كنتُ أقف في بهو فندق" بتش هوتيل" مع كاتب سوري حين أقبل علينا رجل في نحو الستين قصير القامة بحاكت أبيض وكاسكيت على رأسه. قدمه السوري إلي" إياس تاشفين. شاعر مغربي". حياني إياس بهزة رأس وهو يتفحصني بنظرة تلمع بفضول عابث ضاحك، وأخذ يستفسر عن جلسات المؤتمر. كان ذلك بعد ساعات قليلة من وصولي إلي مدينة " تروفيل" الفرنسية. في المساء قررنا القيام بجولة في شوارع المدينة. أخذنا بجمال شوارعها النظيفة ومبانيها القديمة المنخفضة. تمشينا بمحاذاة شاطيء بحر"المانش". على سطح البحر كانت مراكب الصيد ترتج أمامنا بأشرعتها، وهبات الريح المتدافعة إلي الرصيف تطوق أقدامنا. سرنا طويلا وإياس يثب مرة إلي جانبي، ومرة إلي جانب السوري يستوثق من أننا ننصت إلي ما يقوله عن الأدباء الذين أحبوا هذه المدينة بدءا من فلوبير حتى مارجريت دوراس، وعن دواوينه وقصائده التي غيرت على حد قوله مجرى الشعر، وكان يقطع خطابه بنكات أقرب إلي الحكايات الريفية التي تنتهي بعبرة. لم يكن ما يقوله مسليا لكنه كان ينفجر ضاحكا بعد كل حكاية فأبتسم ويطلق السوري قهقاته بفاصل زمني ثابت. عدنا إلي الفندق مرهقين وتبين أن إياس يسكن معي في الطابق ذاته. صباح اليوم ألقى إياس كلمة بالفرنسية في جلسة المؤتمر الافتتاحية. تحدث عن العولمة وظهور ثقافة إنسانية جديدة وزوال الحدود الوطنية والفكرية. كان يتكلم وجلد وجهه يرتجف من الانفعال كأنما سينزلق عن وجنتيه وعيناه الصغيرتان تدوران بقلق. اختتم بقوله" صرنا جميعا أبناء وطن واحد هو الأرض". هبط من عند المنصة فصافحته قائلا " أشعر بضغطي منخفض. سأعود إلي الفندق وأستريح". قال "سأرجع معك". وصلنا الفندق وقبل أن أفتح باب حجرتي رجاني إياس" دقيقة واحدة ". دخل حجرته. عاد بسرعة وبيده ديوان من قصائده بإهداء. شكرته. أغلقت الباب خلفي. اغتسلت ثم رقدت على السرير. كنت مرهقا لكن شيئا ما أغراني بتصفح الديوان. كانت قصائده أشبه بشظايا روح تتحطم. مازلت أذكر منها بيتا" حول خطأ ما تدورهذه الأرض". استحضرت وجه إياس بعينين نصف مغمضتين. تلاشى فجأة انطباعي عنه بأنه مضجر، ورأيت فيه للمرة الأولى اختلاجة خفيفة معذبة تدعو للتعاطف. استيقظت بعد أربع ساعات. كانت الحجرة تسبح في عتمة خفيفة. أرسلت بصري إلي البحر الراقد تحت سماء مطفأة. هبطت إلي أسفل. رأيت إياس في بهو الفندق جالسا على مقعد في قميص بمربعات ملونة وسروال غطى ركبتيه بالكاد. شاهدني فنهض بسيجارة في فمه وفنجان قهوة بيده. ضحك بنظرته المعابثة " نمت طويلا ياعزيزي؟". قلت " أنا عجوز يا إياس لا أتمتع مثلك بحيوية المغاربة". رسم تعبيرا جديا على وجهه"إن كنت تقصد أن والدي مغربي فلن أفيدك بشيء. أمي وحدها من يعرف الحقيقة"! قالها وانفجر مقهقها بسعادة التحرر المؤلم من كل شيء، حين لايبقى شيء ما محصنا من السخرية. خرجت معه إلي ساحة الفندق الأمامية الواسعة. كانت مضاءة بقوة كأننا بالنهار. سرنا في اتجاه الشاطيء والأنوار تنسحب من خلفنا. بلغنا مقهى مفتوحا تحت السماء. جلسنا على مقربة من البحر. ساقني الغروب المضاء بنور القمر إلي جذوري التي أعتمت في الزمن والبشر. أحسست كأن شيئا ما في حياتي غائم ملتبس، اعتدته لكني لم أفهمه حتى النهاية. قلت لإياس" اقرأ لي من أشعارك". أجابني" لكن معظم قصائدي عن الحب؟ أتعرف يا أستاذ أنت تدخل الحب بمخالبك وتخرج منه وعظامك مطحونة. أحببتُ وتزوجتُ ثلاث نساء مغربية وفرنسية فانجليزية. كانت سعادة البداية تغمرني ثم تؤلمني دموع النهاية كل مرة. لكني لست نادما. ولم الندم؟ أنا أحيا حياتي. أرحل من بلد إلي بلد. أعشق النساء أينما كن. أقرأ وأكتب، لا زوجة، لا أولاد، لا أحد يعطلني". أطرق برأسه لحظة غاب فيها عما حوله. ثاب إلي نفسه وتطلع إلي بشقاوة طفولية" غدا لن نحضر جلسات المؤتمر؟". قالها كأنما يطلب منى تصريحا. أجبته " أنا لن أحضر". ضرب فخذه بيده مقهقها" والله أنت عظيم ياأستاذ !". أخرج صورتين من جيبه بعناية" انظر هذه إسبانية. وهذه الرائعة إيطالية. مارأيك؟ الجمال هو كل شيء. صحيح يا أستاذ؟". أخذنا ندخن في صمت ونحن نتأمل سطح البحر قاتما يلمع بومض القمر. همس إياس"أتحب أن تستمع إلي قصة حقيقية؟". قلت" بلى". دفع الكاسكيت للوراء "أنا من قرية صغيرة بشمال المغرب. والدي، بعبارة أدق من سيغدو والدي، بربري فقير كان يصبغ الخيش بلون أحمر ويخيط منه قمصانا لرعاة الغنم، فأطلقوا عليه الرجل الأحمر. في ذلك الوقت، ولاحظ أني أحكي عن ثلاثينات القرن الماضي، كان يعيش في القرية رجل بربري يدعى "أمجار"، التحق في شبابه بالجيش الفرنسي وترقى إلي عقيد. أصبح من الأُثرياء. صارت عنده خيول وأراضى ودار كبيرة. ذات مساء، والأماسي جميلة بين الجبال عندنا، كان أمجار جالسا في شرفة داره مع صديق مقرب له يدعى" ماسين"، وتصادف مرور صانع القمصان أمام الدار. ابتسم ماسين يعابث العقيد" مارأيك يا أمجار لو زوجتَ ابنتك إلي الرجل الأحمر؟". نفث أمجار دخان نرجيلته مبتسما" لم يكن ينقصني إلا هذا البائس". اتسعت ابتسامته ونادى ابنته توناروز. جاءت ووقفت بين يديه. سألها " مارأيك ياتوناروز لو زوجناك من الرجل الأحمر؟". لم تفهم توناروز أن والدها يداعبها، إما لأن السؤال باغتها، أو أن وجود رجل غريب كماسين شوش عليها إدراكها. انفعلت بحدة" أنا أقترن بذلك المنحوس؟ هذا من سابع المستحيلات". أسخطت توناروز والدها برنين التحدي. أطرق لحظة يشحذ فيها قرارا. رفع رأسه بوجه معتم" وأنا أقسم بالله أنك لن تتزوجي غيره". ترجاه ماسين بنبرة المذنب " كنت أمزح معك يارجل"! وقف أمجار وزعق به"اتجه الآن إلي كوخ الرجل الأحمر فورا. أبلغه أن العقيد يقبل به زوجا لابنته". لم يصدق بائع القمصان النعمة التي هبطت عليه حتى أعادوا عليه الرسالة خمس مرات. هكذا تزوجت أمي، صاغرة، بدموع عينيها. لكنها في اللحظة التي وطأت فيها أرض الكوخ المتهالك صاحت في والدي" تزوجتني لكنك لن تمسني مادمت حية"! انقضت الشهور ولا حديث في القرية غير أن أجمل البنات اقترنت بأقبح الرجال. شهور وتوناروز تنام وتصحو باكية تؤرجح رأسها بأسف، إلي أن هبط شتاء اشتد رعده ذات ليلة، لمع برقه، وراح مطره يجلد أسطح البيوت بجنون. في تلك الليلة رأت توناروز في منامها أنها تسكن دارا كبيرة أبوابها وشبابيكها مطلية بالأخضر. أنها تنظر من شباكها إلي حديقة تحت دفء الشمس. أنها تخرج بهدوء تجلس تحت شجرة تفاح. تمد يدها لأعلى تقطف واحدة. تحل عليها آلام المخاض، تنجب صبيا يضرب بذراعيه في الهواء أمام عينيها، يحلق طائرا إلي حديقة أخرى، ويرفرف مختفيا مع طيور أخرى. استيقظت بوجه متشنج تبكي وترتجف. وجدت والدي يراقبها من ركن وخده إلي قبضة يده. دموع الفزع في عينيها شجعته، وهو الذي لم يكن يجرؤ على النظر إليها. تقدم نحوها، طوقها ومسح بحنان على ظهرها مرات كثيرة. في ليلة الحلم تلك أسلمت توناروز نفسها للرجل الأحمر. صرت أنا حقيقة. بعدها صالحها جدي أمجار. اشترى لها دارا كبيرة خضراء. في السادسة من عمري التحقت بالمدرسة. تعلمتُ الفرنسية لكني كنت أدرس العربية بشغف. مبكرا شرعت أكتبُ قصائدي الأولى الساذجة. كان المعنى يخامر شعوري باللغة البربرية التي تشربتها مع حليب أمي، فأترجمه إلي العربية، ثم إلي الفرنسية الشائعة لأقرأه على أصدقائي. أنهيتُ تعليمي واشتغلتُ في إحدى الصحف، وفيها تعرفتُ إلي زميلة مغربية وارتبطنا. عشنا سنوات معا إلي أن كان يوم أقيم فيه مهرجان أدبي كبير في العاصمة حضره شاعر لبناني استوطن باريس. أثنى على قصائدي ودعاني إلي النزوح إلي أوروبا. انفصلت أنا وزوجتي، ورحلت. أقمت سنوات في باريس وتركتها إلي لندن ثم إلي روما. ضربت بجناحي من سماء إلي سماء ومن أرض إلي أرض. سكت إياس لحظة " أليس هذا ما رأته أمي في المنام ؟". تطلع إلي. سألني بصوت معذب" هل كانت حياتي تجسيدا لحلم تحت سطوة البرق والمطر؟". لزمت الصمت أفكر في سؤاله. ارتعشت من برد البحر وهو يدفق علينا هبات ريح تخفق داخل سترة إلياس المفتوحة. استند إلياس بمرفقيه إلي سطح المنضدة. دفع حافة الكاسكيت للخلف. بان رأسه أصلع مثل طائر تعرى من ريشه. ضغط وجهه بكلتا يديه ونهنه باكيا. لم أدر ماذا أفعل. ارتبكتُ. أحس باضطرابي فمد يده إلي يدي يعتصرها وكتفاه ترتجان" لو كان لي وطن ياأستاذ لكان دفقة من ريح". أردتُ أن أهون عليه" أنت نفسك قلت إننا جميعا صرنا أبناء الأرض؟". تمتم بصوت متقطع" لكن ألا تحتاج إلي كينونة تدركها لتعرف ما الذي يذوب منك في الأرض ويغدو إبنا لها ؟". كان الوقت قد تأخر. ولم يعد في السماء الداكنة سوى نجوم قليلة تلمع بضعف. نهضنا ببطء نقطع الممر المبلط عائدين إلي الفندق من دون أن نتكلم. صافحته عند باب حجرتي. هز رأسه كالمعتذر يحاول أن يبتسم" أطلت عليك في الحديث". انتابني وأنا أتأهب للنوم شعور مبهم بأن حياتي غريبة عني. استرجعت القصة التي رواها لي إياس عن حياته. أهي حقيقية ؟ أم أن إياس قد اختلقها ليعبر عن الحقيقة كما يتصورها؟. في اليوم الأخير من وجودنا في" تروفيل" تبادلت مع إياس أرقام الهواتف والبريد الالكتروني. قال لي إنه سيسافر إلي لندن ومنها إلي روما. عانقني وتوادعنا عند باب التاكسي وأنا في طريقي إلي المطار. بعد نحو شهر جاءتني منه رسالة في القاهرة، ثم انقطعت أخباره طويلا إلي أن قرأت منذ يومين نبأ وفاته في برشلونة وحيدا داخل حجرة بفندق. تذكرت عينيه اللامعتين وبكاءه عند البحر. تخيلت أنفاس الموت تنزلق على جدران حجرته وتسرى لتطوقه وحيدا في سرير بارد. هل حدق بحياته في الفرصة الأخيرة ليجد ما تبدد منه؟ أم أن فزع الروح من النهاية أسلمه إلي لوثة سخرية من كل شيء؟ أو تراه نهض يودع العالم من نافذة حجرته يعزي نفسه بأنها رحلة أخيرة إلي كينونة أبدية؟