ينتمي عالم ( يوسف الأزرق ) الشعري إلى تلكَ الفُسوحات المترامية من شغَب الخيال ، و الأمداء الرحبة من تلاقُح الرؤى و اتقاد الذهن و نفاذ البصيرة في جهدٍ حثيث لتكوين أجنَّة شعرية ما أن تُعلن ولادتها على الورق حتى تُبهر القارئ بنضجها المكتمل و بتمام تكوينها ، و تشِي بخضرمة أدبية قلما نجد نظيرها عند المبدعين الشباب . هذا ما نلمسه بجلاء في ديوان ( محو الأمنية ) أحدث إصدارات الشاعر المغربي الشاب ( يوسف الأزرق ) و تبدو مُعاقرة الشعر لدى ( الأزرق ) ضرورية ليس لغاية أدبية استعراضية بحتة ، بل استجابة لدافع سيكولوجي ملحّ ، يتجلى في تفريغ مخزون الذات من الحُمولة الثقيلة و الضاغطة للألم و للخيبات و للتشظيات ، إضافة إلى تمجيد الشعر و تقليدهِ مقاليد الآلهة المقدسة بوصفه طريق الخلاص ، و الموئل الآمن الذي يلوذ به الشاعر من مطبَّات اليأس و العوَز النفسي الشديد و الفادح للسعادة و للحب . انظر إلى قولهِ بما لا يدَع مجالاً للشك أنه يحيا للشعر و بالشعر : ( لا يهمّني ما سيرويه الأجداد لأحفادهم من أوهام و عبر / لا يهمني إنْ سقط جرح في الجهة الأخرى من الحب / ما يهمني فقط أن أرقد في ظل يحتوي خساراتي / و أن تبقى أصابعي معتادة على الصحو باكراً / لتكتب قصيدة بحجم صحراء ) و إذا كانَ الحب هو إكسير الحياة و بخاصة لدى مِعشر الأدباء و مجانين الشعر العربي …المُلهم و المحرّض الحثيث على البوح و سيَلان الحروف ، فإننا في ( محو الأمنية ) نلمس بجلاء الشَّرخ الكبير في علاقة الشاعر مع الحب ، إذ أنها علاقة متجردة من الثقة ، و قد فرضت سلبية هذه العلاقة على الشاعر إحساساً بقسوة الحياة و بجفائها ، و قادتهُ إلى اعترافات موجعة و يأس مُمِضّ …و هل ثمة أمضّ و أوجع من خيبات الحب ؟ التي تُرجمت بالحضور المهزوم للمرأة في ديوان ( محو الأمنية ) . … المرأة التي يشتهيها الشعراء ملهمة و متفهّمة ، تنأى بمعشوقها عن الضياع و التخبط في متاهات المصائر المبهمة ، و مفترقات الأقدار الظالمة ، المرأة التي تحتضن طفولة الشاعر العاطفية احتضان الأم لرضيعها ، هذه المرأة كان يجب أن تترسخ في وجدان الشاعر كَمِشجب لتعليق الأماني ، و كمُستراح و متنفَّس من غدرات الحياة، ساقها الشاعر لنا امرأة مسلوبة الحَيل و الحِيلة ، مكبلة بأصفاد الهزائم الاجتماعية و العاطفية ، صريعة الخيانة و الخائنين و الإهمال العاطفي شأنها شأن الرجل ! ، فكيف لها و الحال هذه أن تكون ملاذاً لرجل ذي خصوصية إبداعية ؟! يترجم الشاعر رؤيتهُ للحب في قصيدة ( غموض ) قائلاً : ( يظل الحب دائماً مليئاً بالألم الغامض و الإحساس المبعثر / النوارس وحدها تدرك مفاصلهُ و جموحهُ / …و تتفرج من بعيد على الإنسان الأناني / الذي يورطهُ حب وهمي في سعادة قصيرة الأمد / و انظر إلى ملامح المرأة في قصائد ( الأزرق ) تجترُّ همومها كما شبابها ، و تتراءى كضحية لآلاف السفاحين : ( متكئة على حائط منخور / تُرضع المرأة الحزينة نجوم المدينة الشريدة / …و السنوات الضائعة من حياتها الموجعة / تجلس جانبها و تسخر من غدر الرياح / …لم يُمهلها الهدير لحظات صغيرة / لتلملم خساراتها / و تجمع الرماح المنغرزة في ظهرها ) و يحتفي الشاعر بالعزلة ، بالتوحُّد ، بالهجران و بالاغتراب عن الذات كما عن الآخر إلى حد المغالاة والاستنكار ! و تكاد تكون غايته الأولى من الكتابة إحياء طقوس تمجِّد الإقصاء و التهميش و العدميَّة و النفي و إشكالية الخصومة مع المحيط التي تتلبسه ، مما يثير فضول القارئ لمعرفة أحوال الشاعر الخاصة و ظروفه الشخصية التي أدت إلى هذا الحُطام النفسي و الشَّتات، و شكلت هويتهُ الأدبية المتَّشحة بالسواد و بالقتامة و المرارة . لكنها بالمقابل عكست منُجزاً إبداعياً مذهلاً بجمالياتهِ و بتفاصيله ، شائقاً ماتعاً مُترفاً بألق الحزن و بنبيذ الحرمان المعتَّق ، و كأننا ب ( يوسف الأزرق ) الشاب المغربي الجميل يؤكد مقولة ( وراء كل إبداع عظيم ، ألم عظيم ) يقول الشاعر : ( في بيتي الصغير أرسم للسحب البعيدة / حكايات وضيئة عن العزلة / و أغذّي نبتتي الخضراء بعطر الصمت ) و يقول : ( لقد رحلتُ منذ ثانية و نصف موت / …لقد مزقتُ كل الأقمشة التي تنام فيها أحلامي / و هويتُ على رأس الحياة بفأس الجنون / أيها الفرح المزيف ، لاحظ وجهي في مرآة العزلة / أنا كائن لا مرئي و خطواتي تعشق التّيه و الجمال / فابتعد عني …ابتعد قليلاً أرجوك ) إنَّ ذرائع القطيعة عن العالم و مجافاة الأمل تبدو جليّة في أدب ( الأزرق ) و لها مبررات إلى حد ما ، و بمقابل هذا الخراب الداخلي و الانحطامات النفسية نجد تهليلاً و ترحيباً بمملكة النوارس و بنصاعتها المستمدة من نصاعة هذه الطيور الأليفة الونيسة الرامزة إلى السلام و الوفاء و الحرية ، و التي تنجح في الحفاظ على توازُنات الشاعر و ثباتهِ في قارب حياته المترجرج فوق هدير الخسائر و تلاطمات الخيبة . يقول الشاعر واصفاً عمق علاقتهِ بالنوارس : ( صديق رائع و متفهم / كلما جنحتُ للسفر يترك لي أجنحتهُ / جانب وسادتي البيضاء / …و عندما ألمحهُ بعيداً عن الميناء / أرسم له بفرشاتي السحرية / سماء تليق به / و بحراً بمراكب خفيَّة و بحَّارة أوفياء / و يُكثر الشاعر من مدح التوأمة ما بينهُ من جهة ، وما بين النوارس و مواطنِها من شطآن و موانئ و بحَّارة و صيادين ، و منها قوله : ( الميناء صديقي الوحيد في هذا العالم / علمني كيف أتغاضى عن المكائد و الخيبات / و أن أظل قوياً و دافقاً كالموج / لذلك كلما أحسستُ بالحنين للأغوار / أتسلل ليلاً من بابهِ الدافئ / و أتأمَّلُني ماراً بين البحارة / و متأهباً للعَوم الخفيف / أنا بحار المسافات اللامنتهية / ابن الريح و رفيق النوارس / القصائد مغلَّفة عندي دائماً بالزبد / و قصبتي وطني الوحيد ) و لشدَّ ما يُدهشنا التفكُّر في قدرة الشاعر الفائقة على الاستبطان و الاستدراج الواثق للمشاعر و للأحاسيس و استكناهها في تجلياتها و تقلباتها المتناقضة العاصفة ، فلا تكاد تخلو قصيدة من المجابهة بالحقائق و من المصارحات الصادمة حتى مع الحجر و أرصفة الموانئ و الشوارع . انظر إليه يُضيء بسراج حروفه دَخيلة الشعراء : ( الشاعر يتفتت / …ينصهر و يسيل في إناء الندم / لم تكن الظلال ممتلئة بالإشراقات الكامنة/ لكنَّ هذا الجسد الذي يحمل صفة رجل أعزل سينفجر في جزيرة الكآبة ) و يقول أيضاً : ( بريدكَ فارغ مثل روحكَ / و أمنياتك الصغيرة تحولت لجرذ مذعور / يرقد في مزهرية مهملة / ثمة أطيافٌ تجمع هفواتك / و تُرتبّها بعناية في مذكرة الخواء ) و يُلحّ الشاعر في كثير من مواطن جماليات شعره على توصيف علاقته مع الكتابة . إنها علاقة جدليَّة وشائجُها متينة ، غير قابلة للاختراق و للتفكيك . فالكتابة خبزهُ اليومي معجوناً بمَرق الألم و التسكع ، يتجلى ذلك في إلحاحه على تصوير ( مخاض القصيدة ) وولاداتها العسيرة . كما في قوله : ( في السماء غيوم سوداء / تستحيل خفاشاً يلتهم بسمتكَ كلما نظرتَ للغروب / بالسقف تتدلى ظلال نحيفة / تستمر في التمدد لتشكِّل جسد امرأة / الموسيقى تنحني ليمر موكب من القصائد الراغية / الغرفة تُحس بالوجع / كأنها ستلفظ وحشاً هائلاً / النافذة ترتعش و الحيطان تصرخ / الشاعر يدخن بارتباك و يتفرج على المشهد بحذر ) و يقول : ( إذا انفتحَ باب الشعر تصعقنا كهرباء الروح / و تتوغل فينا أطياف ميتة تزيد في شراييننا / جرعات إضافية لمزيد من التسكع المُوجع ) و يقدم الشاعر ( الصويرة ) حاضنة طفولته و شبابه بأُبَّهة و بفخامة تليق بالحواضر التي تعرف كيف تنجب شعراء أمثالهُ . و ماشغَفهُ بها وولعهُ بجغرافيتها و بمكوناتها البشرية و الإثنية و المادية إلا بطاقة حب و عرفان بالجميل من ابن بارّ إلى أم تُغدق أمومتها الفائضة بسخاء على أبنائها . انظر إليه يقول مثمِّناً هذه العلاقة : ( لازالَ الأمل يتسكع بين دروب المدينة الزرقاء / …لاشيء يبدو مريباً / ربما تتأهب العاصفة لاحتضان غضب البحر / و ستتولد لغة قديمة في رحم الضجيج / الصويرة قصيدة تبحث عن شاعر خانها / مُرغماً ليهَبها ملامح أجمل / منْ يفهم لغة الهدير غير نورس ! ) و أتمنى على الشاعر مبدع ( محو الأمنية ) أن يستبدل حرف الميم في العنوان إياه بحرف النون ، لأنَّ إبداعاً بهذا الزَّخم و الاحتشاد الكمّي و النوعي للتصاوير و للأخيلة ، للأفكار و للتراكيب و للرؤى …لابد أن يضع ( يوسف الأزرق ) و أمثالهُ من الشعراء الحداثيين الجادّين في مصافي المبدعين البارزين ، و يُبوِّئهم المكان المناسب على الخارطة الأدبية العربية ، فتألُّق القصائد و فنّيتها العالية يُصعّب على الناقد اختيار شواهد مناسبة لفكرة ما و إغفال الباقي ، فما أكثر النصوص الرافدة و الداعمة لتقييم المتلقي و اشتغاله بالتفاسير ، و ما أخصب و ما أسخى هذا الديوان الذي يُعدُّ علامة فارقة في الشعر المعاصر . فثمة قصائد تستحق كل منها على حِدة أن تنفرد بإضاءة نقدية خاصة تستشف الجمال و براعة التعبير و فرادة الأفكار و حسن الأداء الأدبي مِن معين ألفاظها و من ظلال عباراتها و من مداليل السطور و مابين السطور و ما تحتها . و من النصوص المتألقة : ( رَيبة ظل يرسم شجرة قصيدة تخلع قميصها للنجوم شرود شاعر كولاج الصويرة إلى عزيز سويبة ) و ثمة شطحات تعبيرية رهيفة أنيقة و آسرة لا تكاد تبرأ منها قصيدة ، اخترتُ منها قول الشاعر: ( منذُ البدء كانت القطارات النازفة في شراييني / ترميني بسِكَكها الملتوية في أقبية الخراب / و كانت الحرائق اللاصقة بظهري / تسلخ جلد لُغتي الصادقة / منذُ أن أعلنت الرفض في وجه العابرين ) و قوله : ( تتوقف الروح على ناصية الغيث / لنتعرف بشكل أجمل على الجمرة التي نزفت من عِناقنا / و نرسم أرجوحة طفولتنا برذاذ شفيف / يُعيدنا للضفة التي التأمت تحت جسدينا ذات غبار / و كما التراكيب و بِدَع الأخيلة كذلك الألفاظ فقد انتخبها الشاعر بدقة و ببراعة لتُوائم الحالة الشخصية ، إذ قدَّم لنا ( الأزرق ) قاموس مفردات نفيسة ، أثبتَ من خلالها إن ( لكل مقام مقال ) ، مع الاحتفاظ بخصوصية مقام و مقال الشاعر المثيرين للإبهار و للجدل . من هذه الألفاظ : ( سبائك الأسئلة ، الرَّاغية ، الأخبار البَئيسة ، صلواتك الغفيرة ، جوقة الهدير ، انثيال شهقات مديدة ، حكايات وَضيئة ، الساعة موجة إلا هدير …) و بدا الشاعر مفتتناً بالزُرقة و بدلالات هذا اللون ، فنقرأ في تضاعيف قصائده ، و في مُتون عباراته ما يشي بانجذابه إلى الزرقة و عالمها الدَّال على البرودة و المرض و الكدمات : ( الجهة الزرقاء ، جرح أزرق ، دروب زرقاء …) و يا للطرافة : ( يوسف الأزرق ) !!! و ختاماً : يقول الأديب و القاص السوري ( عبد الحميد يونس ) : ( عندما يستطيع الشعر أن يضعكَ و أنت في مواجهته ، أمام نفسكَ في حيرتها الإبداعية ، فهو في الواقع يحترم فيك ذوقك و عقلك . لأنه يفتح لك أُفق التفكير و التخييل ، و بالتالي يرفع من شأنك باتجاه التوليد و الإبداع بصحبتهِ ، و يحرِّض فيك طاقة الإبداع) إنه مفهوم الشعر الحقّ . حداثياً كان أم لا ، و هذا ما ينطبق على نصوص ديوان ( محو الأمنية ) للكائن الليلي ( يوسف الأزرق ) الذي تحوَّلَ إلى مجنون ظريف و لطيف ، فطوَّع الشعر و أدواتهِ و عناصره لبلورة رؤيتهِ الفذة للحياة ، تطويعَ القادرين الماهرين الواثقين.