في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. شعرت بعجز قاتل، لأول مرة في حياتي. وبكيت بحرقة في السوق وفي الشارع وعلى الطريق الطويل إلى الثانوية الفلاحية. ولم يكن ثمة من داع إلزامي إلى هذا الحذاء، لكنني رفضت كل محاولات أساتذتي ثنيي عن المغادرة. كنت فتى طموحا ومبدعا وشديد الحساسية في الآن ذاته. وهاتفت والدي: - ما لقيتش لبُوط أبّا! غادي نرجع.. وجاءني صوته، عبر الأسلاك، يحمل قلبه بين ثنايا الكلمات. وأعترف بأنني لم أشعر يوما بالحنان يغمرني من أخمص قدمي حتى مقدمة رأسي مثلما شعرت به ذلك اليوم، كأنّ أبي كان ينتظر عودتي ويخشى أن تكون هذه الأمنية عقبة في طريق تحقيق أمنياتي. كان لهذه الواقعة تأثير شديد على نفسيتي. وعلى الرغم من اعتدادي بنفسي، فقد شعرت -ساعتها -بالألم يمزق أوصالي. وإني لأجد ريحه من مسافة عقدين. وما أن رأتني أمي حتى عانقتني، وجعلت تدور بي في أرجاء البيت -كأننا في حضرة صوفية -وتبكي. كان مشهدا دراميا مؤلما يأبى النسيان. ولم تكن والدتي كثيرة البكاء، شأن النساء، فإذا بكت علمت أن أمرا عظيما قد حدث. ولذلك، لم أنس قط بكاءها المرير. ولا أحب أن أسترسل في حديث الشجن، فإنه يؤلمني أوّل من يؤلم. وإن كلماتي لا تطيق. لكنني أحمد الله أني لم أجزع يوما ولم أظهر الشكوى. وكنت أرى ذلك منقصة في الرجل وتحديا للقدر. وقد تعلمت من والدتي فضيلة الصبر، وهي أم الفضائل. ولم أكن أفتعله افتعالا، إنما كنت أجدني صابرا بلا جهد وعلى السجية، على ما في ذلك من المشقة النفسية قطعا. كانت والدتي تفتح الباب يسيرا ثم تطل برأسها وعيناها تبحثان عني في الأرجاء، فإن وجدتني مهذبا حمدت الله وأغلقت الباب، وإن وجدت غير ذلك جمعت ما أتيح من نعال وأعدت العدة لحفلة استقبالي. وقد كنت أعتذر عن مشاغباتي، فكانت تسامحني أحيانا وتعاقبني أخرى. وإني لأجده، الآن، عقابا لذيذا! وكانت تلتقطني من أطرافي، تماما كما تلمُّ العجين بين يديها كل صباح، فإن شاءت عاقبت وإن شاءت عفت. وكثيرا ما كانت تعفو، جازاها الله خيرا. ويعلم الله أن أمي وهبت نفسها لأسرتها الصغيرة وأفنت زهرة شبابها في خدمتنا. وإن الله وحده، بما عنده من خزائن الأرض والسماء، كفيل بأن يجازيها على المعروف الذي أسدت إلي وحسن صنيعها بي. ولم يكن والدي يعاقبني إلا في ما ندر. وحدث أن ذهبت معه، يوما، إلى السوق. وكنت صبيا في السابعة أو أكبر بقليل. وكان يحكم قبضته على يدي، يخشى أن أضيع منه في الزحام. وحين رفض أن يشتري لي شيئا، لا أذكره الآن، فككت يدي من يده وانطلقت أجري عائدا إلى بيتنا. ولما كان الزحام شديدا، فقد ضعت بين الأرجل وغبت عن عيني والدي. وكاد عقله يطيش وهو يلقي عينيه في الاتجاهات الأربع فلا يرى للصبي الصغير أثرا. ولم أر والدي غاضبا مثلما رأيته في ذلك اليوم. وقد صفعني صفعة لا يزال دويها في أذني إلى يوم الناس هذا. وإني لأذكر يوم كنا في قريتنا الصغيرة. وكنت أعشق مساءاتها الساحرة، فأراقب الشمس وهي تهوي، ساعة الغروب، خلف الجبال. ويا للنشوة حين تسري في الأوصال فتمنح المرء رغبة رعناء في التحليق بعيدا إلى حيث الشمس المنسدلة في الأفق البعيد! وكنت أنتشي، فأصعد التلال والأجراف مفتونا بمشاهد الطبيعة تحت بصري. لكنني علقت. مددت قدمي، في أعلى التل، فانزلقت. وخشيت أن أخطو خطوة أخرى فأنحدر إلى أسفل التل. وظللت واضعا يديّ ورجليّ على التراب، لا أنا في أعلى التل ولا في أسفله. وجاء أبي واعترضني بظهره فوضعت يديّ على كتفيه. ونزلت آمنا مطمئنا. وكان تلاّ صغيرا. ولعلني بالغت في تقدير المخاطر، وقد كنت صبيا صغيرا لما يجاوز الثامنة من عمره. وقال والدي، وهو ينفض التراب عني: - هذه تلة صغيرة.. فما بالك بالجبال! كن رجلا..!