الورقة الأولى تحدثت بعض المنابر الصحافية عن قيام رجال الأمن بمنع تظاهرة تضامنية مع الحراك في الريف، وذلك في مدينة فاس، دعت إليها مجموعة من الهيآت السياسية والنقابية والمدنية المحلية؛ غير أن الأخبار من عين المكان أشارت إلى أن مجموعة أخرى من المواطنين شاركوا في منع هذه التظاهرة السلمية، وتحولوا بدورهم إلى "قوات أمنية خاصة"، لا ندري من كلفها بمهمة الحفاظ على الأمن العام، وهذا خطير جدا في دولة المؤسسات الدستورية. هنا لا علينا سوى طرح الأسئلة الاستنكارية الآتية: 1-هل هؤلاء المواطنون جزء من الدولة أو جزء من القوات العمومية، حتى يفوضوا لأنفسهم حق منع مواطنين آخرين مثلهم من ممارسة حق دستوري هو حرية التظاهر السلمي؟ لنفترض جدلا أنهم غير موافقين على الأسباب التي دعت هؤلاء إلى التظاهر، فهل بهذه الطريقة الهمجية العنيفة نمارس معارضة الأفكار التي لا نقبلها؟ لقد كان بإمكانهم وهذا حقهم، التعبير عن آرائهم بصفة متحضرة من خلال التمتع بحقهم الدستوري الخاص؟ ألم يكن على رجال الأمن اعتقالهم وتقديمهم إلى النيابة العامة لتقول كلمتها؟ 2-أليس على الدولة أن تحاسب هؤلاء لأنهم أولا يغتصبون حقوق غيرهم من المواطنين، ولأنهم ثانيا ينتحلون صفة مهنية بغير وجه حق. وهذا الانتحال يعاقب عليه القانون لأنه خطير جدا على الحقل الاجتماعي ويسهم في إذكاء كل أسباب التوتر والضغينة بين مواطنين ينتمون إلى الوطن نفسه، لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها؟ 3-هل لكم أن تتخيلوا معي أن مجموعة اجتماعية، كبيرة أو صغيرة، من المواطنين الفرنسيين على سبيل المثال لا الحصر (لكم أن تختاروا الجنسية التي تريدون في الدول الديمقراطية)، خرجوا للتظاهر في الشارع العام من أجل مطالب معينة كيفما كان نوعها، لنرى مجموعة أخرى من المواطنين يهاجمونهم ويعتدون على حقوقهم، فقط لأنهم لا يتقاسمون معهم هذه المطالب؟ هنا يكمن الفرق بالضبط بين مجتمع ديمقراطي وآخر غير ديمقراطي. هو الفرق نفسه بين مجتمع حديث/ حداثي/ عصري (لنسمه ما شئنا)، ومجتمع آخر تقليدي/ تقليداني، بعيد جدا عن ثقافة الحقوق والواجبات وكل القيم الكونية الجميلة للثقافة السياسية الحديثة. حين كنت أناقش، في مناسبات ماضية، مفهوم التغيير خاصة في مجتمع تقليدي كالمجتمع المغربي، كنت أقول دائما إن علينا في إطار البحث في ديناميكية التغيير في مجتمع معين، بمعنى أثناء تحليل عوامل وموانع وفرامل التغيير، أن لا نتوقف، لكي نفهم ما يجري، عند جدلية النزاع المفترض بين الدولة وبين المجتمع بشكل حصري؛ بل علينا أن نستحضر سيرورة النزاع بين المجتمع وبين المجتمع إن صح التعبير، بمعنى أن نكشف عن السيرورات التي تكون فيها أطراف معينة في قلب الحقل الاجتماعي، مناهضة للتغيير، إن لم تتحول إلى حصار حقيقي في وجهه. أليس هذا بالضبط ما يحدث اليوم في المغرب ونحن في قلب الحراك الاجتماعي المشتعل حاليا؟ أليس هذا بالذات ما جعل مجموعة من المواطنين تسمح لنفسها بتخوين مجموعة أخرى تنتمي إلى مجموعات اجتماعية أخرى؟ ألم يعد الوطن والوطنية صكوك اتهامات واتهامات مضادة بين مواطنين مغاربة منتمين اليه بالدرجة نفسها؟ الورقة الثانية اطلعنا، في الأيام الأخيرة في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، على مجموعة من البيانات والرسائل والعرائض التي بادر إلى تحريرها وتوقيعها مجموعة من الفعاليات والشخصيات والمثقفين. كثير من هذه الوثائق، مع ما تضمنته من مواقف واضحة أو مضمرة، كتبت في صيغة رسائل موجهة إلى الملك قصد التدخل بشكل مباشر من أجل وقف نزيف الحراك في الريف.. وقد امتد إلى مدن ومناطق أخرى.. وانطلاقا من افتراضنا الصادق لحسن النوايا والغايات التي كانت وراء هذا النوع من الرسائل، وأنا أحترم عددا كبيرا من الموقعين والمساهمين في نشر هذه الوثائق، أرى نفسي مضطرا لطرح الأسئلة الآتية: 1-هل تعطلت المؤسسات الدستورية إلى هذه الدرجة حتى يضطر هؤلاء إلى القيام مقامها، وبالتالي الدعوة الى تدخل الملك وتحكيم صوت العقل؟ 2- إن افتراض تعطل هذه المؤسسات لا يمكن أن يعني سوى أن هناك كارثة سياسية في البلد. فمثل هذا الشلل المؤسساتي لا يقع إلا في البلدان التي تكون تحت حالة الطوارئ. وبلادنا والحمد لله، تعيش في استقرار كامل. 3-إذا كانت هذه المؤسسات معطلة فعلا أو مشلولة أو عاجزة، فالأمانة تقتضي من هؤلاء أن يقولوا للملك أيضا في رسائلهم موقفهم من هذا التعطل، وأن الحكومة ربما نفسها تشكو من قلة الصلاحيات والاختصاصات التي تسمح لها بالتدخل الإيجابي. والواجب الأخلاقي يقتضي منهم أن يقولوا للملك، إما أن هذه المؤسسات الدستورية كالحكومة والبرلمان بمجلسيه لم تقم بواجباتها وممارسة اختصاصاتها وصلاحياتها، أو أنها لا تتوفر أصلا على الاختصاصات التي تخول لها التفاعل مع الحراك بشكل ديناميكي وفعال، على أساس أن هذه الاختصاصات توجد بيد الملك بشكل حصري. وهنا، قد نكون أمام خلل دستوري حقيقي، يختصره السؤال التالي: هل لدينا فصلا دقيقا للسلطات؟ هل لدينا توزيعا عادلا لها؟ وهل دستور 2011 فعلا يستجيب لمقتضيات الدولة العصرية ولطموحات الشعب المغربي؟ 4- إن المطالبة بتدخل الملك يسير على النقيض تماما من مشروع بناء المؤسسات وبناء الدولة الديمقراطية العصرية. وهذا بالرغم من حسن النوايا التي تقف وراء مثل هذه الدعوات؛ فبين الملك كرئيس للدولة والشعب، يلزم أن تكون هناك مؤسسات لا أشخاص بأعينهم، كيفما كانت مراتبهم ومشروعيتهم السياسية والنضالية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فهل تعتقدون أن الملك يحتاج إلى من يذكره بصلاحياته وسلطاته؟ إن هذا النوع من الدعوات، في تقديري الشخصي، يسهم في إحياء وتأبيد عرف مخزني تقليداني في الحكم، وهو لا يتناسب إطلاقا مع دولة المؤسسات التي نطمح إليها اليوم؛ بل إن هذا النوع من الدعوات قد يكرس، بطريقة أو أخرى، سلوكيات سياسية من الأجدر أن نتخلص منها اليوم.. في الدولة الديمقراطية، لا يحق على الإطلاق أن يقوم أشخاص كيفما كان مقامهم الاعتباري بدور الوسيط والوساطة والحلول محل المؤسسات؛ ولكن يحق لهم التعبير عن آرائهم بشكل علني وواسع النطاق، إما بصفة فردية كأشخاص مستقلين ومواطنين، أو بصفة مؤسساتية كأن يكونوا منتمين إلى أحزاب أو مؤسسات علمية أو ثقافية أو اقتصادية.. هنا أرى شخصيا أن هذه الشخصيات والفعاليات المحترمة كانت ستقدم خدمات جليلة لوطنها لو تكلمت بهذه الصفة المشار إليها، عوض التوقيع على رسائل أو عرائض تطالب بالتدخل الملكي.. أيها السادة، أيتها السيدات، ... مع احترامي الصادق لنبل مقاصدكم وصفاء سريرتكم، أرى أنه كان عليكم التعبير عن مواقفكم وتقديراتكم للأوضاع بشجاعة وبشكل أكثر حرية وأكثر صراحة، وفي استقلال فكري كامل، لتسهموا إيجابيا في النقاش العمومي الجاري، عوض الاحتماء بالرسائل الموجهة إلى الملك.... الورقة الثالثة يعيب الكثيرون على القيادة الميدانية لنشطاء الحراك في الريف ارتكاب مجموعة من الأخطاء والانزلاقات في الأقوال والأفعال. وأنا شخصيا لدي بعض الانتقادات في هذا الإطار، بالرغم من أنني أفهم الأسباب وصفاء النوايا. نعم هذا صحيح .هناك مجموعة من الأخطاء الميدانية وقعت في غمرة الفوران والانفعال الجماهيري الشعبي. وهذا أمر طبيعي جدا في مثل هذه الأوضاع المتوترة ذات الاحتقان العالي. وهي أمر مفهوم حين تكون المسيرات الجماهيرية بتنظيم عفوي إلى أبعد حد.. لكن لماذا لا تعترف الدولة بدورها بأخطائها واستسلامها للعقل الأمني المحض؟ لماذا لا تحاسب الدولة المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن خطبة الجمعة 24 ماي الماضي، وهي رسالة تحريضية على تقسيم المواطنين إلى معسكرين متناحرين؟ هل وزارة الأوقاف ووزير الأوقاف محصنون من المحاسبة والمساءلة إلى هذه الدرجة؟ لقد كانت القيادة الميدانية وهي لا تملك أي خبرة تنظيمية ضحية غياب تام للمؤسسات الموكول إليها مهمة تأطير المواطنين. والدولة تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية في هذا الغياب التام للأحزاب والنقابات وغيرها عن الحقل الاجتماعي. فلا أحد يمكنه أن ينكر بصمة الدولة على محيا الحقل السياسي المغربي الهجين، وعلى محيا الأحزاب وهي لا تستطيع حتى تحرير موقف مستقل وحر.. أليست الأحزاب، باستقالاتها من مهامها، مسؤولة عن هذا الغليان الشعبي في الشارع العام؟ عطالة الأحزاب ستؤدي لا محالة إلى تصاعد حدة الحركات الاحتجاجية في المغرب، وهي مؤشر سوسيوسياسي سيئ بالنسبة إلى استقرار بلدنا.... سبق لي أن قلت، في مناسبة ماضية، إن ضعف الأحزاب في المغرب يسهم في ضعف الدولة وها نحن نرى ما يجري اليوم.. غير أنني، مع الأسف الشديد، لا أرى أحدا في الدولة على الإطلاق مكترثا لخطورة هذا الفراغ الدستوري في علاقة الأحزاب المغربية بمجتمعاتها.... وهو أيضا مؤشر سيئ بالنسبة إلينا نحن الذين نطمح إلى بناء الدولة العصرية... وبعد، فالريف جرح غائر في هذا الجسد المغربي المنهك. إانه من تلك الجروح التي يسميها مؤرخ مغربي (محمد كنبيب) "حروق التاريخ التي لا تندمل".. وهذه الحروق لا تندمل، في تقديري الشخصي، إلا بنجاح تام لمسلسل المصالحة والعدالة الانتقالية. إن الحراك في الريف دليل قاطع على عدم تحقيق هذا المسلسل النبيل والرائد، لكل أهدافه الحقوقية والسياسية الجريئة، وهذه الأهداف تمثل شرطا جوهريا للتنمية وشرط بناء الدولة العصرية. حين ترون مجتمعا يعيش حاضرا مسكونا بنزاعات الماضي ومثقلا بأوجاعه ومطحونا بتوتراته، وبعبارة أخرى، حين ترون متاعب الماضي ما زالت تجثم على كتف الحاضر، فلكم أن تتحققوا أن الطريق نحو الديمقراطية والتنمية ما زال بعيدا. وحين نتأمل الاتهامات الثقيلة التي تناقلت الصحافة بأنها وجهت إلى المعتقلين من نشطاء وناشطات الحراك، فلا يمكننا إلا أن نستنكرها ونتشاءم حول مستقبلنا المنشود، وبالتالي قدرتنا على التخلص من أوجاع الماضي وطي صفحته بشكل كامل ونهائي.. فالحراك كان سلميا ومتحضرا منذ بدايته إلى اليوم والمطالب كلها تدخل في نطاق المطالبة المشروعة بالتنمية والكرامة والتحضر ورفع التهميش التاريخي عن المنطقة المتضررة.. إن الفكاك من الماضي هو الخطوة الحاسمة للدفع بنا نحو المستقبل..بل إنه الشرط الوجودي من أجل الإقرار الكامل بسيادة الذات على الزمن.. وبالتالي ميلاد الإنسان المغربي الحر الذي يستحق فعلا انتماءه إلى وطنه وعصره.