تمر اليوم سنة كاملة على اندلاع الشرارة الأولى للاحتجاجات التي اجتاحت منطقة الريف بالمغرب؛ ففي 28 أكتوبر من 2016، لقي سماك الحسيمة محسن فكري حتفه داخل شاحنة للنفايات، وكان بذلك النقطة التي أفاضت الكأس في منطقة اجتمعت فيها كل العوامل لحراك تحول إلى زلزال تحت مسرح السياسة وتسبب في إعفاء وزراء ومسؤولين كبار من قبل الملك محمد السادس مطلع الأسبوع الجاري. لم يعرف المغرب مثل هذا الحراك في العقد الأخير. فاستثناء تظاهرات 20 فبراير سنة 2011 التي خفت ضوؤها بسرعة، فإن حراك الريف دخل سجل المحطات الحاسمة في تاريخ المغرب باحتجاجات حاشدة تجاوزت الأحزاب إلى "محاكمة" سياسات الدولة. وطيلة ثمانية أشهر، كانت مناطق الريف تعرف احتجاجات عارمة، وكانت الحسيمة عاصمة "الحراك" الذي قاده شباب غير منتمين سياسياً وأغلبهم عاطل عن العمل، نالوا تعاطف المغاربة ومتابعة غير مسبوقة من طرف الإعلام الدولي، لكن تعرضوا في الأخير لمتابعات جرتهم إلى سجن عكاشة بالدار البيضاء. في الحوار التالي، يرجع بنا ابن منطقة الريف، قيس مرزوق الورياشي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ظهر المهراز بفاس، إلى المسار الذي عرفه حراك الريف منذ أكتوبر الماضي، ومآله وأسباب خفوت الاحتجاجات، إضافة إلى ما حققه من مكاسب رمزية جعلت الأرض تتزلزل أكثر من مرة تحت أقدام "الدكاكين السياسية" كما سماها قائد الحراك ناصر الزفزافي. كيف ترون مسار ملف الريف بعد مرور سنة على اندلاع التظاهرة الأولى عقب مقتل محسن فكري في أكتوبر الماضي؟ أحداث الريف التي امتدت على مدار سنة (أكتوبر 2016-أكتوبر 2017) هي ترجمة لاستياء عام، وما مقتل محسن فكري إلا النقطة التي أفاضت الكأس. ويرجع سبب هذا الاستياء العام إلى عوامل جد معقدة، لكن يبقى أهمها هو الشعور الجماعي بالحيف والتهميش، خصوصاً عند فئة الشباب؛ إذ بعد أن سدت أوروبا أبوابها أمام شباب الريف، لم يبق لهؤلاء أي بديل. لا يتعلق الأمر هنا بمعاناة الشباب من جراء تفشي البطالة فقط، بل بالشعور بالضياع وعدم الاطمئنان لوجود انفراج في الأفق القريب أو المتوسط. أحداث الريف، التي أخذت شكل حركة اجتماعية أصبحت معروفة ب"حراك الريف"، هي أحداث مرتبطة بحركة مطلبية قادها بحماس منقطع النظير شباب متضرر من تعثر سياسات عمومية وسلوك مسؤولين لا يعرفون معنى الإنصات. وأمام تصلب مفاصل الإدارة وعجز السياسات العمومية على استيعاب الشباب وعلى فهم وتفهم انتظارات غالبية المواطنين والمواطنات من جهة، وأمام عجز مختلف التنظيمات السياسية والنقابية على التعبير المباشر عن هذه الانتظارات، قرر شباب الريف، بصفة جماعية وإجماعية، رفع صوتهم عالياً، عله يسمع في الدوائر التي تملك زمام سلطة القرار. حراك الريف هو عنوان أزمة وعنوان فشل. إنه يترجم إلى حد بعيد شرخاً قائماً بين الدولة والمجتمع. هذا الشرخ، عوض تداركه وتقليصه، يزداد فجوة. التنظيمات الحزبية والنقابية عاجزة عن تأطير المواطنين وتنظيمهم والدفاع عن مصالحهم وطموحاتهم، والدولة لا تشتغل إلا حسب مبدأ "الأدنى الممكن" في الملف الاجتماعي ومبدأ "الأقصى الممكن" في الملف الأمني، ناسيةً أو متناسيةً أن الأمن المستديم يمر عبر معالجة الملف الاجتماعي وتحقيق كرامة ورفاهية المواطنين. خروج المواطنين والمواطنات بنظام وانتظام، وبالزخم الكبير الذي شاهدناه لما يقارب ثمانية أشهر، وبطول نفس وإرادة نادرة وإبداعية مبهرة في الأساليب السلمية، لم يكن "لخدمة أجندات سياسية" أو "دوافع انفصالية" كما روجت بعض المنابر الإعلامية وكما روجت الحكومة ذاتها قبل أن تعود وتعتذر. خروج المواطنين كان ضرورياً وحتى حتمياً لتكسير الصمت: السكوت على فشل السياسات العمومية و"فشل النموذج التنموي"، الذي بقي متعثراً. ككل حركة، كان على "حراك الريف" أن يلقى مخرجاً: إما أن تستجيب الدولة لمطالب الحراك، وتُعبر بذلك عن فعل ديمقراطي ضروري لتقليص الفجوة ولمّ الشرخ، وإما أن تلتجئ إلى الحل السهل مرحلياً الخاسر على المدى القريب والمتوسط: حل القمع. وباختيار الدولة ل"مقاربتها الأمنية"، دخل حراك الريف في الفصل الثاني من حياته كحركة اجتماعية مطلبية. الملاحظ أن الاحتجاجات لم يعد لها وجود منذ أشهر في مناطق الريف.. ما السبب في ذلك؟ ما ينبغي فهمه هنا هو أن الاحتجاجات لم تكن أبداً هدفاً في حد ذاته: الاحتجاجات رسالة، والرسالة وصلت. في الواقع كانت هناك رسالتان: الأولى مُوجهة إلى المسؤولين وصانعي القرار مفادها أن هناك تذمرا عاما من السياسات العمومية التي لم تستطع، منذ أزيد من ستين عاماً من الاستقلال، فك العزلة عن الريف وتوفير الحد الأدنى من التنمية. والثانية موجهة إلى المواطن نفسه، في الريف وخارجه، مفادها أن تحقيق المطالب الاجتماعية، أمام عجز "الوسطاء" السياسيين، لا يمكن أن يتم إلا بالنزول إلى الشارع عبر سلسلة من مظاهرات سلمية تحرج المسؤولين وتعبئ الرأي العام. الكل يعرف أن الاحتجاجات السلمية استمرت زهاء ثمانية أشهر دون أي اصطدام يذكر، عدا بعض الشغب الذي تسبب فيه مشجعو فريق كرة أتوا من خارج الريف. في هذه المرحلة، يبدو أن الدولة راهنت على عنصر الوقت وعلى الدخول في حوار مع المحتجين لربح الوقت حتى تخمد الحركة تدريجياً. أمام فشل هذا السيناريو، وأمام تجدر الحركة إقليمياً وربحها لتعاطف كبير وطنياً ودولياً، اضطرت الدولة إلى التراجع عن خطة المهادنة والدخول في مرحلة القمع المباشر عبر منع المحتجين من التعبير ومنع المظاهرات والمرور إلى سلسلة اعتقالات شملت كل الشرائح وكل الأعمار وصل عددها زهاء 500 معتقل. بعد قمع المظاهرات السلمية واعتقال زهاء 500 مواطن وتقديمهم للمحاكمة، تبين أن حرية التعبير والتظاهر التي يقر بها الدستور أصبحت مجمدة ولا تقدم أية ضمانات للمواطنين الذين اعتقدوا أن الدستور يحميهم. من الطبيعي إذن أن يتراجع الزخم الذي كان في الشهور الثمانية الأولى، لكن ذلك لا يعني غياب الاحتجاج، بل يتعلق الأمر بمجرد جزر بعد مدّ، فهناك، فيما أعتقد، أساليب أخرى للاحتجاج والمطالبة، أخطرها المقاومة السلبية التي لا يستطيع أحد التنبؤ بها. ومن أشكال هذه المقاومة السلبية تكريس ثقافة اللاتنظيم، التي تمثل أصلاً العُمق اللاشعوري لثقافة الريفي، وهو الأمر الذي قد يساهم في تكريس الشرخ القائم وتعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع. حراك الريف أدى إلى اعتقالات واسعة أكثر من تلك التي عرفتها حركة 20 فبراير.. لماذا في نظركم؟ الأمر هنا كأنه يتعلق بإشكالية توزيع، فمن الطبيعي عندما يكون هناك توزيع غير متكافئ للثروة أن يكون هناك أيضاً توزيع غير متكافئ للقمع أيضاً، إضافة إلى أن كثافة الاعتقالات وتوزيعها غالباً ما تكون، في الأنظمة الهجينة hybrides systèmes les، وليدة اللحظة السياسية. من الصعوبة مقارنة حراك الريف بحركة 20 فبراير لعدة أسباب أهمها: 1-حركة 20 فبراير هي حركة شباب نُخبوي مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بتنظيمات سياسية، وحتى وإن امتدت إلى مجموع التراب الوطني، فهي في العمق مرتبطة بالنخبة الحضرية في كبريات المدن، خلافاً لحراك الريف ذي الطابع الإقليمي المشحون بمركب تاريخي ثقافي إضافة إلى التهميش الاجتماعي والاقتصادي وإلى الطابع الشعبي للفاعل الجمعي المستقل عن تأثير النخبة، بل والمتعارض معها. 2-الفاعل في حركة 20 فبراير فاعل جمعي مسيس عبّر بواسطة استثمار الفضاء العمومي عن تذمره تجاه السياسات العمومية غير القادرة على الاستجابة لطموحاته، بينما في حراك الريف، فإن هذا الفاعل الجمعي غير مسيس ووضع نفسه في الاتجاه المعاكس للفاعل السياسي، معتبراً أن المنظومة السياسية، والحزبية على الخصوص، عائقاً لضمان الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. 3-حركة 20 فبراير حركة لم تعمر طويلاً؛ ذلك أن الدولة التفتت بسرعة إلى "مخاطر" هذه الحركة وقامت بتحييدها عبر مجموعة من المراجعات أهمها اقتراح دستور جديد يتضمن جل مطالب الحركة. بالاستفتاء على الدستور الجديد تم إقبار حركة 20 فبراير. أما حراك الريف فهو حركة اجتماعية تجذرت في الوعي الشعبي لمواطني ومواطنات الريف واستطاعت أن تتمدد في الزمان والمكان، وما تزال آثارها منعكسة على تطور الأوضاع في الريف كما في مجموع المغرب. إن كثافة الاعتقالات التي شملت الشباب المحتج في الريف تترجم، في نظري، عجز الدولة عن إيجاد مخرج لحراك الريف المتمثل في الاستجابة للملف المطلبي ذي الصبغة الاجتماعية والاقتصادية. كما أن الاستجابة لمطالب حراك الريف تفرض تكاليف كبيرة للدولة وهي غير مهيأة لها: تكاليف مالية بالخصوص، لكن في العمق، ما تحاول الدولة تجنبه، هو التكاليف السياسية على المستوي القريب والمتوسط في حال الاستجابة لمطالب الحراك: تجنب تأثير الحركات الاجتماعية، غير المتحكم فيها، على القرار السياسي، على حساب التنظيمات التقليدية المتحكم فيها. هل يمكن الحديث عن فشل حراك الريف؟ في نظري، لا يمكن الحديث عن فشل طالما أن الحراك ما يزال يعبر عن نفسه، وإن بوتيرة أقل وبأساليب تراعي حركية المد والجزر في انتظار ما سيقوله القضاء. الحراك لم يفشل ما دام أنه حرّك مياها راكدة واستطاع أن يعبئ الرأي العام المحلي والوطني والدولي حول مطالب اجتماعية واقتصادية تهم منطقة لها ثقل تاريخي متميز. فمن الناحية الرمزية حقق الحراك تعاطفاً وتضامناً كبيرين يعتبر الآن مكسباً وطنياً، كما أنه حقق تكسير طابوهات عديدة أهمها تفنيد أطروحة "المؤامرة" كلما تعلق الأمر بالمطالبة بحقوق معترف بها دستورياً ودولياً، وما تراجع الحكومة عن تصريحاتها المتسرعة تُجاه الحراك واعترافها بشرعية الاحتجاج والتظاهر إلا دليلاً على ذلك. طرح مسألة فشل الحراك هو بمثابة طرح هزيمته. والهزيمة مقولة مرتبطة بالحقل الدلالي للعداوة وليس بالحقل الدلالي للخصومة. ما وقع من ردة عنيفة للدولة تجاه حراك الريف يعتبر في نظري سوء تفاهم وسوء تقدير داخليين. إن فشل حراك الريف، إن تحقق، هو فشل للدولة معاً وليس لمنطقة محددة فقط. فعندما تتحرك منطقة كاملة بصغيرها وكبيرها، بنسائها ورجالها، للتعبير عن قصور الدولة وفشل سياساتها العمومية فمعنى ذلك أن المجتمع، بتعبيراته تلك، يطالب الدولة بمراجعة حساباتها الخاطئة، هذه الحسابات التي قد تنعكس سلباً على الدولة نفسها قبل المجتمع. هل كان لهذا الحراك تأثير في تعامل الدولة مع السياسات التنموية وطريقة تدبيرها في مختلف الجهات؟ يصعب تقدير تأثير الحراك في تعامل الدولة مع السياسات التنموية وطريقة تدبيرها للشأن العام في مختلف جهات المغرب؛ ذلك أن الحراك باق ويتمدد، إن لم يكن يتمدد في الشارع أو في وسائل الإعلام، فهو يتمدد الآن على الأقل في العقول وفي الضمائر. غير أن هذا لا يمنعنا من الحديث عن بعض النتائج المنتظرة، المباشرة منها وغير المباشرة، لحراك الريف على عدة مستويات، أهمها: 1-إعادة النظر في المنظومة الحزبية، فالانتقادات شديدة اللهجة التي وجهها الحراك للأحزاب المغربية، ناعتاً إياها ب"الدكاكين السياسية"، بدأت تدفع الفاعلين السياسيين إلى مراجعة خططهم واستراتيجياتهم وطرق اشتغالهم. 2-لقد بدأت الدولة، مشخصة في أعلى مستوياتها، في البدء في مراجعة النموذج التنموي الحالي، الذي اعتبرته هي ذاتها نموذجاً فاشلاً، ناهيك عن سلسلة من الإجراءات السياسية والإدارية، سواء التي بدأنا نلاحظها أو التي ستأتي لا محالة. بالرغم من ذلك، تبقى هناك علامات استفهام كبيرة حول مآل صانعي الحراك الموجودين الآن في السجون. هل يعتبر اعتقالهم مجرد تكتيك لتفادي انتشار رقعة الزيت، أم يتعلق الأمر باستراتيجية ضبط الحركات الاجتماعية وتراجع الحريات العامة. مهما يكن من أمر، فللحراك ما قبله وما بعده.