مرة أخرى نجد أنفسنا أمام قرار تعويم سعر صرف الدرهم لم يحظ بنقاش عمومي كاف؛ حيث بقي حبيس اجتماعات منغلقة ومقتصرة على ثلاث مؤسسات فقط هي: صندوق النقد الدولي وبنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية. وإلى حدود الساعة لا نتوفر على أي تقييم لتداعيات هذا القرار على اقتصادنا، كما هو الشأن بالنسبة إلى قرار المغادرة الطوعية على التقاعد سنة 2005 الذي مني بالفشل باعتراف الجميع. ومن حسن الحظ أن المرحلة المقبلة في تحرير سعر الصرف ستقتصر، كما ورد على لسان والي بنك المغرب، على توسيع هامش تغيير السعر وتحديد حد أقصى وحد أدنى للتغير، كما اقترحناه في مقال سابق للجريدة. لكن ما نخشاه هو أن يخطط بنك المغرب بمنطق ما يسمى "تقنية اللص الصيني"، التي تعني سرقة الشيء على فترات وليس مرة واحدة لتفادي إثارة انتباه الناس. فبغض النضر عن هذه الاعتبارات كلها، نؤكد أن موضوع تعويم سعر صرف الدرهم بالضبط لا يقبل بتاتا أي مجازفة؛ بحيث إن أي تسرع في وتيرة التحرير والمرور إلى مراحل متقدمة سيؤدي إلى الاخلال بالعقد الاجتماعي الذي يربط المغاربة بالدولة وإلى مزيد من الاحتجاجات جراء ارتفاع الأسعار وتفشي البطالة والمضاربة على العمولات وارتفاع أسعار الفائدة بسبب خصاص في تمويل الاقتصاد وانعكاساته على الاستثمار الخاص. وضع اجتماعي أظن أننا في غنى عنه، خصوصا في الظروف الحالية. ففي حالة التعويم النهائي وفي حالة انهيار سعر الدرهم وعدم قدرة بلادنا على انقاذ قيمته بتوفير مخزون كاف ومريح، يجب أن يتجاوز 24 شهرا من الواردات بالعملة الصعبة، وفي حالة عدم وفاء صندوق النقد الدولي بالتزاماته تجاه المغرب، فإن اقتصادنا سيتعرض بدون شك لكارثة اقتصادية واجتماعية. آنذاك لن يبقى في المغرب إلا المغاربة. المحور الأول: الأرباح المالية الضخمة التي سيجنيها المضاربون المغاربة أو الاجانب إن لتحرير أو تعويم سعر صرف الدرهم آثارا على المدى القصير جدا يمتد على أسبوع أو اثنين؛ إذ إننا سنلاحظ في الأسبوع الحالي تهافت المضاربين الأغنياء على شراء العملات الأجنبية، خصوصا الدولار واليورو، من الأبناك أو من السوق السوداء مقابل الدرهم، نظرا لتوقعهم المنطقي بانخفاض ولو طفيف من قيمة الدرهم ما بعد عيد الفطر. الأسبوع المقبل سيعاود المضاربون الذين اشتروا العملات الأجنبية بيعها مرة ثانية مقابل الدرهم، مما سيمكنهم من اغتناء بالدراهم في ظرف وجيز وبدون تعب. ولتثبيت الأفكار، فمثلا إذا قدم فرد على شراء اليورو بمبلغ مليوني درهم سيحصل على 183.5 ألف يورو بسعر 10.9 دراهم لكل يورو واحد. وعند انخفاض قيمة الدرهم ب 10 بالمائة، مثلا، سيبيع هذا المبلغ الأخير باليورو مقابل الدرهم بسعر جديد هو 11.99 درهما لكل يورو واحد. هكذا سيحقق الفرد ربحا صافيا مبلغه 200 ألف درهم في أسبوع أو أسبوعين من العمل. فحجم الأرباح سيكون مرتفعا جدا إذا تعلق الأمر بملايير الدراهم المستعملة. فإذا ما تأكد المضارب، أكان مغربيا أو أجنبيا، من انهيار مرتقب في سعر صرف الدرهم، فان فرصة الاغتناء لا تقاوم. للتذكير، فإن هذا النوع من المضاربة في سوق العمولات هو الذي أضر خصوصا بالاقتصاد التايلاندي. فالمضاربة من شأنها تعميق انهيار قيمة الدرهم؛ لأن المضاربين لما يقبلون على شراء اليورو أو الدولار فهم يعرضون الدرهم ويساهمون بهذا الشكل دون الاحساس في انهيار قيمته مرة أخرى. من الرابح إذن؟ إنه الفرد. أما الخاسر فهو الاقتصاد الوطني. إن الذين يدعمون التعويم النهائي هدفهم هو الاغتناء بأي ثمن ضاربين عرض الحائط القواعد الاقتصادية السليمة؛ لأن المضاربة ستكون هي القاعدة مستقبلا أمام عدم قدرة بنك المغرب أو مؤسسات الحكامة على التصدي لها. ولعل خير دليل على ذلك أن بنك المغرب انهزم أمام لوبي الأبناك في تخفيض أسعار الفائدة المرجعية، بينما انهزمت وزارة الحكامة والشؤون العامة في كسر شوكة لوبي موزعي المواد البترولية التي بقيت أثمانها مرتفعة رغم انخفاض أسعار البترول في السوق الدولية. ومن جهة أخرى، فإن احتياطي ستة أشهر من العملة الصعبة كواردات يعتبر عتبة غير مريحة في ظل اقتصاد يعيش فوق طاقته الانتاجية والتمويلية؛ لأن تنافسيته وانتاجيته ضعيفتان. المحور الثاني: تداعيات بالجملة على الاقتصاد الوطني رغم تمكين قرار تعويم سعر الدرهم من استقلالية السياسة النقدية في المغرب، إلا أن هناك حالتين قصويين بشأن تغير قيمة الدرهم إذا حدثتا ستخلقان إشكالا اقتصاديا كبيرا. الحالة الأولى المحتملة جدا هي انهيار قيمة الدرهم بالمقارنة مع اليورو والدولار بشكل متوازن مع محددات اقتصاده كما يترقبه المضاربون حاليا. وفي هذه الحالة تكون الانعكاسات سلبية جدا؛ حيث سترتفع قيمة الدين الخارجي بالعملة الأجنبية وقيمة الواردات بالدرهم. مما سيؤدي إلى تضخم مستورد وغلاء المعيشة من جهة، وسيضعف تنافسية صادراتنا؛ لأنها تستعمل المواد المستوردة كمواد وسيطة، من جهة أخرى، وهو القطاع المعول عليه من أجل جلب العملة الصعبة. وأمام الاستنفاد التدريجي لمخزون العملة الأجنبية الضرورية من أجل دعم قيمة الدرهم، ستتقلص الكتلة النقدية وستنخفض السيولة البنكية وسترتفع أسعار الفائدة وستتقلص القروض البنكية ثم الاستثمارات الخاصة الكفيلة بخلق مناصب الشغل. ففي الاقتصاد، من أجل خلق المقاولات وخلق مناصب شغل جديدة يجب توفر الرأسمال وفكر المبادرة الحرة. لكن في الدول السائرة في طريق النمو، فبدون تعليم جيد لن تتأتى المبادرة الحرة، وبدون القروض البنكية لن يتأتى الرأسمال. وتجدر الاشارة إلى أن سياسات سعر مخفضة لقيمة الدرهم في المغرب لم ولن تكون ناجحة نظرا لضعف مرونة العرض التصديري رغم المخططات الفلاحية والصناعية ورغم تخفيض أثمنة الصادرات؛ لأن شركاءنا لا يستوردون من المغرب إلا كميات محددة سلفا بعض النظر عن تخفيض الأثمنة. الشيء نفسه ينطبق على الواردات التي تصبح باهظة الثمن للكمية المستوردة نفسها، خصوصا المواد الطاقية والتجهيزات الأساسية. لهذا نؤكد على ضرورة توفر مخزون جد مهم من العملة الصعبة، يتحتم حسب تقديرنا أن يتجاوز السنتين من الواردات، متجاوزا العتبة التي حددها صندوق النقد الدولي، من أجل تمكين الفاعلين في السوق من طلب الدراهم وعرض العملات الأجنبية. أما الكارثة العظمى فهي أنه في حالة تعذر دعم قيمة الدرهم في السوق بهذه الطريقة نظرا لنفاد المخزون، ستجد الدولة نفسها مرغمة على طلب اللجوء إلى مخطط الإنقاذ الذي يقترحه صندوق النقد الدولي؛ لأنه مصر على استخلاص ديونه قبل التعافي أو بعد التعافي. للإشارة فقط، وإن كان لزاما على الدول المنخرطة في صندوق النقد الدولي أن تنفذ توصياته بموجب المادة الرابعة، فإن دولا كالولايات المتحدةالامريكية ودولا أخرى متقدمة تتجاهل بتاتا هذه التوصيات. أما في الحالة القصوى الثانية، وهي مستبعدة، والتي تتعلق بالارتفاع في سعر صرف الدرهم الاسمي بشكل كبير من جراء تدفق قوي لاستثمارات خارجية مباشرة أو تحويلات السياحة أو انتعاش غير متوقع في أثمنة الفوسفاط في السوق الدولية أو دخول عائدات مكثفة إثر بيع الفاعلين الخواص للقنب الهندي، ففي هذه الحالة سيسهل على بنك المغرب إنتاج الدرهم، ووضعه عند طلب الأبناك سيمكن من تخفيض قيمته في السوق. ومن جهة أخرى، ومع ازدواجية بنية الاقتصاد المغربي المكونة من قطاعات ريعية وتصديرية، ستتحول هذه الموارد إلى القطاعات الريعية والمحمية التي تنتج السلع غير القابلة للتداول، كقطاع العقار والخدمات، مقارنة مع القطاعات التصديرية، وسترفع من سعر صرف الدرهم الحقيقي. *أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط