هذا العنوان ليس سوى عبارة أخذتها من قصيدة ألقتها شاعرة في لقاء شعري حضرته، ورغم أنني حقيقة لم أفهمه جيداً، وحاولت قدر المستطاع أن أفهمه وأحلله لكنني فشلت في ذلك، لأنني حقيقة لم يسبق لي أن رأيت أعشاشاً تتكلم أو تعوي أو حتى تبكي. سيقول قائل ما أن هذه العبارة هي صورة شعرية تدخل في إطار الغموض والرمز الذي يعرف به الشعر الحديث ويميزه عن غيره من الأجناس الأدبية والكتابية والتعبيرية الأخرى، لكن هذا القائل، إن وجد طبعاً، يتناسى أن الشعر الحديث بخصائصه هذه يتطلع إلى استغلال الغموض والرمز والإيحاء في مستوى معين من اللغة المقبولة والتي تحاول أن تستغل الانزياح ليس إلى حدود غير منطقية أو حتى موغلة في الجهل بها أو حتى في إدخال صور غريبة لا يمكنها أن تقدم معنى معبراً عن فكرة أو قضية. وإذا ما عدنا إلى العبارة التي جاءت في عنوان هذه المقالة "الأعشاش تعوي تحت إبطي"، نجد أنها عبارة غريبة لا تعني شيئاً اللهم إذا كانت الشاعرة تقصد أن الأعشاش التي تريده هنا هو (شعر الإبط) وليس الأعشاش في حقيقتها. إن قراءة متأنية لبعض القصائد التي بدأت تتهاطل علينا من كل حدب وصوب تقودنا إلى الخروج بحقيقة واحدة هو أن الجميع بدأ يستسهل الشعر ويعتبره مجرد مدخل لولوج عالم الكتابة والاعتراف به ككاتب، فأغلب من نعرفهم ومن لا نعرفهم ويعرفهم غيرنا طبعاً، قد بدأوا بكتابة الشعر وقتلوه إبداعاً وشنقوه على مقصلة اللغة المسكينة وذبحوه من الوريد إلى الوريد ثم جلسوا يبكون عليه وعلى ما آل إليه حاله كأنهم لم يكونوا من الزمرة التي أجرمت في حقه، ثم بعد ذلك وبسرعة قياسية تحولوا إلى كتابة أشياء أخرى حتى لا نقول إنهم كتبوا أدباً. ولعل القارئ الكريم يتفق معي أن هناك مجزرة تقع في حق الشعر كل عام بمناسبة اليوم العالمي الذي يصادف 21 من مارس، حيث الكل يريد تنظيم الأمسيات الشعرية وجميع المواطنين يريدون أن يقولوا الشعر ويصعدوا منابره للإلقاء والتغني بقصائدهم التي أقصى ما يمكن وصفها به هو الهراء أو بالأحرى "شعر خَيْرَة" ولعل العديد من القراء والأصدقاء يعرفون ما أقصد بشعر خيرة هذا. من هذا المنبر أدعو كل الكتاب الذين يكتبون الشعر، وحتى لا أقول الشعراء، لأن هناك فرق بينهما كالفرق بين الجامد والمتحرك، أن يقرأوا ما يكتبونه قبل أن يغامروا بنشره أو بإلقائه، فلو فعلوا ذلك لوجدوا أنفسهم يقترفون المجازر اللغوية ويقدمون للقراء والجمهور كلاماً ينتفض ويعوي- إذا صح التعبير وكان الكلام يعوي هو الآخر مثل الأعشاش- من الظلم الذي يلحقه على أيديهم أو بالأحرى على ألسنتهم. هذه الدعوة ليست نابعة من عجرفة أو تعالٍ فكري أو نقدي أو معرفي، وإنما من رجل يسمع رداءة وتفاهة فأحبَّ أن ينبه قائليها إلى مخاطر ذلك عليهم وعلى اللغة العربية وأدبها عامة، ويشاهد مهازل ويعيشها في ملتقيات شعرية يؤثثها العشرات من الشعراء ولا أجد منهم إلا شاعر أو شاعرة أو هما معاً، يمكن حقيقة أن يستمع إليهم المرء بكل فخر ويقول إنني استمتعت بالشعر في هذه الأمسية أو تلك. عندما تنتهي هذه الأمسيات الشعرية، وعندما يخرج الجمهور يجمع على أن الأمسية لم يبدع فيها إلا شاعر أو شاعرة وما تبقى مجرد مهرطقين أو "بياعي كلام"، وحتى لو كان من بين الجمهور نقاد وكتاب فإنهم لا يكتبون ويفضحون هذه الهرطقات التي يدعون، بل إنهم يتوجهون إليهم ويباركون قصائدهم وأشعارهم نفاقاً وزوراً، فهل بمثل هؤلاء المنافقين سنرقى بشعرنا وأدبنا؟، لا وألف لا. إن أول ناقد للنص الأدبي هو كاتبه ومبدعه قبل أي أحد آخر، لأنه مدعو لقراءته أكثر من مرة وإعادة النظر فيه قبل نشره أو إلقائه، فلا الفايسبوك وكثرة "الجيمات" أو التعليقات يمكنها أن تمنحه صك الاعتراف بالإبداعية. وإذا ما وجدت كاتبة أن قصيدتها قد حصدت الإعجابات الكثيرة والتعليقات المؤلفة فهذا لا يعني أن قصيدتها مميزة وفي من الإبداع ما لا يوجد في شعر المتنبي، فإن هذا لا يعني أن الأمر يتعلق حقيقة بكل ذلك وإنما هذه التعليقات والإعجابات موجهة لها هي كأنثى وليس إلى قصيدتها طبعاً حتى لو كتبت على جدارها بالفايسبوك الهراء أو العفن. فأغلب هؤلاء المعجبين والمعلقين لا يقرأون القصيدة وإنما يقرأون صورتها التي تصاحبها. فهم مستعدون لأن يجعلوا منها شاعرة لم تجدْ بها الدنيا وأنها تفوقت على كل أمراء الشعر وملوكه وأسياده وخدامه وندمائه، لأنهم يرون في جسدها القصيدة التي يقرأونها ويفهمون رموزها وإيحاءاتها، فهل بمثل هؤلاء المراهقين سنرقى بأدبنا وفكرنا ونتميز عالمياً؟ ثم بعد ذلك يأتي منا ويتساءل عن عدم وصولنا إلى العالمية بأدبنا وإبداعنا متناسين أن مثل هؤلاء المنافقين والمراهقين من النقاد قد فقدنا كل شيء وجنينا على أدبنا وفكرنا ولغتنا وإبداعنا.