في زمن "الأنترنيت"، والأطباق الهوائية اللاقطة، و" التاتش"، لم يعد الناس بحاجة إلى" المسحراتي " كما يسمونه في مصر خلال شهر رمضان لإيقاظهم وقت السحور، فالناس لم تعد تنام لكي تصحو، ولم تعد تنسى لكي تبحث عمن يذكرها بحلول وقت السحور. اختفى "المسحراتي" بطبلته الشهيرة وأغانيه الجميلة من شوارع القاهرة بضجرها الليلي خلال رمضان، وحل محله "مسحراتي" إلكتروني صيني أو ياباني صوته نشازا وألحانه صاخبة كموسيقى الجاز، أو الهاتف المحمول برناته الموسيقية وبالأذان الذي يصدر عنه في التوقيت المبرمج. لكن رغم ذلك لا تزال لحكاية "المسحراتي" بقية في الأحياء الشعبية في مصر، حيث ليالي شهر رمضان لها طعمها الخاص. " المسحراتي" في مصر، أو "الطبال " كما يسمى في المغرب، هو شخصية أقرب إلى فنان يؤدي دوره لمدة 30 ليلة من ليالي رمضان من كل عام، أدواته في ذلك طبلة وعصا وصوت جهوري ينادي ويتغنى لإيقاظ الناس في موعد تناول السحور. ومهنة "المسحراتي" التي ربما لاتعرفها الأجيال الجديدة، مهنة محببة ارتبطت بوجدان الإنسان العربي المسلم بكلماتها وأناشيدها وطقوسها البسيطة، حفرت في جدار ذكرياته منذ نعومة أظافره، ولذلك استطاعت حتى الآن أن تصمد أمام التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة التي تتهددها بالانقراض. وتذكر كتابات تاريخية أن تاريخ مهنة "المسحراتي" بمصر التي انتشرت منها إلى باقي الولايات الإسلامية إبان ظهورها، يعود إلى عصر الدولة العباسية، عندما لاحظ الوالي عتبة ابن إسحاق (القرن الهجري الثالث) أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولايوجد من يقوم بمهمة إيقاظهم أنذاك، فتطوع لها هو بنفسه، حيث كان يطوف شوارع القاهرة مشيا على الأقدام، مناديا : " عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة ". وفي عصر الدولة الفاطمية (969/1171 م) أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرا لجنوده بأن يطرقوا أبواب البيوت وقت السحور لإيقاظ الناس، قبل أن يتم بعد ذلك تكليف شخص معين للقيام بمهمة "المسحراتي" يدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها في يده. وتطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر، حيث ابتكروا طبلة صغيرة الحجم كانت تسمى "بازة" يحملها "المسحراتي" ليدق عليها بدلا من استخدام العصا وطرق أبواب البيوت، ثم صار المسحراتي بعد ذلك يستعين بطبل كبير يدق عليه أثناء تجواله في الأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة. وتطور الأمر بعد ذلك، وصار عدة أشخاص بقيادة "المسحراتي" طبعا، يطوفون الأحياء والشوارع والدروب والأزقة وقت السحور، ومعهم طبل بلدي ودفوف، ويقومون بأداء أغاني خفيفة كان المسحراتي يشارك الشعراء في تأليفها. وبالنظر لما ل"المسحراتي" من طقوس في مصر، ولما يقوله من أشعار وأنشاد، فهو شخصية محببة للأطفال الصغار قبل الكبار، وارتبط به "فانوس رمضان"، حيث يحمل الأطفال "فوانيس" ويتحلقون حوله في تجواله أثناء الليل وهم يرددون على أنغام طبلته أغنية "حالو يا حالو، رمضان كريم ياحالو ". وأبت مهنة "المسحراتي" إلا أن تصمد أمام دخول الكهرباء والتكنولوجيا والإلكترونيات إلى مصر والتوسع في استعمالها، وبعد أن أخذ الناس يسهرون ليالي رمضان في البيوت والمقاهي أمام التلفاز، فاستمر "المسحراتي" مواصلا حضوره ماشيا وسط البنايات الشاهقة وضوضاء مدينة القاهرة وزحامها. أما المقابل الذي يناله "المسحراتي" عن عمله التطوعي هذا، فيكون صباح يوم عيد الفطر، حيث يحرص على المرور على كل بيوت المنطقة التي يشتغل فيها لتهنئة السكان بالعيد وجمع "العيدية" التي تتمثل في بعض الأطعمة والحلويات الخاصة بالاحتفال بحلول عيد الفطر، فيما تقدم له الأسر الميسورة بعض اللحوم والألبسة الجديدة علاوة على بعض النقود. وأخذت ظاهر "المسحراتي" في التراجع خلال السنوات الأخيرة بسبب انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة التي يعمد إليها الإنسان من أجل الاستيقاظ وقت السحور دون الحاجة إلى تذكير، فضلا عن التغير الذي تعرفه العادات والتقاليد التي أصبح جلها تراثيا بالنسبة للكثيرين الذين أخذوا يستعملون الوسائل الحديثة كالمنبه الصوتي والهاتف المحمول، ويسهرون حتى الفجر في مشاهدة البرامج والمسلسلات التلفزيونية أو السهرات المتنوعة. وقد جذبت فكرة "المسحراتي" التي هي في طريقها إلى أن تتحول إلى مايشبه التراث أو الفلكلور الشعبي، عددا من الفنانين والشعراء أمثال بيرم التونسي، وفؤاد حداد، وسيد مكاوي، الذين نقلوا "المسحراتي" من الشارع إلى شاشة التلفزيون وميكروفون الإذاعة ليستخدموا أحدث تقنيات الاتصال في تسحير الناس. *و.م.ع