعنى الظن . وبغض النظر عن أي " زعم " يروم محمد صوف الحديث، فإن نقط الحذف بعد " أن " تبقى منفتحة على جميع التأويلات والقراءات، خاصة وأن مجمل القصص / الخطوط تخضع لمنطق الحلم المنفلت من إمكانية التحييز الزمكاني. 2- ثيمة " الحلم " في قصص / خطوط المجموعة : إن متابعة إحصائية لجميع قصص المجموعة تشير إلى أن هذه لأخيرة تتم داخل الحلم، أو تشير إليه، أو ترمز إلى إحدى خصائصه (الهذيان، النوم، الاستيقاظ ... ) من ذلك مثلا قوله في قصة "الخط الأرجواني " : " فهل حدث ذلك البارحة فعلا، أم أن أنني أعيشه اللحظة " ص : 55. فهذه القصة وإن كانت تخلو مما يشير إلى الحلم صراحة، إلا أن الالتباس الزمني بين البارحة واللحظة في ذهن السارد، يدل على أنه يعيش لحظة لا واعية، لحظة حلم بامتياز. ولعل الجدول التوضيحي التالي كفيل بإبراز ذلك بطريقة ملموسة : عنوان القصة ثيمة الحلم الصفحة 1- الخط الأصفر ترعبني أحلام اليقظ، وأحلام اللا يقظة 9 ن 2- الخط الأبيض أراها الآن فقط حلما في حلم 15 ن 3- الخط اللازوردي لست أدري هل يمكن لزمن حلم أن يتجاوز يوما إلى أيام 22 ن 4- الخط الكستنائي هو يقول وأنا أحلم بالياقوتة والؤلؤة 27 ن 5- الخط القرمزي جميل صمت النوم / أتمنى أن أستيقظ 34 – 36 ن 6- الخط البني لا شك أني أهذي / أنا أهذي فعلا / وددت أن يدركني الصباح 39 – 40 ن 7- الخط الأسود وهل أنا نائم ؟ ربما كنت نائما 52 ن 8- الخط الأرجواني فهل حدث ذلك البارحة فعلا أم أني أعيشه اللحظة 59 ن 9- الخط الأخضر كوخ في قلب غابة، الغابة في قلب جميل، والجبل في الحلم 63 ن 10- الخط البنفسجي يوزن بالجبال حلمها / ففي الحلم نادرا ما يطلب بطاقة تعريف المحلوم بهم. 69 ن 11- الخط الأحمر كان الفقيه يفسر الأحلام 75 ن 12- الخط الأزرق رأيتني أرى 83 ن 13- الخط الحجري حتى أنا في حلمي لا أفهم شيئا، سأحاول أن أفهم في يقظتي 91 ن 14- الخط الوردي جميل هذا الحلم 95 ن إن استقراء سريعا للجدول أعلاه، يبين مدى الحضور الطاغي لثيمة " الحلم " في المجموعة القصصية، مما يفرض مجموعة من التساؤلات : أهو هروب من الواقع المعيش ؟ أهو استنجاد بالحلم بالمفهوم الرومانسي له ؟ أهو إدانة للواقع ؟ أهو حلم بواقع بديل ؟ أهو تنكر لسلبية الآخر ؟ (رأيتني هناك في أرض لا أعرفها وسط حقل لا أعرفه بين أناس لا أعرفهم ) ص : 76. إن سلطة الحلم هي الموجه الأول والبؤرة التي تتناسل منها جل " الخطوط " الملونة (القصص)، ذاك أن توسل القاص محمد صوف بالحلم كدال، يحيل على مدلولات كثيرة، وعلى رأسها الإدانة والرفض والاحتجاج، ولعل ما يعضد ذلك التكرارات الضدية المتواترة - على شكل مفارقات – في القصص، وكأني بالقاص / السارد يعلن إعفاءه من توريطه في شهادة هو منها بريء : " أجدني أصمت / لا أصمت " (ص : 78)، " كنت أومن / لا لم أكن أومن بشيء " (ص : 77). ففي الحلم عند محمد صوف يلتبس الواقعي بالخيالي، وتغدو الرؤيا ضبابية ملتبسة هي الأخرى (أهو حصان واحد ؟ ربما كانا حصانين أو ثلاثة أو أربعة، ص : 77). وفي الأخير، ألا يحق لنا أن نتساءل عن قصدية الكتابة من داخل الحلم، أهو انتصار له في زمن أضحى الواقع ضاغطا بلا هوادة ؟ أهو إدانة صريحة لواقع صامت (إدانة ساخرة) طبعا ؟ ربما ذلك هو ما يدعو إليه محمد صوف على لسان إحدى الشخصيات : " جميل صمت النوم، جربوه وسترون، لا قياس مع صمت اليقظة الصاخب الحافل بتنامي أكسيد الكربون "( ص : 34 ) فليس عبثا، إذن أن يختم القاص مجموعته بنفس العبارة " التي تحيل على الحلم، ليقفل بذلك دائرته الحالمة، مما يدل على قصدية الكتابة القصصية عنده، وعلى الوعي بها في ذاتها ولذاتها، فالحلم هو "العنكبوت" الذي ينسج كل خيوط المجموعة، إلا أنها خيوط أو خطوط ملونة، كالأحلام الوردية التي نتوق جميعا إلى تحقيقها. 3- الميتاقص : تتحول القصة عند محمد صوف في لحظة من اللحظات إلى نوع من التنظير بالإبداع " أو من داخل الإبداع "، إذ يتوخى السهولة في التعبير كمبدإ أساسي، يقول على لسان إحدى الشخصيات في قصة " الخط البنفسجي " : " ويغتاظ لأن ألفاظه كزة غليظة. يجهل كل الجهل أن السهل أمنع جانبا وأعز مطلبا وأحسن موقعا ... ما رأيت بليغا قط إلا وله في القول إيجاز. وصاحبنا لا يعرف أن لنشاط السامع نهاية ولصبره حدودا " ص : 70. فالإيجاز من البلاغة، وهو مطلب يحرص عليه محمد صوف أشد الحرص إن على مستوى الإنجاز، أو على مستوى الإلماع إلى ذلك عن طريق الشخصيات، ذلك أن الإيجاز يتحول عنده إلى اقتصاد لغوي، هذا الأخير الذي يعد من خصائص الكتابة الشعرية كقوله : " اللا أفهمها، اللا أعدها " (ص : 91)، فالاقتصاد في التعبير قد يختزل أحيانا في كلمة أو كلمتين. من خصائص الكتابة القصصية عند محمد صوف الاتكاء على التراث، والغوص فيه، مما يدل على رحابة مقروءاته، وحرصه على تعتيق اللغة، وفض بكارتها، والرجوع بها إلى مظانها، حيث عبق الكلمة. يقول في قصة " الخط الأبيض " واصفا معلمته منية : " معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، قمراء، وطفاء، دعجاء، قنواء، برجاء، زجاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، كاعب الثدي، لطيفة الكف، ضامرة البطن، حميصة الخصر، قطوف المشي، بضة المتجرد، عزيزة النفس، حيية، رزينة، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، ساكنة النبرات، تحملق عيناها وتحمر وجنتاها وتذبذب شفتاها " (ص : 15). إننا حقا أمام هذه الأوصاف المعتقة، والنعوت العتيقة القادمة من أعماق التاريخ، ومن رحم اللغة العربية، لنشعر بالانتشاء والزهو. إن ذات القاص / السارد لا تتوانى تظهر بين الفينة والأخرى لتحد من تداعيات القصة وانسياب أحداثها، والغاية من وراء ذلك هو إشراك القارئ، وجعله يتفاعل مع النصوص. يقول في " الخط البني " : " سأتابع الحكاية وأتوقف عن التعليق. فأنا منذ البدء أقررت بأني أهذي، كان الله في عونكم " ص : 40. وهي تقنية محمودة، تحسب للقاص محمد صوف، القصد من ورائها، كما قلت سابقا هو حث المتلقي، وإشراكه في عملية إنتاج الدلالة عن طريق حفز مخيلته، فيما يشبه نوعا من الجذب والتجاذب بين المبدع والمتلقي، مع منحه فسحة واسعة من الحرية في متابعة القراءة أو التوقف : " إذا أتعبكم هذا الهذيان فمن حقكم أن تتوقفوا هنا والآن عن قراءة هذه القصة، ألسنا في دولة الحق والقانون ؟ " (ص : 40). وكأني بالقاص محمد صوف يورط القارئ معه من جهة، ويحمله وزر ما يقرأ من جهة أخرى، بانتقاده الواقع المعيش بسخرية مبطنة : " ألسنا في دولة الحق والقانون ؟ " (ص : 40). إن هذه التقنية التي يلجأ إليها القاص تذكرنا بهوامش القدامى واستطراداتهم، وهي في رأيي خصيصة مقبولة من سماتها، خلق التفاعل أو التوضيح أو التأكيد أو الإعجاب كقوله في " الخيط الأبيض " : " ما رأيك يا عزيزي القارئ في هذا الوصف الواثب من التراث ؟ " ص : 15. وذلك تقديرا منه للتراث ممثلا في اللغة العربية، إلا أنه أحيانا يسخرها (أي التقنية) للتفسير والتوضيح، كقوله في : "الخط الكستنائي " : " وفي ظله أقفز عبره (الهاء هنا تعود على الجدار، ص : 27). إلا أن المعنى واضح لا يحتاج منه إلى توضيح، ومن ذلك أيضا : " النبع بعيد وعلي أن أقطع مسافة ترهق النفس (بفتح الفاء)"(ص :16). وأخيرا يمكن القول إن تدخل القاص محمد صوف – غير ما مرة – لتوجيه المتلقي أو مخاطبته، يدل دلالة قطعية على أنه وإن كان يكتب من تحت سلطة الحلم الموجهة لكل قصص المجموعة، فهو لا يفرط في ذلك الخيط الرفيع الذي يصله بقارئه المفترض.