في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي». أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟
“سواء كان ماضينا سعيدًا أو غير سعيد، فثمة دائما غبطة خفية تتحقق في عملية التذكر”. هذا ما قاله المحلل النفسي جاك أندريه وهو يتحدث عن الذاكرة المستعادة. أما أنا فعندما يتحقق لي ذلك فإنني أشعر بغبطة العصافير العائدة، أنشرح كما لو أنني ألم الشمل مع نفسي.. كما لو أنني أهنئ روحي على سلامتها وأغبطها طالما هناك في المتناول خيال. “الذاكرة هي الجنة الوحيدة التي لا يمكن لأي كان أن يطردنا منها”، كما يقول “جان بول ريختر”. لكن ما علاقة والدي بكل هذا؟ ما محله في خارطة التذكر وموقعه من خرائط النسيان؟ رجل جاء البيضاء في بداية الأربعينيات قادما إليها من “شتوكة”، وفي إحدى زياراته لبيت صديقه محمد بالمدينة القديمة سترمق عيناه طفلة جميلة بظفيرة واحدة اسمها خدوج، وردة ندية اقتطفها من هناك لتصبح زوجة له وهي لا تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، ثم سرعان ما ستصبح أما لتسعة أولاد.. كان آخرهم من الذكور “مقترف هذا البوح”، هذا هو والدي رحمة الله عليه. يحكى أنه كان رجلا محبا للسخرية -أقول يحكى لأنني لم (أعمر) معه سوى ست سنوات- هي إذا صورة لرجل لم يتبق لي منها سوى بعض الخيوط الباهتة، وصور مرت في حياتي الصغيرة مثل ضوء لمع فخبا، أراه ضوءا هاربا لكنه ضوء يساعدني على الغوص في نفسي فأمضي وكأنني أبحث عن قصة ضائعة أو حكي مبتور، أسعى إليه من دون جدوى كأي حب لم يكتمل. “إذا أضعت الطريق فعد من حيث أتيت”، هكذا تكلم سادتنا الرحل، السابرون أغوار الحياة، فعدت إلى حيث كنت ألعب مع أقراني ذات ظهيرة لعبتي المفضلة وهي سباق الفرسان، بدون خيل طبعا، نسابق الريح بنعال بلاستيكية نصهل ونحمحم كما الجياد الأصيلة، مراهنين على الصفوف الأولى، وما زلت كذلك وإذ بحشد من الناس يتكون أمام بيتنا العتيق، رأيت أختي الكبرى وهي تصرخ بصوت يشبه العويل. ظل الطفل الذي كنته مشدوها أمام المشهد الرهيب، اضطر إلى جر قدميه بصعوبة شديدة في اتجاه الجمع لفهم ما حدث. كان علي أن أفك لغز اللحظة، أن أتسلل بين الأجساد وأقاوم الزحام لأمسك بتلابيب والدتي وهي تصيح وتلطم وجنتيها بعنف شديد، لأفهم بعد ذلك أن والدي لم يعد هناك. هذا ما فهمته من جارتنا التي أخذتني إلى منزلها وهي تضمني إلى صدرها لإبقائي بعيدًا عن قسوة اللحظة. ومع ذلك، لم أستطع أن أفهم ماذا يعني أن والدي قد لا يعود نهائيا من زيارة طبيب مشى إليها واقفا على رجليه. في اليوم الموالي، وبعد أن قضيت الليلة عند جارتنا محتميا بنفسي، فتحت عيني على نساء يلطمن صدورهن ويصرخن باسم والدي، ويولولن بكلام لم أتبينه، لحظة عنيفة لم تدم طويلاً حتى بادرت “مي باشا” لتأخذني من يدي ثم تعبر بي فناء المنزل في اتجاه الغرفة حيث كان والدي مسجى في ثوب أبيض، تقدمت خطوة تجاهه لأرتبك ثم أجثو على ركبتي، وبهدوء تام سحبت “مي باشا” ، تلك السيدة التي لن أنسى صنيعها ما حييت، الثوب من على وجهه لتنكشف معه ابتسامة عريضة تزينها أسنان بيضاء ناصعة. جثوت على ركبتي لأضع على جبينه البارد تلك القبلة الأخيرة. تداولت أسرتي في ما بعد أن الميت إذا كان مبتسماً، فهذا دليل على أنه بُشر بالجنة، وبقيت أؤمن بهذه العبارة وأسمعها مراراً وتكراراً في كل عزاء. لم أذكر ما إذا كنت أريد البقاء معه هناك أم لا، لكنني أذكر أن رغية في البكاء لم تتحقق، وأن صوتا جريحا ظل سجينا بحنجرتي، وأنني أخليت السبيل لنفسي لأخرج مسرعا أعدو وحيدا بعيدا عن البيت. ربما كان ذلك اعترافًا لا إراديًا باليتيم الذي سيرافقني منذ تلك اللحظة. وكان علي أن أفهم منذ ذاك الحين، كلمة أخرى بالإضافة إلى كلمة “الموت” والتي أصبح لها رنين استثنائي في أذني ووقع خاص على قلبي “يتيم مسيكين” أو “خلاه صغيور مسيكين”. أذكر أنني بقيت أسير وحيدا إلى أن ابتعدت عن البيت، وهناك جلست أرضا أقلب التراب بأصابعي، ولبثت كذلك إلى أن رأيت سيارة بيضاء يتبعها حشد كبير من الناس وهم يصدحون بكلام لم أتبينه. أدركت أن السيارة كانت تحمل جثة والدي، وأن الرجل قد لا يعود أبدا إلى المنزل. رفعت رأسي نحوها وهي تتحرك ببطء لتختفي في الجهة الجنوبية من الحي في اتجاه “مقبرة السباتة”. ثم حولت ناظري في اتجاه السماء. قد أكون قلت بصدق الأطفال: “أبي كان عليك البقاء لفترة أطول”. منذ رحيله ظلت الأشياء والصور والألوان ينقصها شيء، ظلت الأماسي غير مكتملة، ظلت في أفق الحزن نافذة مشرعة على المجهول، ظلت هناك أحلام مستيقظة ورغبات غير مكتملة وجوع دفين إلى الحياة وأياد ممدودة في مساحات فارغة. انخرطت والدتي في حزن عميق، ماعادت لها تلك الإشراقة المعهودة، ووجع الحنين يهزها إليه، وما عاد بيتها يستقبل فرح النساء وأهازيجهن كالمعتاد. كانت تلتقي بوالدي في المنام وكلما صحت يموت. ظل الفقد يؤلمها حتى انخرطت في بكاء دائم أصبح ملازما لسكناتها وحركاتها. وها أنذا أفقد أبي ميتا وأكاد أفقد والدتي حية. كنتُ أمكث إلى جانبها طوال النهار أحدق في عينيها الغائرتين، أصبحت متخبطا للغاية وخائفا. لم تكن لدي قدرة على إدراك مفهوم الموت كحقيقة سرمدية، أدركته كحالة من الانفصال والهجر المؤقت، ولم أدرك كونه نهائياً وأنّ والدي لن يعود. أدركت الموت كفقدان كل العناصر المرتبطة بوجوده، صوته ورائحته وملامح وجهه وحركاته وعودته من المسجد وهو يهمهم بدعاء متبق بصدره. ثم سرعان ما بدأت أشعر بعطف الناس من حولي، ولم يكن هؤلاء يعلمون أنها اللحظة التي أشعر فيها بالهلع واجتياح الظلام والقلق والغضب الذي قد يتحول إلى حزن ونوبات بكاء. بدأت أكره أن يشفق علي أحدهم أو أكون موضع رثاء وألم. وكثيرا ما كانت تنتابني مشاعر الذنب لاعتقادي بأن وفاة والدي هي عقاب لي على سوء تصرف مني، بل اعتقدت أن عودته ممكنة في حال اعتذار مني. مرت بضعة أشهر فقررت أسرتي الانتقال من الحي المحمدي إلى حي سيدي مومن، كان الوالد، مباشرة قبل وفاته، قد انخرط في البحث عن بيت آخر يسع أفراد الأسرة التي بدأت تزداد مع زواج أخوي الكبيرين. انتقلنا من براكة صغيرة إلى فيلا من ألف متر كانت في ملكية أحد المعمرين. بيت واسع وجميل تزينه أشجار الصنوبر وتتوسط حديقته الكبيرة نافورة جميلة، لكن ذلك لم يكن يزد والدتي إلا حزنا وكآبة وهي تتأسف على أن رفيق العمر لم يكتب له أن ينعم بهذا البيت الجميل الذي كان يحلم به، أصبحت أمي لا تكف عن البكاء، حتى اعتقد الناس أنها دخلت في كآبة أبدية، كنت أجلس إلى جانبها، أنام في حضنها كعصفور خائف. أذكر يوما أنها استيقظت منشرحة لتقص علينا ما رأته في منامها: “رأيت السي عمر مبتسما ومنتشيا بلباس ناصع البياض، لكنه عاتبني على فرط بكائي وحزني عليه، وأنبني على كوني أزعجه هناك في سكونه الأبدي حيث يستمتع ببيت أرحب من بيتنا الجديد، بيت بعرض السماء”، قالت. هناك، من تلك النافذة المشرعة على الغياب والحديقة الكبيرة الخضراء، كان يجيءُ الطفلَ الذي كنته، عصفور أخضر جميل ينثر تيهه، تراه من أي غيب هو قادم؟ ولمَ الأربعاء يوم وصال؟ قالت والدتي: إنه طائر الجنة، ناقل أحوال الغائبين عن العين، الذين رحلوا عنا ولم يرحلوا منا. من هناك، من شرفةٍ تطلقُ العنانَ للشهقات، كان يمكنني رؤية القمر، نصفه ذهب والنصف الآخر من فضة، وأنا لابد من أنْ أجاهرَ بحيرتي في العصفور الأخضر .. تُراه يجيءُ من عدمٍ فضيّ أو ينبعث من غيب ذهبي؟ من هناك.. من تلك النافذة، كنتُ أجرُّ القطارات وأطارد القطط الهاربة وأناجي العيد، وأشم عطر بنت الجيران، أرسم من الخيال حكايا وأقبض على ظفيرة يهزها النسيم، حالماً بقبلة وبسماءٍ زرقاءَ كالعيد وفي عيني غيوم كثيرة لا تمطر. تُرى، قال اليتيم ذات مرة لولدته: أيمكنُ للسّماءِ أنْ تكونَ كلها بيتا لأبي؟ تذكرت صمت والدتي وفي يدها تلويحة رحيل.. تذكرت والدي الذي لن يعود.. تذكرت جبينه البارد وابتسامته الأبدية.. تذكرت بنت الجيران التي تركت البيت العتيق.. وتذكرتُني… أنا الذي أشتاق إلى نفسي القديمة..