المرجو أن تتفتح أذهانكم لما خطته يدي هنا، فأنا لا أريد أن أقنعكم بأن اللاهوت ظهر بالناسوت، فقد سبق أن حدثتكم عن مفهوم "ابن الإنسان"، وعن مفهوم "ابن الله"، وذكرت لكم الطرق العديدة التي عرفت فيها بأن المسيح هو التجسد الإلهي على الأرض في مقالاتي المعنونة ب"شذرات من سيرتي المسيحية". أذكر، هنا، كيف تعرفت على المسيح، عبر راديو يبت من مرسيليا بادئ الأمر؛ لكنني أذكر أيضاً أنني سمعت عن المسيحية من خلال التعليم والوسط العائلي مع بعض أفراد عائلتي بالخارج، سمعت بالمسيح لأول مرة في سن ال18 من عمري، أي السنة التي اختلت فيها كل موازيني المعرفية، وفقدت الثقة بشكل شبه كامل في ما توصل به العلماء عن الله والوجود، فقدت الثقة في الفقهاء الدينيين وصناع القيم، فقدت الثقة في السلطة السياسية (السلطة السياسية هي صانعة القيم الدينية)، فقدت الثقة أيضاً في الإعلام المؤدلج وفي كل متكلم عن الأخلاق من خلال الدين الإسلامي، وفقدت في الأخير الثقة في مصداقية المعرفة الإنسانية عن الله، كيف ذلك؟ قبل أن أحكي لكم هذه القصة، أريد أن أستطرد قليلا لأشير إلى مسألة مهمة: عندما تروي سيرتك الذاتية المتعلقة بإيمانك الفردي قد تولد انطباعا خاطئا عند قارئك مفاده أنك مبشر متخفي، ومن الذين يكرسون كل وقتهم لإقناع الآخرين بما يعتقدون أنه الحقيقة الروحية الوحيدة وغيرها ليس كذلك... هذا ليس صحيحا بالنسبة إلي على الإطلاق. فقد كانت سنة 1999 التي تعرفت فيها على مسيحيين مغاربة مليئة بالصخب الشبابي، لكن بالموازاة مع ذلك فهذه السنة (1999) هي السنة التي قرأت فيها كتابا لمحمد عطاء الرقيم، عنوانه "عيسى يبشر بالإسلام" (هذا الكتاب صدر سنة (1990) وترجمه إلى العربية: شعا حنفي بدمشق)، وهي السنة التي بدأت أدرس فيها بعض الكتابات المخالفة لمنطق الإيمان، ثم كتابات شبه لا دينية مثل "الماركسية وفلسفة اللغة" (هذا الكتاب من تأليف الباحث المغربي المرموق محمد البكري سنة 1986)، وهي أيضاً السنة التي درست فيها كتبا ذات توجه مسيحي، الجامع بين هذه الكتب (وأخرى كثيرة قرأتها في الفترة نفسها تقريبا) أنها شككتني بشكل جدي في جدوى المعرفة الدينية ومصداقيتها. تعلمت الكثير عن تعدد المنطق، وتعدد الرياضيات، وتعدد العلوم، وسديمية الحقيقة، ووهمية اليقين...اختلطت علي الأوراق لأجد نفسي أؤمن بكل شيء ولا شيء في الوقت نفسه.. اقتنعت بأن كل ما يمكن أن نفعله هو أن نحاول أن نفهم العالم المحيط بنا (إن وجد هذا العالم أصلا)، هو أن نبني نماذج أو تمثلاث أو نظريات نصور بها هذا الواقع بشكل رمزي تنخره أوهامنا وإيديولوجياتنا. وبهذا، وصلت إلى الاقتناع شبه تام بقول فايرباند الشهيرة "كل شيء ممكن". كان هذا التيه المعرفي يتعايش في حياتي مع إيمان متفائل إلى حد التطرف ببساطة الحياة وجمالها... بقدرة الإنسان على التطور إلى الأفضل.. بالطيبوبة الأصلية للناس... وبضرورة الاستمتاع بالحياة. لكن كان لديّ إشكال أن أزاوجا ما بين العقل والإيمان المسيحي! الإيمان والعقل موضوع قديم جديد، بل إنه قضية لا تموت لأنها تلخص مشكلة الهوية الإنسانية والكينونة البشرية، وتحدد مصيرها، إذن، ما هو العقل؟ وما هي طبيعته؟ وكيف يشتغل؟ وهل هو ملكة لها حدودها؟ أم هو قدرة بلا قيود؟ وما علاقة الإيمان وقضايا الاعتقاد بالعقل وحدوده؟ إن هذه الأسئلة مدخل للموضوع "علاقة العقل بالإيمان المسيحي"، ومقدمة يستعان بها على تعميق البحث والدرس في قضية خطيرة انتبه إليها اللاهوتيون، وطرحها الكثير من المفكرون والفلاسفة من الأمم والأعراق المتعددة، ف"قضية العقل والإيمان المسيحي" ما زالت إلى حد الآن تشغل بال الكثيرين من أهل العلم والدين في دنيا المسيحيين ودنيا غيرهم أيضاً، ففي حوار صحافي أجري معي (15 يناير 2015) كنت قد قلت "إن القديس أوغسطين هو مكتشف ما يسمى بالكوجيتو قبل ديكارت، ذلك ما قاله الباحث في صناعة الأفكار، الأستاذ الجامعي بجامعة نيويورك ريتشارد ديسورجي ذو الأصول الأسيوية، وإذا كان هذا صحيحاً، فإننا نستطيع القول إن الشك ابتدأ مع المسيحيين الأولين الذين يمثلهم أوغسطين، بإعادة الاعتبار إلى العقل وربما بأكثر ما يستحقه فعلاً، فهو القائل "أحب الله وأفعل ما تشاء" في مذكراته المعروفة، أي أحب الله ولا تفعل إلا ما تراه صواباً بعقلك، فالمحبة أيضاً فعل عقلي كذلك، ذلك ما نستشفه من رسالته "حوار مع الأكاديميين"، إذ يضع الطبيعة البشرية وقصورها بصفة عامة، أي يشك ويضع الفرق بينه وبين الشكية القديمة، وذلك من خلال وجهين أساسيين: الأول - إن الشك عند القدماء لا يشمل روح الإنسان وجميع قدراته، ونادرا ما وضع هؤلاء العالم الخارجي نفسه موضع شك، بل إن أوغسطينوس هو من فعل أولاً، فكان عنده الشك العقلي شاملاً وعاما يمس كل شيء، لذا فإن الشاك يجد سعادته في مسائلة العقل؛ الثاني - الشك اليوناني القديم هو موقف نهائي من المعرفة، إذ هو من طبيعة العقل نفسه وعجزه عن الإدراك، أما الشك عند أوغسطينوس وغيره من المسيحيين فلم يكن توقعا أملاه الوعي بحدود العقل وتصوره عن بلوغ الحقائق العقلية. إن للعقل دورا في التصفية من الأوهام والأخطاء وتوجيهنا الوجهة المثلى نحو الصواب، وللإيمان دور في تحريرنا من المواقف المسبقة إذا تكامل مع العقل، وفصل العقل عن الإيمان لن يكون إيجابيا، إذ اعتبره ديكارت - في البداية - الشيء الوحيد الموجود يقينا، وبهذا أصبح أساسا لما بعده من المعارف، هكذا ينتهي الشك عند ديكارت بإعادة الاعتبار إلى العقل، وربما بأكثر مما يستحقه فعلاً، ولكن هذا لم يمنعه من الاعتراف في آخر كتابه "التأملات"، يضيف الطبيعة البشرية وقصورها بصفة عامة. أثار موضوع العقل والإيمان وفلسفة ديكارت ردودا متضاربة عند أصحاب اللاهوت الأخلاقي، وكان منها آراء المفكر الفرنسي هويي.. وبالرغم من أن اسم "هُويي" غير معروف اليوم لأكثر المثقفين من المسيحيين أنفسهم، كما أن كتبه لا تتداول، فإنه يستحق أن تفرد له مكانة خاصة في تاريخ العقلانية، وهذا بفضل كتاب الذي نشر سنة (1723) تحت عنوان "بحث فلسفي حول ضعف العقل الإنساني". استفاد هويي في هذا الموضوع من الشكيين القدماء، ومن آباء الكنيسة وعلمائها ومن ديكارت وغيرهم، ثم أضاف إلى ذلك تفكيره الخاص، اعتبر هويي أنه لا سبيل للعقل نحو إدراك كنه الأشياء، لأن تعريف أمر ما يكون بالجنس والنوع، والجنس نفسه يحتاج إلى تعريف... وهكذا يتسلل البحث إلى غير نهاية، والقياس لا ينفع هنا، لأنه يدور في حلقة مفرغة كما أن البداهة ليست معياراً للحقيقة، لأنها لا تبدو كذلك لكل واحد، وحتى لو عرفنا حقيقة ما، لأن الأشياء لا تثبت على حال، بل هي في تغيير دائم، ثم كل الأشياء ترتبط في ما بينها في سلسلة لا تنتهي من الأسباب والآثار يستحيل أن نمسك بطرفيها. إن عجز الإنسان عن معرفة الحقيقة بيقين صفة ذاتية وأصيلة للنوع البشري، ولهذا انتهى فلاسفة كبار إلى الوقوف عند العقل وحده، لكن لا بأس في الحياة العملية من الاستناد إلى الآراء الراجحة أو التي تحتمل الصحة... ومن ثمّ، كان العلم مشروعا، إنما في موضوع الألوهية لا يمكن أن يكتفي الإنسان بالظنون والاحتمالات، فهو بحاجة إلى اليقين، وهذا لا سبيل إليه - في هذه القضية أو نحوها - إلا بالإيمان، ولهذا لا تجب أن تكون الغاية الأسمى للعقل هي الوصول إلى هذه الطمأنينة السلبية التي قال بها الفيلسوف اليوناني pyrrho بيرون (360 - 270 ق.م) وأتباعه، بل إعداد العقل لتلقي الإيمان والاعتقاد بعد أن تنزع منه ثقته الزائدة في نفسه. *عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية، وباحث في مقارنة الأديان