3/3 تعلمت من أبي أطال الله في عمره، أنه إذا أردت أن أتكلم عن شخصي لا أقول "أنا..أنا..أنا.."، وأن أبدي شيئاً من الوقار والاستحسان لمن أكلمه أو أتحاور معه. وهنا ما أعمله في هذه السيرة، التي هي عبارة عن مقالات من سيرتي الذاتية، أود التكلم فيها للقراء، إذا تفضلوا طبعا بقراءتها، عن شخصي وسيرتي الذاتية مع المسيحية. في الحقيقة كنت قد نشرت عبر هذا المنبر مقالتين حاولت أن ألخص فيهما بعض الأمور والمعطيات التي جعلتني أهتم بالفكر المسيحي ولا أقول الدين المسيحي، فالمسيحية لعمري ليست ديانة بل رسالة؛ لذلك فهمت منذ مرحلة متقدمة من عمري أني إذا أردت أن أحكي لأي كان عن حياتي المسيحية مستقبلاً، فسيكون عليّ أن أحكي قصصا متباينة ولكنها في نهاية المطاف متكاملة من "سيَري" الذاتية التي قد يستفيد القارئ بمعرفتها. حكايتي مع المسيحية سيرة قائمة بذاتها وحكاية لها حبكتها الخاصة؛ لذلك أحب أن أشارك القارئ الكريم (وخصوصا من القراء الشباب) جزءاً صغيراً من سيرتي المسيحية، الغاية من هذه المشاركة أن أوضح فكرة أساسية، وهي أن فعل الاستحضار الذي أخذته من أحد الكتاب المغاربة المرموقين (لم أذكر اسمه هنا لأنني لم أستأذنه في التكلم عن نظرته للاستحظار) من خلال بعض كتاباته، والذي تكلمت عنه في المقالتين الأخيرتين من خلال هذا المنبر، وكما عرفه المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي في كتاباته ومقالته التي عنونها ب"ما وراء الفلسفة وعلم الكلام"، ودراساته للتاريخ الراهن والقديم، في حقيقتها سيرة ذاتية وتاريخ فريد يختلف من شخص إلى آخر؛ بحيث يمكن أن نستفيد من اطلاعنا على تفاصيل كل "التاريخ القرائي"، فكلمة histoire في الفرنسية وhistory في الإنجليزية مشتقتان من لفظة سنسكريتية قديمة تعني "الحكمة"، فلا يمكننا أن نكتشف الحكمة إلا في التاريخ كما يقول الجابري في دروس الفلسفة لمّا تكلم عن التذكر والنسيان (1966)، فمنذ زمن القرائيين والكتبة اليهود (كتبيم) كانت الحكمة تستنبط من الكتابات المقدسة والكتابات التفسيرية لها كالجمارة والمشنا. يستغرب بعض أصدقائي (وأحياناً يغضبون أيضاً) عندما أحدثهم عن استحضار الله في الإنسان؛ لذلك أكون مضطرا أحيانا لأبين لهم أني قرأت هذا المفهوم أولاً في معظم الكتابات التي تتكلم عن الاستحضار من خلال الكتابات الفلسفية والتاريخية وليس الدينية فقط، والتي لها علاقة بالمسيحية، وأسرد لهم بعض المقاطع من هاته الكتب الفلسفية والتاريخية. استغرب أحد أصدقائي ذات يوم عندما بدأت أناقش معه تفسير الجلالين للقرآن؛ إذ بينت له خلوه من تفسير الكلمات القرآنية العديدة التي جاء ذكر الروح فيها؛ لأن ذكر الروح هو استحضار لله في جل الكتابات الدينية، سواء اليهودية أو المسيحية... كان أفضل صديق لي في دراستي وفي بحثي المقارن هذا صديق صحافي لا أود ذكر أسمه هنا لاعتبارات حميمية وخصوصية، كنت ألتقي به يومياً على الساعة الخامسة بعد الزوال لنتناقش (ألتقي به في محل أبي لبيع الأثواب بشارع عبد الله الصنهاجي الشهير بالبيضاء)، ونتحاور في الأمور الثقافية والفكرية التي تتجاوز سننا، نتحادث حول الروايات الحديثة والقديمة التي قرأها وعن مغامراته. كان أقرب الناس إليّ دائماً أناس مدمنون ونهمون في قراءاتهم للكتب والمجلات العلمية، فالكتاب سيرة ذاتية قائمة الذات في تاريخي الصغير الذي أسميه تاريخا؛ لذلك سأحكي لكم بعض المشاهد الأساسية في هذه السيرة إذا كان الأمر يهمكم بطبيعة الحال. تبتدئ قصتي مع المسيحية مع منتقد للرسالة المسيحية مشهور يدعى أحمد ديدات. لست أدري إن كنتم تعرفون هذا الرجل؟ كان يبدو لي رجلاً محنكاً ومقتدراً في دحضه للأفكار والمعتقدات المسيحية مع المتناظرين معه من المسيحيين الغربيين. تعرفت على كتابات أحمد ديدات عندما كان سني ستة عشر سنة على ما أتذكر، ككتاب "الاختيار بين الإسلام والمسيحية" و"هل مات المسيح على الصليب"، وكتاب "من دحرج الحجر" الذي تم منعه بأمر من مديرية أمن الدولة بمصر لأنه يسيء للمسيحية، وكتاب "هل الكتاب المقدس كلام الله؟"، وأخيراً كتاب "الصلب وهم أم حقيقة؟". لقد كنت أعيش في ذلك الوقت الذي قرأت فيه هاته الكتب النقدية لأحمد ديدات، وغيرها من مئات الكتب الفلسفية والدينية والتاريخية، أزمة وجودية حادة؛ إذ كنت أتساءل دائما عن حضور الله وغيابه في حياتنا الاجتماعية والدينية، وهل يمكننا أن نسأل الله عن هاته الحروب والفقر الذي يقبع فيه الناس بسبب سياسة الحكام والسياسيين؟ وهل يمكننا مساءلة الله كذلك عن عدم معرفتنا به؟ ولماذا هو مُستتر علينا؟ هل بالضرورة يجب أن نعرفه من خلال القرآن والتوراة والإنجيل؟ أليس الله مجرد وهم نتمثله في حواسنا وفكرنا؟ أليس الإنسان هو من صاغ مفردة الله ليستكين إليها حسب ما أفهمتنا الأنثروبولوجيا الحديثة؟ وهل الحياة لها مصدر حي لا نعرفه؟ في سن العشرين اكتشفت لأول مرة أن "الحياة" (بالمعنى البيولوجي للكلمة) لا يمكن أن تكون مجرد امتداد طبيعي للمادة الميتة كما تقول بذلك النظرية الداروينية والمادية الماركسية، فتجارب باستور أقنعتني بأن "الحياة" لا يمكن أن تأتي إلا من "الحياة"، الباكتيريا لا تأتي إلا من الباكتيريا، والعُضيات لا تأتي إلا من العُضيات، فمن أين تأتي الحياة إذن؟ ممَّ خلقت هذه الحياة؟ ومم خلق الجنس البشري؟ لقد كانت هاته الأسئلة أسئلة وجودية؛ لأنني أعتقد أن هناك شيئا غير مفهوم في معتقد آبائي وأجدادي الذي تشربته، لكن لا أستطيع التفكير فيه دائماً وأحاول أن أتناسى السؤال في الدين والتدين بالمعنى السوسيولوجي، فهذا المعتقد الذي اختارته لي جغرافيتي بدون استئذان لم يجبني على جلّ تساؤلاتي الوجودية التي أحاول أن أسلوها، حسب اللسان العربي، ومنها الاستحضار الإنساني وحضور الله في الإنسان والتاريخ. توجهت بعد ذلك إلى دراسة الكتابات الفلسفية والاهتمام بشأنها النقدي والبنيوي، تعلمت الكثير من دراستي لتفكيكية "دريدا" ووجودية "سارتر". تعلمت من الفلسفة العمق في التفكير (ولو أني أبدو ساذجا من الناحية الاجتماعية كما يقول معارفي)، والوضوح في التعبير، والتأني في تبليغ الأفكار، والتفصيل الدافع في الشرح. كما تعلمت من الفلسفة أن حياتنا تتضمن سرا أعمق بكثير من السطحيات التي تعلمتها من الفقهاء ورجال الدين الذين صادفتهم في مشواري الدراسي والبحثي؛ لذلك قررت أن أتعمق أكثر في الدرس والتحصيل. قصتي مع الفكر المسيحي طويلة وغنية سأحكي لكم عنها بالتفصيل، يكفي أن أذكر لكم الآن أني كنت قارئا نهما للإنتاجيات الفلسفية الرصينة، فقد قرأت العديد من كتابات كارل ماركس وبرغسون وهيغل وإيمانويل كانط...، كذلك تعرفت على كتابات محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون في الفلسفة والفكر الإسلامي، قرأت كل هاته الكتابات قبل سن العشرين، فصار عندي سؤال آخر ليست له علاقة بالاستحضار الإلهي في الإنسان، إنه الإيمان وسؤال العقل الترنسنذنتالي، كما يقول كانط. من المعروف أن الخصائص العامة للعقل تتحدد في أنه كوني، يقبل التداول والانتشار، الإقناع والاقتناع، في مقابل الإيمان الذي هو مرتبط بمفاهيم مختلفة عن الأولى، وأحيانا على طرفي النقيض، فهذا الأخير ذاتيّ يعتمد مفاهيم الكشف والتسامي. تبعا لذلك، فالأشياء التي نصل إليها عن طريق العقل لا يمكن أن نخضعها للأمور التي ترتبط بالإيمان؛ إذ هما من طبيعتين مختلفتين، وكذلك على مستوى منهجهما. تأملوا معي قول رينان (rinan): "الإيمان أمر واقع وجب أن نناقشه كأمر واقع"، إنه شيء منته في دواخل الفرد، بعيدا عن ذوات الآخرين. أما الدين، فالبحث عن الأصل الاشتقاقي له في أصله اللاتيني يوصلنا إلى أنه يعني الرابط الذي هو – في هذه الحالة – رابط يجمع مجتمعا ويجعله متماسكا، وهذا ما ذهب إليه الأنثروبولوجي الإنجليزي جيمس فريزر (jemes george frazer) (1854-1941 م) صاحب كتاب "الفلكلور في العهد القديم". وتدلنا قصة عالم الاقتصاد "أدم سميث"، مثلاً، على حجم تحكم الروابط في الاختيار الديني، فصاحب كتاب "غنى الأمم" يروي لنا أنه أخذ لمّا كان في عمر الثالثة من طرف عمه إلى مذهب غير ذلك الذي ينتمي إليه والداه، ويجعلنا هذا الانتساب المذهبي الجديد لأدم سميث على يد عمه نتساءل: هل كان ليفعل الأمر نفسه لو لم يتدخل هذا العم؟ أو لم يكن أصلا سيؤمن بالمذهب بنفسه؟ أم إنه سيعتقد بأن "الدين الحق" هو شيء آخر ربما هو ما وجد عليه أبويه؟ ما الفائدة من هذه القصة؟ لنقم بتجربة بسيطة، لنتخيل أننا "أدم سميث"، هل كنا سنكون مختلفين عن الطفل ابن الثالثة في إيمانه الطفولي؟ ما نقوله عن "أدم سميث" يمكن أن نقوله عن أي إنسان غيره ولد لأبوين وعاش طفولة مع غيرهما، ماذا يا ترى يكون دين الأجداد عندهم؟ توليد الأسئلة والأمثلة ليس بالأمر الصعب، يمكننا أن ننظر إلى كل أولئك الذين ينشؤون في عائلات تتبناهم، وسنتأكد أن الدين مسألة ظروف ومصادفات، يغلب في تحديدها الميلاد ثم الوسط الديني الذي يعبر فيه كل فرد، من هنا تكون الإجابة المفترضة عن الادعاء بالقول "ديني صادق وغيره غير صادق!" هي: هل أنت متأكد أن دينك فعلاً هو صادق؟ أم إنها المصادفة؟ ومن هنا نتساءل بكل جرأة وبلا تطرف: هل الإسلام دين صادق؟ أم التاريخ والجغرافيا أنشأته؟ هل كوني عربيا فأنا مسلم بالضرورة؟ لكم أن تخمنوا كم هو صعب هذا التحدي! *عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية