قراءة الخطاب وكشف الأعطاب شاهدتُ، مثل العديد من المغاربة المتابعين للتطورات التي تشهدها قضية حراك الريف، مقطع الفيديو الأخير لناصر الزفزافي، الذي تبلغ مدته تسعاً وثلاثين دقيقة، خصَّصها للرد على الذين انتقدوا عدم رفع المسيرة الاحتجاجية للعلم الوطني المغربي في الوقت الذي رفرفت أعلام أخرى لها علاقة بالنزعة القبلية إن لم نقل الانفصالية، كما خصّص جزءا كبيرا من هذه الدقائق التسعة والثلاثين لتبيان موقفه من زيارة الوفد الوزاري للحسيمة، مباشرة بعد مسيرة الخميس 18 مايو 2017، بتكليف من الملك محمد السادس. لقد تبيَّن، على طول شريط الفيديو هذا، أن الزفزافي صار في موقع ردة الفعل لا الفعل، ردة الفعل المبنية على الانفعال الذي ينتج عنه فقدان الاتزان والقدرة على ترتيب الأفكار وإيصالها إلى المشاهد وإقناعه بها. الشئ الذي ولَّد انطباعاً تلقائياً لدى المشاهد، مفاده أن الزفزافي يتحدث بدافع شعوره بسحب البساط من تحته. كيف ذلك؟ لقد أعلن الزفزافي خلال كلمته في المسيرة الاحتجاجية عن استعداد الحراك للحوار حول الملف الحقوقي (الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي)، شريطة إطلاق سراح المعتقلين على خلفية أحداث العنف التي شهدتها مدينة إمزورن القريبة من الحسيمة. وهو إعلان صريح كان يتوخى منه الزفزافي البعث برسالة مباشرة إلى الدولة، مفادها أنه المخاطب الوحيد للريف، باعتباره القائد "الصنديد" لحراك الريف "الشامخ، الصامد، العظيم، المقدس" وخليفة "الصنديد مولاي محند بن عبد الكريم الخطابي، رضي الله عنه وأرضاه". فكان ينتظر أن يدعوه الوفد الوزاري للجلوس على طاولة الحوار بالحسيمة بغية مناقشة ملفه الحقوقي. إلا أن الوفد ارتأى أن يتعاطى مع الوضع وفق ما تمليه مبادئ دولة المؤسسات، إذ عقد العديد من الاجتماعات مع المنتخبين المحليين الذين لا يعترف بهم الزفزافي والجمعيات وفعاليات المتجمع المدني التي وصفها في شريطه بالجمعيات المرفوضة والارتزاقية، بل عمد إلى التلويح بورقة دار العجزة بالحسيمة، من خلال حديثه عن حالات غتصاب وقعت بهذه الدار. ممَّا يؤكد أن الرجل الذي يرفض اتهامه بالتخوين والعمالة والنزعة الانفصالية هو نفسه الرجل الذي يخوّن كل من يخالفه ويعارضه، وهو نفسه الرجل الذي ينعث أعضاءً من الحكومة المنتخبة بالعصابة والبلطجية والفاسدين، فقط لأنهم رفضوا الجلوس إليه والاعتراف بكونه المخاطب الوحيد الأوحد للريف الذي يدعي خروجه لمناهضة الدكتاتورية والاستبداد والقمع. وهي محاولة واضحة من الزفزافي لتسفيه كل المخاطبين الرسميين الذين جالسوا الوفد الوزاري ونقلوا إليه مطالب مغاربة الريف. بل إن القائد الوحيد الأوحد للحراك سفَّه كل أعضاء الوفد الحكومي واصفاً إياه بالعصابة والبلطجية ومتهماً له برفع تقارير مغلوطة مكذوبة إلى أنظار الملك؛ قبل أن يخلص إلى القول بغياب الملك عن المشهد تماماً. فما الذي يعنيه الزفزافي بغياب الملك عن المشهد؟ يبدو واضحاً أن الرجل تستهويه لعبة خلط الأوراق، حتى يظل الوضع في دائرة الصفر ولا يتعداها، كما يبدو أن الرجل يعتمد سياسة الرفع التدريجي للسقف. وقد بدا ذلك واضحاً حين أعلن إضافة مطلب إسقاط الحكومة إلى مطلبه الحقوقي. إن القول بغياب الملك عن المشهد يندرج في سياق سياسة رفع السقف المعتمدة من لدن الزفزافي الذي يعلن بذلك تجاوزه للحكومة ورغبته في أن يتولى الملك شخصياً ملف الريف؛ مع أنه يعلم ونعلم أن الهدف السياسي بعيد جداًّ عن هذه الرغبة المبيتة. لقد سفَّه الزفزافي والي جهة تطوان – طنجة – الحسيمة الممثل الرسمي للملك بالجهة طبقا للدستور، وسفّه المنتخبين المحليين محلياً، إقليمياً وجهوياً، واتهمهم بالفساد والخيانة، وسفَّه الزفزافي أعضاء الوفد الحكومي والحكومة كاملة، غير أن مسلسل التسفيه هذا لن يكتمل في نظره إلا بتسفيه الملك شخصياً. هذا ما يسعى إليه الزفزافي ويلهث خلفه، وهو الذي أعطى إشاراته الواضحة عبر شريط الفيديو حين قال: "يجب على الملك أن يتفهم شيئاً، ونحن واضحون وضوح الشمس في النهار، نحن لا نتملق إلى أحدٍ، ولا نخشى أحداً، كلنا سواسية، كلنا بشر، لا نخاف إلا الله. إذن فالملك يتحمل مسؤوليته، غيابه يتحمل في مسؤوليته ..." فهل يدرك الزفزافي ما الذي يعنيه تسفيه الملك؟ أجل، إنه يدرك تمام الإدراك أن توريط الملك في القضية سيعطيه الحجة والذريعة على الكفر بجميع مؤسسات الدولة الدستورية، حتى المؤسسة الملكية. ويدرك أن توريط الملك في القضية سيعطيه المبررات السياسية غير الدستورية للنيل من شخص الملك، ويدرك تمام الإدراك أن بلوغ خطابه لهذا المستوى من النقاش ستكون له ردة فعل حازمة وصارمة من طرف الدولة وكامل الشعب المتشبث بوطنه وملكه، مادام دستور المملكة ينص في فصله الثاني والأربعين على أن ((الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة)) ما الذي على الدولة فعله تجاه هذا الوضع، إذن؟ على الدولة أن تنتقل من طبيعتها الرخوة إلى طبيعة الدولة المدنية المبنية على مبدأ الحق والواجب، وأن تتعامل بما يليق من الصرامة والحزم تجاه ما يجري وسيجري وفقا للدستور والقانون. ولا أريد لهذا الكلام أن يؤول أو يفسر على أنه دعوة صريحة للدولة إلى اعتماد منهجية القمع والاعتقال التعسفي والاختطاف والاغتيال السياسي. على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية كاملة، وأن تتعامل بالحزم والصرامة اللازمين في مواجهة كل تجاوز أو تخطٍّ للقوانين؛ لأن حالة الرخو والترهُّل هذه ستفسّر لصالح المتجاوزين وستفتح الطريق أمام الطامحين إلى النيل منها ومن مؤسساتها الدستورية. نحن مع الحق في الاحتجاج السلمي، ومع حرية الرأي والتفكير، ومع الاختلاف وفقا لأسسه ومبادئه الكونية. نحن مع المطالب المشروعة لمغاربة الريف وغير الريف. لكن هذه المطالب يلزمها خارطة زمنية لأجل أن تتحقق على أرض الواقع. من العته والجنون أن يطالب الزفزافي بجامعة للتعليم العالي، لتنبت من تحت الأرض صباح اليوم الموالي. من العته والجنون أن يطالب الزفزافي بمستشفى جامعي، ليخرج من قمقم الأرض في اليوم الموالي. نتفق جميعا على أن الفساد ينخر أجهزة الدولة، وهذا باعتراف أعلى سلطة بالبلاد، وباعتراف رئيس الحكومة الحالي والسابق، وباعتراف المجلس الأعلى للقضاء الذي يمارس سلطة الافتحاص والرقابة على المال العام. نتفق جميعا على أن التهميش الذي يطال منطقة الريف، هو نفس التهميش الذي يطال أجزاء عدَّة من مناطق الشرق والشمال والوسط والجنوب المغربي. لكننا لا يمكن أن نختلف حول ما يبذله الملك من جهد كبير، بغية تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية قوامها العنصر البشري المغربي واستدعاء الاستثمار الأجنبي وفتح أسواق جديدة للصادرات المغربية بالصين، روسيا وأفريقيا. نطمح اليوم نحن المغاربة إلى دولة مواطِنة وإنسان مواطن، يؤمنان بالحق ويقدسان الواجب. هذا هو مفهوم المواطنة الصحيح الذي أخطأ الزفزافي فهمه فخلطه بمفهوم الوطنية، حين قال أن "الوطنية تتجلى في أن يحصل كل واحد على حقه"، الوطنية التي لا يمكن اختزالها في العلم الوطني وحده، بل تتعداه إلى الاستعداد المطلق للمواطن للدفاع عن وطنه والتضحية من أجله، واستعداده المطلق لأن يُذوّب الانتماء القبلي والعرقي والمذهبي في معين الوطن. هل من أحد يجرأ على نعثني بالخائنة وعميلة المخزن؟ أجل، هناك من سينعثني بمثل هكذا أوصاف، وكأنها سُبَّةٌ في حقي وفي حق كل من يعانقني الفكرة، هناك من يؤمن بنظرية معي أو ضدي التي أرسى دعائمها بوش الإبن حين خرج يحارب وهم القاعدة بأفغانستان وشبح أسلحة الدمار الشامل بالعراق. أجل أنا خائنة، إن كانت الخيانة هي التوق لوطن واحد موحد يؤمن بالإنسان وحده لا شريك له، وطن يتسع للجميع مهما اختلفت انتماءاتهم العرقية والقبلية والمذهبية، وطن مبني على التنوع والاختلاف، وطنٌ يحتاج إلى مواطن حقيقي لا يؤمن بغير الحق ولا يقدّس غير الواجب. أجل أنا عميلة، إذا كانت العمالة هي الحرص الصادق على صون وحدة المغرب والاستعداد المطلق للدفاع عنه، والتصدي لكل محاولات الزج به في مستنقع من الدماء، كما يحلو للزفزافي أن يردد دائما في أحاديثه اليوتيوبية مهدداً متوعداً ملوحاً بورقة الفتنة إن لم تُنصِّبه الدولة أميراً للريف "الشامخ الصامد العظيم المقدّس" خلفاً ل"لصنديد المجاهد مولاي محند بن عبد الكريم الخطابي رضي الله عنه وأرضاه". *كاتبة مغربية مقيمة في مرسيليا