إن المتأمل في رياح الربيع العربي وما تم انجازه لحد الساعة يصل إلى خلاصة مفادها أن هذه الأمة تولد من جديد ، بعد عسير مخاض وقد أيقنت أن عقارب الزمن قد توقفت عن الحركة وبدأت في رحلة معاكسة ، رحلة ستشهد كتابة جديدة لتاريخ هذه الأمة المجيدة . إلا أننا اليوم نساءل هذه الثورات ، هل سيكون من قدرها أن تعيد تشكيل ما أسماه المفكر الإسلامي مالك بن نبي في كتاباته بالعوالم الثلاث للأمة وهي عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء . بالعودة الى الدكتور جاسم سلطان في مشروعه النهضوي يتحدث عن أسباب الإنحطاط الحضاري للأمة ويجملها في تلاشي البنية التركيبية لهذه العوالم بمعنى فقدان الأمة لمقومات الفعل الحضاري . فهل يمكن أن نشهد بعثا جديدا لهذه العوالم بدءا بعالم الأفكار ومؤداه أن تسهم هذه الثورات وما سيعقبها في إعادة بناء المنظومة القيمية والفكرية والمعرفية التي تشكل عقلية الشخصية المسلمة ، ثم عالم الأشخاص بما هو نسق من العلاقات الاجتماعية التي تربط بين أفراد المجتمع وتقوي أواصر الوحدة بين أبناءه ، انتهاء بعالم الأشياء الذي هو دائرة الفعل الحضاري الحقيقية التي تجسد مرحلة الرشد في دورة حياة الأمة . صحيح أن آليات الانتاج الحضاري قد اعتراها الضعف إن لم نقل أصيبت بالتصدع ، إلا أننا بالنظر إلى اللحظة التاريخية الراهنة التي تعيشها الأمة نستطيع أن نجزم أنها تعيش ما أسماه أرنولد توينبي بالوسيلة الذهبية في تحقيق نهضة الأمم ، والتي يعرفها بأنها سلسلة الاستجابات الناجحة وشبه الناجحة في مواجهة التحديات التي تعترض طريق النهضة والحضارة .هذه الوسيلة بما هي إفراز لهذه الثورات المباركة سيكون لها كبير الأثر في البناء المستقبلي لنهضة الشعوب . المسألة الآن هي كيف يمكن أن نحافظ على هذه التجربة التاريخية كرصيد حقيقي لأبناء هذه الأمة من أجل تحقيق طفرة نوعية على مستوى العوالم المؤطرة للحياة . أظن أن هذه المهمة ليست بالصعبة بالنظر إلى قوة الفعل التاريخي الذي أحدثته هذه الثورات في المنطقة العربية والذي أبان على أن هذه الأمة مهما ضعفت عن القيام بدورها الشهودي على العالم ، فإنها تمتلك مقومات النهوض بداخلها . صحيح أن سطوة السلطان قد حرمتها من لعب هذا الدور لعقود خلت ، إلا أن هذا لا يعفيها اليوم من مسؤوليتها الدينية والتاريخية في النهوض من جديد وتحقيق الشهود الحضاري على الإنسانية ، امتثالا لقول الحق جل وعلا " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . هذا الجعل الوسط من الله عزوجل الذي هو بمثابة الضامن لتحقيق هذا الشهود ، ينبغي أن نفهمه ونعي معناه جيدا ونحن نعيش لحظة الصحوة من جديد ، بل ينبغي أن نمارسه سلوكا حضاريا اليوم أكثر من أي وقت مضى . إننا ونحن نعاين فصول هذا الربيع الأخاذ ، يتملكنا إحساس عظيم بقيمة الإنتماء ، ومعنى أن يكون الإنسان عربيا . نعم ينبغي لكل عربي أن يفخر بإنتمائه لهذه الأمة العظيمة ، صحيح أننا عشنا زمانا من الذل اوالهوان و عقودا من الظلمة والاستبداد غابت فيها الأمة الخيرية عن ساحة الفعل الحضاري ، لكن إرهاصات الواقع الحالي تبشر بغد مشرق لهذه الأمة نتمنى أن لا نرحل عن هذه الدنيا حتى نعيش أبهى لحظاته .