لم تعد حالة التصدع والانهيار التي تعاني منها غالبية دول الشرق الأوسط بدرجات متفاوتة شأنًا داخليًّا ترتد آثاره السلبية على هذه المجتمعات فحسب، إذ إن موجات التداعيات باتت تنتقل سريعًا عبر الحدود من الشرق الأوسط إلى الأقاليم المجاورة التي باتت تواجه تهديدات حادة للأمن والاستقرار بها نتيجة تدفقات اللاجئين والهجرة غير الشرعية والتهديدات الإرهابية. وفي هذا الإطار، كشف تقرير "مؤشر الدول الهشة" لعام 2017 الصادر عن مؤسسة "صندوق السلام" ومجلة "الفورين بوليسي" الأمريكية عن تردٍّ حادٍّ في أوضاع دول الشرق الأوسط على المؤشر، نتيجة تزايد حدة التهديدات الأمنية، والأزمات الديموغرافية، والتحديات الاقتصادية والتنموية، بالإضافة إلى تزايد الانكشاف الخارجي للإقليم، بحيث أصبحت التدخلات الخارجية وأدوار القوى الدولية من المُسلّمات ضمن المعادلات الجديدة للتفاعلات الإقليمية. مقاييس التماسك الداخلي: على مدار 13 عامًا، واصلت مؤسسة صندوق السلام إصدار مؤشر الدول الهشة بالاعتماد على منهاجية "نظام تقييم الصراعات" (CAST)، لقياس مدى قابلية الدول للانهيار والتصدع خلال مراحل ما قبل الصراع، وفي خضم الصراعات المختلفة، بالإضافة إلى مراحل ما بعد الصراع، وخلال عملية التسوية للصراعات الداخلية، معتمدًا على مؤشرات كمية وكيفية، وبيانات معلنة تُصدرها الحكومات، والمنظمات الدولية، ومؤسسات القطاع الخاص، ومنظمات حقوق الإنسان، والجامعات، ووسائل الإعلام. ويعتمد مؤشر الدول الهشة على 12 مؤشرًا فرعيًّا لقياس درجة حدة التهديدات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية التي تواجهها الدول، والتي تتسبب في تصدعها وإخفاقها في أداء وظائفها الأساسية. ويمكن تصنيف هذه المؤشرات ضمن عدة مجموعات رئيسية: 1- مؤشرات التماسك: تركز هذه المؤشرات على قياس درجة تماسك المجتمع، وقوة الدولة، وقدرتها على مواجهة التهديدات الأمنية من خلال ثلاثة مؤشرات رئيسية، هي: الأجهزة الأمنية وقدرتها على مواجهة التهديدات واحتكار استخدام القوة ودرجة ثقة المواطنين بها، وانقسامات النخب السياسية والمجتمعية، ومظلوميات الجماعات المختلفة داخل المجتمع ومدى شعورهم بالاضطهاد والاستبعاد والتهميش داخل الدولة. 2- المؤشرات الاقتصادية: وتشمل هذه المجموعة من المؤشرات قياس مدى وجود انحدار اقتصادي، وعدم عدالة في توزيع عوائد التنمية بين الجماعات المختلفة، بالإضافة إلى هجرة العقول والكفاءات بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية. 3- المؤشرات السياسية: تتضمن المؤشرات السياسية قياس درجة الشرعية التي تحظى بها الدولة، ومستويات الرضاء العام عن الخدمات العامة، بالإضافة إلى قياس حالة حقوق الإنسان وحكم القانون داخل الدولة. 4- المؤشرات الاجتماعية: وتتضمن هذه المؤشرات قياس الضغوط الديمغرافية، ومدى وجود لاجئين ونازحين على أراضي الدولة باعتبارهم يمثلون ضغوطًا على موارد الدولة وخدماتها العامة وفقًا للمؤشر. 5- التدخل الخارجي: يركز هذا المؤشر على تأثير الفواعل الخارجية على الأداء الاقتصادي والأمني للدولة، خاصة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية من جانب الحكومات والفاعلين من غير الدول على المستويين الأمني والاقتصادي، وضغوط القروض الأجنبية والمساعدات، ومدى اعتماد اقتصاد الدولة على الخارج. اتجاهات التغير العالمي: رصد تقرير مؤشر الدول الهشة لعام 2017، عدة تحولات رئيسية في أوضاع الأمن والاستقرار لدى دول العالم، فعلى الرغم من استمرار فنلندا في صدارة الدول الأكثر استقرارًا في العالم، وعدم تغير ترتيب جنوب السودان في مقدمة الدول الهشة عالميًّا؛ فإن التقرير قد تضمن إنذارات بوجود تردٍّ حادٍّ في أوضاع بعض الدول، في مقابل تحسن ملحوظ في أوضاع دول أخرى، وتتمثل أهم اتجاهات التغير في المؤشر فيما يلي: 1- اتساع نطاقات عدم الاستقرار: شهدت بعضُ الدول تصاعدًا في حالة هشاشة مؤسسات الدولة، وتراجع قدرتها على التعامل مع الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الضاغطة، على غرار تركيا التي تصاعدت حالة عدم الاستقرار بها بمقدار 10 نقاط خلال الفترة بين عامي 2011 و2017، وهو ما يرجع إلى تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل الذي شهدته في يوليو 2016، وما تبعه من حملات اعتقال في المؤسسات الأمنية والعسكرية بالإضافة للصحفيين والإعلاميين وقيادات أحزاب المعارضة، فضلاً عن تزايد وتيرة العمليات الإرهابية وضغوط اللاجئين، وتردي حالة حقوق الإنسان وحكم القانون. وتوقع التقرير أن تشهد تركيا مزيدًا من عدم الاستقرار في عام 2018. وفي السياق ذاته، شهدت إثيوبيا صعودًا في حالة عدم الاستقرار، وتزايدت درجاتها على المؤشر من 91.9 في عام 2006 إلى 101.1 عام 2017 نتيجة للاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في أقاليم الأمهرة وأوروميا، والصدامات المتكررة بين قوات الأمن والمحتجين بسبب نزع ملكية بعض الأراضي، بالإضافة إلى مواجهة إثيوبيا بعض الضغوط البيئية مثل الجفاف ونقص الموارد الغذائية. أما المكسيك فقد شهدت زيادة سريعة في درجات عدم الاستقرار بعد فترة تحسن ممتدة، حيث ارتفعت درجاتها على المؤشر من 70.4 في عام 2016 إلى 74.3 في عام 2017، وهو ما يرجع إلى تصاعد حدة الجريمة المنظمة والعنف، والتوزيع غير المتوازن لعوائد التنمية. كما تعرضت البرازيل لصعود حاد في عدم الاستقرار عقب عزل الرئيسة دلما روزاييف عام 2016. وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد فساد النخب السياسية وبرامج التقشف الاقتصادي، بالإضافة إلى تهديدات الجريمة، وانتشار فيروس زيكا. كما انضمت جنوب إفريقيا إلى قائمة الدول غير المستقرة، حيث تصاعدت درجة هشاشة وضعف الدولة من 55.7 عام 2006، إلى 72.3 عام 2017. 2- تصاعد التهديدات الإرهابية في أوروبا: تعرضت بعض الدول الأكثر استقرارًا بالمؤشر لتهديدات أمنية وضغوط سياسية متصاعدة، حيث تسببت العمليات الإرهابية في كلٍّ من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا في تراجع ترتيبهم بين الدول المستقرة في مؤشر الدول الهشة. وتسببت تدفقات اللاجئين والضغوط على الموارد وعدم استقرار الحكومات الائتلافية في ضغوط متصاعدة على دول أخرى مثل إيطاليا وفرنسا. أما اليابان فإن التراجع الديمغرافي الحاد بها وتزايد هجرة العقول إلى الخارج تسببا في تراجع ترتيبها على المؤشر. 3- تفاقم تداعيات الفساد السياسي في كوريا: شهدت كوريا الجنوبية تراجعًا حادًّا في ترتيبها نتيجة تغلغل الفساد في النخب السياسية الحاكمة، والقبض على رئيسة الوزراء السابقة باك جون هاي ومحاكمتها باتهامات بالفساد المالي، وهي القضية التي امتدت إلى قيادات بعض الشركات الكورية الكبرى، مثل شركتي سامسونج وهيونداي. وتسببت حالة عدم الاستقرار في تباطؤ النمو الاقتصادي، وتزايد الضغوط السياسية والأمنية على مؤسسات الدولة، حيث تزايدت درجات كوريا الجنوبية على مؤشر الدول الهشة إلى 38.1 درجة. 4- تفجر الانقسامات في الولاياتالمتحدةوبريطانيا: يُعزى تراجع ترتيب الولاياتالمتحدة بين الدول المستقرة إلى الاستقطاب الحاد الذي شهدته الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والانقسامات المجتمعية المتصاعدة، والاحتجاجات المتزايدة على تعامل الشرطة مع الأقليات، بالإضافة للصدام الحاد بين إدارة الرئيس ترامب والإعلام والمعارضة السياسية التي يتزعمها الحزب الديمقراطي. كما لا تزال بريطانيا تواجه آثار نتائج الاستفتاء على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي التي تسببت في اهتزاز الاستقرار السياسي، وتزايد الانقسامات بين مختلف التيارات السياسية، بالإضافة للانقسامات داخل الأحزاب السياسية. 5- تحسن ترتيب بعض الدول: شهدت بعض الدول تحسنًا في ترتيبها على المؤشر خلال عام 2017 بسبب تراجع نسبي في حدة التهديدات الأمنية، وحالة الاستقرار السياسي والاقتصادي التي شهدتها، وإتمام عمليات الانتقال السياسي، ونجاح التسويات السياسية للصراعات الممتدة، حيث شهدت كل من باكستان وإندونيسيا استقرارًا نسبيًّا مما تسبب في تحسن ترتيبهما بالمؤشر. وشهدت دول يوغوسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك، وصربيا، وكرواتيا، ومقدونيا) عمليات انتقال سياسي ناجحة، ونموًّا اقتصاديًّا ممتدًا تسبب في تعزيز قوة وتماسك هذه الدول، وينطبق الأمر نفسه على الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي. وتسببت نهاية الحرب الأهلية في كولومبيا والاضطرابات السياسية في تايلاند وبنما في استقرار هذه الدول وفق ما عكسته درجات المؤشر. حالة الشرق الأوسط: تقع غالبية دول الشرق الأوسط ضمن فئة الدول الأكثر ضعفًا والأقل استقرارًا في مؤشر الدول الهشة، فباستثناء دول الخليج العربي فإن الإقليم بأكمله يمثل مركزًا جغرافيًّا لانعدام الأمن وعدم الاستقرار في العالم، كما أن التأثيرات الارتدادية لتصدع الدول والصراعات الداخلية الحادة بالإقليم تنتقل بصورة سريعة عبر الأقاليم المجاورة من خلال تدفقات ضخمة للاجئين والهجرة غير الشرعية، وتصاعد غير مسبوق للتهديدات الإرهابية بالدول الأوروبية. وفي هذا الإطار تتمثل أهم الاتجاهات الرئيسية لدول الشرق الأوسط على مؤشر الدول الهشة في عام 2017 فيما يلي: 1- تماسك دول الخليج العربي: تصدرت دولة الإمارات، الدول الأكثر تماسكًا واستقرارًا في منطقة الشرق الأوسط وفق درجات المؤشر، وتلتها في الترتيب دول الخليج العربي مثل عمان والكويت، ويليهم في الترتيب كل من البحرين والسعودية. 2- تراجع محدود للدول المغاربية: تواجه هذه الدول تحديات أمنية واقتصادية متعددة ترتبط بتصاعد حدة التهديدات الإرهابية وتصاعد عمليات التهريب عبر الحدود، كما تسبب الصراع الأهلي في ليبيا في تصاعد درجات التهديد الأمني في هذه الدول، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والضغوط الانفصالية في بعض الدول. 3- انتشار تهديدات الجوار: تواجه دول جوار الصراعات الإرهابية تهديدات متزايدة، وهو ما تسبب في تزايد حالة الضعف التي تواجهها هذه الدول، حيث يُعاني الأردن من ضغوط اللاجئين على الموارد الاقتصادية والخدمات، ويتعرض لبنان لضغوط حادة نتيجة لتدفقات اللاجئين وتهديدات الإرهاب والميليشيات المسلحة والاستقطاب بين النخب على أسس طائفية. وتواجه إيران وتركيا تهديدات إرهابية متزايدة، بالإضافة إلى تداعيات انخراطهما المتزايد في الصراع الأهلي في سوريا، وتزايد النزعات الانفصالية بين الأقليات داخل الدولتين، والتراجع الحاد في الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الدولتين. 4- تفاقم الصراعات الداخلية: تصدرت دول الصراعات الداخلية في منطقة الشرق الأوسط مؤشر الدول الهشة نتيجة للانهيار الكامل الذي أصاب مؤسسات هذه الدول؛ حيث احتلت جنوب السودان المركز الأول في مؤشر الدول الهشة نتيجة لتسبب الصراع الأهلي في مأساة إنسانية غير مسبوقة دوليًّا، والانهيار التام للدولة الناشئة التي لم تتمكن من استكمال أركان تأسيسها. وينطبق الأمر نفسه على الصومال التي شهدت تصدعًا لأركانها مع تصاعد تهديدات "تنظيم الشباب" للأمن والاستقرار، وعودته للسيطرة على مساحات واسعة من أقاليم الدولة. ولا تزال الصراعات الداخلية في اليمن وسوريا والعراق وليبيا غير قابلة للتسوية، وتتداخل في إطارها الصدامات الإثنية والطائفية، وتمدد التنظيمات الإرهابية، وتصاعد النزعات الانفصالية، كما أن توغل حركة طالبان في أفغانستان زاد من حالة الضعف والتفكك التي تعاني منها الدولة الأفغانية. وختامًا، لا يُتوقع أن تتمكن دول الشرق الأوسط من الخروج من دائرة التصدع والانهيار بسبب تعثر جهود تسوية الصراعات الداخلية، وحالة الاستقطاب الداخلي الحاد بين التكوينات الاجتماعية، وتهديدات الإرهاب والتطرف، والتفكك والاهتراء في مؤسسات الدول التي لا تؤدي أيًّا من وظائفها الأساسية بالحد الأدنى من الكفاءة، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد الاتجاهات الانفصالية لدى الأقاليم والإثنيات والطوائف المختلفة. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة