منذ سنتين تقريبا، نشرت مقالة رويت فيها قصتي مع المسيحية.. وقد بيّنت في تلك المقالة أن دراستي للاهوت المسيحي كانت شاقة لعليّ أجد إجابة أو شبه إجابة، كما قال عني يوسف الساكت، صحافي جريدة الصباح، في (28 نونبر 2014). لقد طرحت السؤال التالي: هل يمكن للعقل أن يدرك الله؟ كيف يستطيع العقل الإنساني أن يصل إلى الحقيقة؟ أن يستحضر موضوعه في التجربة الذاتية بشكل يجعل هذا الموضوع يبدو حقيقيا، بينت أن العقل لا يجيب عن هذه الأسئلة. وبما أن قدرة الاستحضار هي التي تميزه عن الحاسوب، فإن العقل لم يستطع أن يفهم من هو الإنسان؟ أو أن يقترب منه بشكل يقرب حقيقته، بعد ذلك أخذت أقرأ بنهم كل ما حصلت عليه من كتب ومجلات علمية تتكلم عن وظيفة العقل في فهم الموجودات، وعلاقة العقل بالإيمان، وكيف نظر إيمانويل كانط immanuel kant (1724 - 1804 م) إلى العقل "الترانسندنتالي transcendentale" في فهمه للإيمان والتدين من خلال الفهم الميتافيزيقي، مع العلم أن إيمانويل كانط immanuel kant محسوب على المنهج الفلسفي العقلاني الذي لا يستسيغ الإيمان ولا يتهادن معه. سأشرح لكم رأيي في مقالات مسترسلة، سأتجنب فيها التعقيدات اللاهوتية التي يمكنكم قراءتها بالكتب المسيحية، متحريا التبسيط ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. لقد كانت القراءة هي عزلتي التي آوتني منذ زمن الطفولة (وحتى الآن)، عزلتي التي ألجأ إليها كلما شعرت بأنني أحتاج إلى أن أقرأ شيئا جديداً ومشاكسا، فأشعر عندها بهم أن أشارك ما قرأته مع محيطي الصغير، ومن يتقاسم معي الهم المعرفي نفسه. وأفترض مسبقاً أنكم أعزائي القراء تتقاسمون معي الهم نفسه، لذلك سأشارككم عبر مقالات مسترسلة شذرات من سيرتي المسيحية لتتعرفوا على هذا الإنسان المتمرد والمشاكس والمتطرف معرفياً كما يقول عني القريبون مني. أظنُّ أنني أمنحُ للقراءة وقتاً أكثر من الكتابة، أقرأ كثيراً، مثلما قال عباس محمود العقاد: "أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني" (حالياً أشتغل على قراءة كتاب بعنوان "تطور الإنجيل" لمؤلفه إينوك باول enoch powell والصادر بالولايات المتحدةالأمريكية عن جامعة "ييل yale" والذي خلق ضجة وسط الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية). إلى حدود سنة 1996، لم أكن أعرف شيئاً دقيقاً عن الفكر المسيحي، كنت أكره اليهود، وكنت أعتبر المسيحيين “ضالين”، حسب القراءة القرآنية، وكنت أعتبر كتبهم (التوراة والإنجيل) مجرد مُستغلقات أسطورية وتاريخية غير قابلة للفهم، وأكثر من ذلك أنها مُحرفة. وإن الذي جعلني واثقاً من هذا الحكم الجائر، كما سأكتشف فيما بعد، هو تربيتي الدينية المحافظة ومعرفتي بالفقه الديني الإسلامي في تلك السن الصغيرة (13 / 14 سنة)، وكتب النوازل للونشريسي الأندلسي وابن النديم والجاحظ وسيد قطب والمودودي. أذكر أنني قرأت لهذا الأخير كتابه بعنوان “الدولة الإسلامية والحاكمية” الذي أراد أن يؤسس لمفهوم الدولة الإسلامية، لأقتنع بعد قراءتي لصفحات قليلات بأن المودودي رجل دين غير عقلاني وغير مفهوم؛ وهو ا جعلني ألقي بكتابه جانبا. لست أذكر كيف قررت أن أقرأ كتاباً لعبد الصبور شاهين بعنوان “أبي أدم”. كل ما أذكره هو أن الكتاب كان كتابا عن “الجنة ومكانها والأبوين الأولين” لهذا الرجل الذي كان يعتكف بمسجده يقرأ ويتأمل بجمهورية مصر الشقيقة، والذي أنهى كتابه هذا سنة (1998) وقدمه كهدية إلى الملك الحسن الثاني في الدروس الحسنية في السنة نفسها.. لم أفهم ماذا يريد أن يقوله عبد الصبور شاهين من قراءتي الأولية لكتابه؛ ولكنني بدأت ألاحظ أن عبد الصبور شاهين ينطلق من مسلمات توجد عند المسيحيين واليهود فقط، وأن هذا الكتاب يقول شيئا مهماً جدا ينبغي أن أفهمه بإعادة قراءة هذا الكتاب وبدراسة كتب أخرى بصبر واجتهاد العلماء وتواضعهم.. لاحظت ثلاثة أمور مهمة في كتاب عبد الصبور شاهين، أولها أن عبد الصبور مهتم بالإنسان في حقيقته، الإنسان كما يمارس حياته في وجوده. ثانياً أنك لتفهم عبد الصبور جيداً ينبغي أن تسمح له بأن يلهمك بلغته وسلاستها الفريدة التي تجمع بين المجاز وبين الحقيقة في انسجام يندر أن تجده عند كاتب إسلامي آخر، فهو يختلف عن رجال الدين المُسلمين ورجال الفقه والفتوى الذين أصبحوا بأعداد كثيرة اليوم، إذ نراهم يفتون عبر القنوات الفضائية التي نبه منها رئيس دار الحديث الحسنية محمد الخمليشي، والذين تعودت عليهم في ثقافتي الأسرية والدراسية، فعبد الصبور شاهين يميل إلى تحري الدقة المعرفية من ناحية مصادر الكتب العلمية والبيبلوغرافية، تحتاج النقطة الثالثة إلى بعض التوضيح. كتاب “أبي أدم” هو كتاب مبني على المعتقدات الإسلامية واليهودية والمسيحية، صدر سنة (1998) ثم أعيدت طباعته بواسطة مؤسسة أخبار اليوم المصرية، وقد أثار هذا الكتاب ضجة بالعالم الإسلامي، إذ بعض رجال الدين تجرؤا واعتبروا مؤلف هذا الكتاب قد كفر. يرى الشيح عبد الصبور شاهين في كتابه “أن أدم هو أبو الإنسان، وليس أبا البشرية الذي هو خلق مختلف عن الإنسان الحالي، فاصطفى الله منهم أدم ليكون أب الإنسان”، وهو ما أشار إليه إله القرآن ب”النفخ في الروح”، فأباد الله الجنس البشري فلم يبق منهم إلا أدم، فعدله الله وسواه كما ينص القرءان “الذي خلقك فسواك فعدلك”. ويستدل الشيخ عبد الصبور شاهين بآيات كثيرة على وجود البشر قبل الإنسان؛ ولكنهم كانوا خلقاً أخر غير معدلين بروح الله، وهو ما دعا الملائكة عندما أخبرهم الله أنه سيخلق أدم لأن يقولوا :”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”. يرى الشيخ عبد الصبور شاهين أن هذا كان قبل أن يصطفيه الله ويعدله ويسويه، بأن ينفخ فيه من روحه فيصبح عاقلاً..، يقول إله القرآن :”فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”. وخلاصة الأمر أن آدم ولد من أب وأم بشريين تطور هو بعدهما ليصبح أبا الإنسان المميز بالعقل المقيد بالشرائع والقوانين. لم يجد الأزهر في نظرية الدكتور عبد الصبور ما يؤدي إلى تكفيره غير أنه نفى أن تكون نظريته صحيحة، وأن أدم في الواقع هو أبو الإنسان وأبو البشر على السواء؛ لكن في مناظرة تلفزيونية واجه الدكتور زغلول النجار الدكتور عبد الصبور شاهين وجهاً لوجه، ووصف نظريته بأنها ترسبات للفكر الوجودي، ثم أعاد ترتيب رأيه في محاضرة على قرص مضغوط يرد فيها على الدكتور عبد الصبور شاهين من دون أن يسميه واصفاً إياه ب”أحد أساتذة اللغة”؛ غير أن محاضرة الدكتور زغلول النجار خلت من أي رد تفصيلي على نظرية عبد الصبور شاهين، واكتفى النجار بذكر الأساسيات الواردة في أمهات الكتب بخصوص هذا الأمر. وقد أورد الروائي السعودي محمد عزيز العرفج في روايته “الدور الأعلى” شيئاً عن الموطن الأصلي لأدم وحواء وابنيهما قابيل وهابيل على لسان بطل الرواية سعود الخير الله، حيث ذكر البطل أنه حاول أن يتواصل مع عبد الصبور شاهين لإبلاغه بأن أرخبيل “سقطرى” هو الموطن الأصلي لهم لصفاتها الساحرة من الأشجار والطيور النادرة وعدم وجود الكلب فيها، إلخ. كما أنه يوجد بها شجرة تسمى شجرة دم الأخوين، حيث يذكر الرواة أنها خرجت من دم هايين (هابيل) المقتول من أخيه قايين (قابيل)، وقد ذكر شاهين في كتابه بأن جنة أدم وحواء هي من جنان الدنيا وليست جنة المأوى. وقد رفعت في المحاكم المصرية أربع دعاوى ضد المؤلف؛ لأن كتابه يشكك في الكثير من الأسانيد الإسلامية. ما أردته من سرد بعض التفاصيل بخصوص هذا الكتاب “أبي أدم” هو أن أبين أن العقل البشري لا يدرك كنهه؛ لكن هذا الكتاب أحالني على النص التوراتي الذي تكلم عن “النفيليم” (مخلوقات شبه ملائكية)، التي لا يزال التضارب اللاهوتي لم يعطنا جواباً عن دورهم في حياة الإنسان. فلربما وجدت في التوراة ما لم أجده بالقران ووجدت ما بكتاب “أبي أدم” ما لم أجده في باقي مئات الكتب الدينية التي درستها ! *عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية (mada)