الحق في الكرامة والحق في الصحة والولوج إلى العلاج، مصطلحات تُفْرَضُ على المسامع دون أن يُتلمس معناها الحقيقي في مجتمعنا، أو هكذا هو الحال بالنسبة لأطفال فقدوا أطرافهم السفلى أو العليا وسط مجتمع لازال يؤمن بالطرق البدائية لعلاج الكسور. منهم من بترت أيديهم وآخرون بترت أرجلهم، ومنهم من ينتظر..هم أقلية في نظر وزارة الصحة، لكنهم كثر على أرض الواقع، من مختلف الأعمار، ذكورا وإناثا، قادهم العوز إلى طرق أبواب العلاج التقليدي خلف نسب عجز متفاوتة، وذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا بهوامش المدن وضواحي المغرب العميق، ووضعوا ثقتهم في "جبار القرية"، ذاك "الحكيم" الذي حول حياة رضع وأطفال إلى مأساة وجحيم لا يطاق. قد تصادفهم في طابور الاستشارة الطبية بمراكز صحية عمومية إقليمية وجهوية، وغالبا ما يتم توجيههم إلى المراكز الاستشفائية الجامعية، يخفون آلامهم في ملفات حبلى بتقارير طبية، ويسرعون الخطى بغية تحاشي نظرات عطف المارة.. هسبريس سبق لها التطرق لحوادث مماثلة، وذلك عبر إدراجها ضمن المحتوى الإعلامي للجريدة، ودقت ناقوس خطر صامت، كما حاولت ربط الاتصال بأهل ضحايا العلاج التقليدي بهدف الإفصاح عن الدوافع والأسباب الواقفة وراء قصدهم "جبار القرية" عوض التوجه إلى مراكز صحية أو مستشفيات معدة لهذا الغرض، لفضح هذه الممارسات البدائية. ورغبة منها في سماع الرأي الآخر حرصت على الانتقال إلى بيت "جبار تقليدي" بحي العدير بمدينة وزان، وبالضبط وسط تجزئة إكرام، دون أن تفلح في إقناع ولو واحد في إبداء رأيه في الموضوع، فشكل الصمت المخيم دافعا إلى إكمال الروبورتاج. حتى إن اختلفت أسماء ضحايا "الجبيرة" وتوزعت عناوينهم بين وزان والقصر الكبير والعرائش وسلا، فإنها تتوحد في أغلبها على حرمان "طيور الجنة"، خصوصا أولئك القادمين من ريف المدن، من أعضاء جعلتهم رهائن عاهات مستديمة ستحكم مصير مستقبلهم مدى الحياة. فؤاد الطيبي، بروفيسور اختصاصي في جراحة الأطفال بمشفى ابن سينا الجامعي بالرباط، دعا في تصريح لهسبريس إلى ضرورة تجنب الجبيرة التقليدية نظرا لمضاعفاتها الخطيرة، على اعتبار أن واضعيها يجهلون الطريقة الصحيحة لدواعي استعمالها، ويهددون سلامة المرضى ويساهمون في مضاعفة آلامهم، مبرزا أن الأمر لا يتعلق فقط بهوامش وضواحي المدن، بل إن الآفة لازالت منتشرة بمدن وحواضر قريبة من العاصمة الإدارية للمملكة، مستحضرا في هذا السياق تواجد "جبارة" بمدن سلا وتمارة وعين عتيق وغيرها، وهو المعطى الذي وقف عليه من خلال حالات استقبلها وسط المشفى الرباطي. وأضاف الدكتور الطيبي أن الكسور أنواع وبعضها لا يمكن علاجها حتى بالجبيرة الطبية، إذ يضطر الطبيب الجراح، في بعض الحالات، إلى إخضاع المريض لعملية جراحية، وزاد: "في حال ما لم تضع الجبيرة بشكل صحيح تؤدي إلى مضاعفات وخيمة، وتتسبب في مشاكل يمكن أن تؤثر في وظيفة العظم المصاب بكسر"، مؤكدا أنه في حالات مرور 6 ساعات على تورم مكان الكسر يصعب علاجه ويكون البتر مصيره. وقال الأخصائي ذاته في جراحة الأطفال: "طبيب جراحة العظام والمفاصل لا يمكنه التعاطي مع كسور الأطفال الصغار، ونحن كاختصاصيين في جراحة الأطفال لا يمكننا التعاطي كذلك مع كسور الكبار، فكيف يجرؤ "الجبار" على التطاول على علاج كسور مختلف الفئات العمرية؟"، مؤكدا في الوقت نفسه أن الهدف من وضع الجبس هو إعادة العظم المكسور إلى طبيعته بطرق تقنية حديثة وعلمية، حددتها دراسات وأبحاث كثيرة. وأكد الدكتور الطيبي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن للجبيرة مضاعفات كثيرة، إذ إن ضغطها بشكل كبير على العظم يمكن أن يحبس الدم، ما يؤدي إلى موت العضلات، وتقلصها، معتبرا إياه خطرا حقيقيا على المريض، لكون ممارسي هذه "الحرفة" يعتبرون أن علاج الكسر يتطلب فقط ربط الموضع المصاب بشدة، لكن الواقع غير ذلك، إذ يتطلب الأمر تقنيات محددة تنبني على أسس طبية وعلمية. واستنكر الأستاذ بكلية الطب والصيدلة بالرباط الصمت المريب الذي يخيم على الحالات المرصودة، والتي طالها بتر أطراف سفلى وعليا، وأضاف: "لو تعلق الأمر بخطأ طبي لكان الأمر مختلفا"، منوها بتعاطي وزارة الصحة مع "معضلة الختان" عبر إصدار قانون يمنع مزاولة "الطهارة" من لدن غير الاختصاصيين ومعاقبة مخالفيه، ومحبذا تعميم الأمر نفسه مع علاج الكسور لقطع الطريق أمام الدخلاء والمتطفلين الذين يبيعون وهم العلاج. وجوابا على سؤال لهسبريس عن الأعراض التي تفرض على المريض استشارة الطبيب وخلع الجبيرة قال البروفيسور الطيبي: "غالبا ما يشعر المريض، بعد ساعات من وضع الجبيرة بشكل خاطئ، بألم حاد، الأمر الذي يحتم عليه التوجه على وجه السرعة إلى الطبيب"، مرجعا الألم إلى انحباس الدم وتأثر الأوعية الدموية، فيتغير لون الجلد. وزاد بأنه كلما لجأ المريض إلى الطبيب في المراحل الأولى تكون نسبة نجاح العلاج كبيرة، مستحضرا حالات كثيرة لضحايا الجهل والفقر الذين تم علاجهم بطرق عشوائية دون الالتزام بقواعد علمية صحيحة، واستقبلهم بمشفى ابن سينا ووقف على اعوجاج الكسور، وتقوس العضلات؛ وتم علاج بعضهم، فيما كان البتر مصير حالات قصدت العلاج الطبي بعد فوات الأوان.