عشرات الآلاف، نساء ورجالا من مختلف الأعمار والأجيال، جابوا صباح الأحد، تحت حر الشمس، الشارع الرئيسي للعاصمة بأصوات صادحة، لم يؤثر على جهوريتها عامل الصيام، أصوات أعلنت إصرار المغاربة أينما تواجدوا على مواجهة الفساد الذي لا يزداد إلا تغولا، والدفاع عن الحق في الخبز والحرية والكرامة، مؤكدة في هذا الصدد تضامنها ووقوفها إلى جانب حراك الحسيمة وأقاليم الريف: فمطالب هذا الحراك هي نفسها مطالب أبناء وبنات هذا الوطن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه (مع استحضار ما يميز كل منطقة من خصوصيات تاريخية وثقافية). وبديهي أن تتصدر هذه المسيرة صور معتقلي حراك الحسيمة، وأن يحتل شعار إطلاق سراحهم الصدارة فيها؛ وذلك في رفض شعبي جازم لأي مقاربة أمنية قمعية. رسائل هذه المسيرة متعددة.. هذه قراءة أولية في بعضها: الرسالة الأولى: إن الشارع المغربي، الذي انتفض في 20 فبراير، ما يزال يحتفظ بمقومات وأسباب مواصلة ما توقفت عنده حركة 20 فبراير، بالرغم من المياه الملوثة التي جرت تحت الجسر خلال السنوات الست الماضية. الرسالة الثانية: مطالب المواطن المغربي اليوم هي إدانة لسياسة اقتصادية واجتماعية ومجالية فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والإنصاف للفقراء والمهمشين والمعطلين، ما جعل مشاعر "الحكرة" تستشري وسط فئات واسعة وأقاليم مقصية، وتزداد حدتها في ظل غياب إجراءات فعلية للدولة لمحاربة مختلف أشكال الفساد والاغتناء الريعي لطغم تحظى بالحماية وب "عفا الله عما سلف". الرسالة الثالثة: الحراك الاجتماعي سيتواصل، ولن يتوقف هذه المرة ب "وثيقة" ترسم آفاقا، وتتراجع عنها في الممارسة (تعطيل دستور 2011)، وإنما بحلول واقعية وميدانية وإنجازات ملموسة ترتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، سواء في مجال التشغيل أو التطبيب أو النقل أو السكن أو الحماية الاجتماعية لفقراء الوطن ومعوزيه، حماية مؤسسة على قيمة احترام الكرامة. الرسالة الرابعة: المسيرات من هذا المستوى الراقي في التنظيم و"السلمية" لا تمس بالأمن والاستقرار، بل هي تعبير عن نضج للشارع المغربي على الدولة، وعلى أجهزتها معاملتها (المسيرات) بالمثل. إن ما يهدد الأمن هو تجاهل مطالب الحراك وإلصاق التهم الباطلة به وشيطنة فعالياته والفاعلين فيه؛ فلا مجال ولا مبرر بعد اليوم للمقاربة الأمنية كما مورست إلى حد الآن. الرسالة الخامسة: الحراك الاجتماعي المغربي قادر على أن يوحد مختلف القوى السياسية على اختلاف مرجعياتها ومواقعها في العملية السياسية الجارية؛ ذلك أن مطالب الشارع لا تعني فقط أنصار التيارات الإسلامية، ولا فقط "شعب اليسار" وما بينهما، إنها مطالب شعبية وطنية أولا وأخيرا، وكل تهافت على احتكار الشارع باسم "القوة المنظمة" أو انسحاب منه بدافع "إيديولوجي" هو إضعاف للحراك وحكم عليه بالتراجع المتدرج قبل الاختفاء، ولنا في دروس 20 فبراير ما يؤكد ذلك، مع الأسف. الرسالة السادسة: هي رسالة موجهة إلى الحقل الحزبي: فجل الأحزاب كانت غائبة، لا حضورا تأطيريا ولا تنظيميا ولا معنويا لها في مسيرة اليوم، ما يعمق الفجوة بينها وبين المجتمع من جهة، ويزكي المقولة الخطيرة حول "موت الأحزاب" من جهة ثانية. لقد خلف لنا ما يسمى "الربيع العربي" درسا كبيرا في هذا الصدد: مهما كانت فعالية "مؤسسات المجتمع المدني" في التعبئة والحشد والتأطير الشعاراتي وحماية الحراك من مختلف المشوشين على مساره، فإن ذلك لا يمكن أن يشكل بديلا عن قوة سياسية ذات رؤية ومشروع وبرنامج للإصلاح والتغيير، وظهر أي حراك يكون "قصيرا" حين لا تكون وراءه قوة سياسية قوية ونافذة (تحالف حزبي -كتلة -جبهة ...الخ)؛ فهذا ما يفتح المجال واسعا للقوى العقائدية المنظمة ل"الركوب" أو الانقضاض عليه (مصر أسطع مثال). وفي انتظار تجاوز اختلالات الوضع الحزبي، لا بد من الإقرار بما للدولة من مسؤولية في هذا الفراغ الذي نتج عن مصادرة القرار الحزبي لجل أحزابنا، ما يفرض عليها رفع يدها كليا عن الحقل الحزبي والتخلي عن سياسة الإلحاق لقيادات الأحزاب بأجهزتها. فهل نحتاج إلى تأكيد بديهية أنه لا بناء ديمقراطيا بدون أحزاب ديمقراطية و"سيدة قرارها"؟ هذه رسائل أولية لمسيرة 11 يونيو. أملي أن يلتقطها من يهمهم الأمر، كل من موقعه ومسؤوليته السياسية.