كنت شرحت قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فُتِحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ) . بما خلاصته : يأجوج ومأجوج هم كل المفسدين في الأرض ، المجرمون عبر التاريخ من زمن آدم عليه السلام إلى القيامة . وخروجهم سيكون من القبور قبل الزلزلة الكبرى المذكورة في قوله تعالى من سورة الحج : ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) . وذلك ليشاهدوا القيامة وأهوالها من أولها إلى آخرها لأنهم كانوا ينكرونها قولا أو عملا ، وليس خروجا بالمعنى الشائع عند المفسرين والمحدثين القائلين بأن يأجوج ومأجوج قوم أحياء تحت ردم ذي القرنين ، وسيخرجون زمن عيسى عليه السلام للاستيلاء على الأرض وخيراتها ، وطرد المسلمين مع سيدنا عيسى إلى جبل الطور حيث نزلت التوراة في إشارة واضحة إلى أن القصة محبوكة من قبل المجلس اليهودي السري الذي كان مكلّفا بتدمير الإسلام فكريا . وقد اعتمدت في فهمي للخروج اليأجموجي على ثلاثة أمور : الأول : دلالة السياق ، إذ يذكر خروجهم مقترنا بالقيامة . الثاني : تفسير آية الأنبياء المبهمة بآية " يس " المفسَّرة ، وهي قوله سبحانه : ( فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) ، إذ تعني أنهم من قبورهم يخرجون وينسلون مسرعين . الثالث : نكارة أسطورة الخروج اليأجموجي التقليدية ومناقضتها للقرآن ، ثم لبدائه العقول وحقائق العلم . وقد واجهت رؤيتي هجوما شرسا من قبل الجامدين على التراث مُرّه قبل حلوه ، بلغ حدَّ التكفير حينا ، والتضليل أو التبديع أحيانا . وقد أكرمني ربي ، الفتاح الوهاب الكريم ، بالانتباه إلى آية تطابق شرحي لمعنى " فتحت يأجوج ومأجوج " ، وقراءة شاذة وحديث صحيح يؤكدان أن خروجهم يكون بالبعث من القبور عند الزلزلة الكبرى . ولا ينقضي عجبي كيف أضرب المفسرون والمحدثون عن ذلك إن لم يكونوا تجاهلوه . وإذا عرفت هيبة أحاديث وآثار الخروج اليأجموجي الخرافي وسلطتها على العقول والقلوب ، زال عجبك واطمأن قلبك أيها المسلم العاقل . وها أنذا أطرح ما كشفه الله لي بفضله ومنّه ، وأكّد لي أن تدبّر كتاب الله بعيدا عن الأساطير والخرافات المُسمّاة أحاديث ، هو الطريق الرباني السليم القويم ، إلا أن تجد حديثا يوافق ظاهر القرآن ، فإنه من مشكاة النبوة خرج . أولا : الآية قال تعالى في سورة " السجدة " : ( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) . ورد الفتح في القرآن بمعنى النصر العظيم للمسلمين على المشركين كما في سورة الفتح ، وقوله تعالى : ( من قبل الفتح وقاتل ) . ويعرف معناه ذاك من السياق . أما " الفتح " المذكور في سورة " السجدة " ، والتي انفردت من بين سور القرآن بهذا اللفظ / المصدر ، فيعني البعث من القبور يوم القيامة . فمنكرو الفتح / البعث يتساءلون دائما عن موعده إنكارا له واستفزازا للمؤمنين به . فيأتي الجواب الإلهي ساخرا من المستهزئين مرتين : الأولى : يخبرهم أن إيمانهم في حال حصوله عند الفتح لا ينفعهم ، أي : إذا كنتم تضعون احتمالا ضئيلا بأنكم ستؤمنون في حال صدق البعث ، فإن إيمانكم حينئذ غير مجد ، فانسوا ذاك الاحتمال . الثانية : يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المنكرين من قريش، لأنهم عطلوا عقولهم على الرغم من يقينهم النفسي بصدق نبوة سيدنا محمد ، فهم لا يستحقون إلا الإهمال. وهنا نتساءل : إذا كان الفتح في سورة السجدة هو البعث وانفتاح القبور عن الموتى كما تنفتح البيضة عن الطائر والأرض عن النبات . فلماذا لا يكون معنى فتح يأجوج ومأجوج هو البعث من القبور ؟ وعليه ، يصحّ التفسير والتأويل هكذا بفضل الله وكرمه : ( حتى إذا فتحت ) قبور ( يأجوج ومأجوج ) المجرمين المفسدين عبر التاريخ ( وهم من كل حدب ينسلون ) يخرجون من القبور المنتشرة عبر الأرض لكثرتهم مقارنة بالمؤمنين والمستضعفين في كل عصر ( واقترب الوعد الحق ) ، وذلك لأن الوعد الحق الذي كانوا ينكرونه قد اقترب ، فلزم بعثهم لمشاهدة أهواله وشدائده بداية من الزلزلة الكبرى ، فيندمون على إنكارهم البعث ويعلنون التوبة والإيمان : ( فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) . لكن ، قيل لهم قبل ذلك على لسان الأنبياء وأتباعهم : ( يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) . أما حين يندمون ويؤمنون ، فالجواب هو : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) . الجواب : ذاك هو المعنى المراد بدلالة سياق قوله تعالى : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ... ) . وهكذا يحدث التكامل بين آيات السجدة والأنبياء والحج . ولكن أكثر الناس مقلدون متعصبون للموروث المقدس . ثانيا : القراءة الشاذة القراءة الشاذة في أصلها حديث نبوي ، أو أثرُ صحابي يفسّر كلمة قرآنية بما يرادفها أو يفصّلها ويبيّنها ، لذلك فهي حجّة في التفسير مقدّمة على الرّأي عند جماهير المفسّرين ، إلا أنهم ربما تجاهلوها وأهملوها لسبب أو لآخر كما حصل في قوله تعالى عن يأجوج ومأجوج : ( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، حيث قرأها ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما (وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَث يَنْسِلُونَ ) . والجدث جمعه " أجداث " ، وهي القبور ، وإياها عنى الله سبحانه في سورة " يس " ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) . وقد كنا شرحنا آية الأنبياء المبهمة : ( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، بآية " يس " المفسَّرة لتفرّدهما بكلمة : " ينسلون " ، ثم جاءت هذه القراءة لتزيدنا يقينا واطمئنانا ، ففلله الحمد من قبل ومن بعد . أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/268) بإسناد صحيح إلى الإمام مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ صاحب المغازي قال : فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : " مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ " ، بِالْجِيمِ وَالثَّاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] وَهِيَ الْقُبُورُ . وفي معاني القرآن وإعرابه (3/405) للزجاج ت 311 : وقوله: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ، ورويت أيضاً ( من كل جَدَثٍ ينسلون ) . وفي "الإبانة عن معاني القراءات" (ص: 68) لأبي طالب القيسي ت 437 : ( وكان المصحف إذ كتبوه لم ينقطوه، ولم يضبطوا إعرابه، فتمكن لأهل كل مصر أن يقرءوا الخط على قراءتهم، التي كانوا عليها مما لا يخالف صورة الخط. فقرأ قوم مصحفهم: "من كل حدب" بالحاء والباء على ما كانوا عليه ، وقرأ الآخرون: وقرأ الآخرون: "من كل جدث" بالجيم والثاء على ما كانوا عليه. وفي تفسير القرطبي ت 671 : وقرئ فِي الشَّوَاذِّ : " وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ" أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: " فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ" . وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الصَّهْبَاءِ . ونسب هذه القراءة لابن مسعود ابن جني في " المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها " (2/66) . وعزاها لابن عباس : الزمخشري ت 538 في "الكشاف" ، والرازي ت 606 في مفاتيح الغيب . ونسبها لمجاهد بن جبر كل من الثعلبي ت 427 في تفسيره . وبناء على هذه القراءة التفسيرية ، سبقنا بعض المفسرين إلى ما قرّرناه بشأن " ينسلون " ، وأجلُّهم مولانا ابن عباس وتلميذه مجاهد : قال السيوطي في "الدر المنثور" (5/673) : أخرج الطستي عَن ابْن عَبَّاس أَن نَافِع بن الْأَزْرَق سَأَلَهُ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْله: {من كل حدب يَنْسلونَ} قَالَ: ينشرون من جَوف الأَرْض من كل نَاحيَة . قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك ؟ قَالَ: نعم ، أما سَمِعت طرفَة وَهُوَ يَقُول: فَأَما يومهم فَيوم سوء ... تخطفهن بالحدب الصقور . قلت : وهو في " مسائل نافع بن الأزرق " ص 138 . وفي تفسير الطبري (18/532) من طريق ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: هذا مبتدأ يوم القيامة. وقال الثعلبي في تفسيره : وقال آخرون: أراد جميع الخلق، يعني أنّهم يخرجون من قبورهم ومواضعهم فيحشرون إلى موقف القيامة، تدلّ عليه قراءة مجاهد: ( وهم من كلّ جدث ) بالجيم والثاء ، يعني القبر، اعتبارا بقوله سبحانه : ( فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) . وفي تفسير ابن عطية ت 542 : وقالت فرقة : المراد بقوله : ( وَهُمْ ) جميع العالم ، وإنما هو تعريف بالبعث من القبور ، وقرأ ابن مسعود : «من كل جدث» ، وهذه القراءة تؤيد هذا التأويل . وقال الرازي ت 606 في مفاتيح الغيب : وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ . ثم قال الرازي : وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْجَهُ وَإِلَّا لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ، وَأَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِذَا كَثُرُوا عَلَى مَا رُوِيَ فِي «الْخَبَرِ» ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْشَرُوا فَيَظْهَرَ إِقْبَالُهُمْ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ. قلت : هو أوجَهُ يا إمام عندك ، حتى لا تسقط أسطورة وجود يأجوج ومأجوج تحت أو خلف الردم ، وأنهم سيخرجون لغزو العالم ، وهي أسطورة دافعت عنها رحمك في تفسيرك سورة الكهف . والأوجه ما قاله الحبر ومجاهد من أن قوله تعالى : ( من كل حدب ينسلون ) يعني من كل قبور الدنيا يخرجون ويبعثون نظرا للسياق ، ثم للمؤيدات الواردة هنا . ثالثا : الحديث روى قَتَادَة بن دعامة وَأَبَان بن أبي عياش عَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه قَالَ: أُنْزِلَتْ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) , قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ ، فَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ حَتَّى ثَابَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ ، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا ؟ يَوْم يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ ، وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ " . قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ ، فَإِنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» ( تفسير عبد الله بن وهب 1/40 ، وتفسير عبد الرزاق (2/396) ، واللفظ له ، وتفسير عبد بن حميد ص358 ، وتفسير الطبري ت شاكر (18/561) ، وصحيح ابن حبان 16/352 ، ومستدرك الحاكم 1/81 و4/610 ، وإيمان ابن منده 2/905) وجاء عند ابن وهب : ( أَبْشِرُوا، فَإِنَّكُمْ مَعَ خَلِيقَتَيْنِ لَمْ يَكُونَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حدبٍ يَنْسِلُونَ) ، وَمَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البعير ) . قال الحاكم : هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ " وله شاهد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الصحيحين، ولفظه: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الوَاحِدُ؟ قَالَ: " أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ» ( صحيح البخاري ح 3348 و4741 و6530 ، وصحيح مسلم 379 - (222) ) وشاهد آخر قريب منه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وفيه : اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إِنَّكُمْ لَمَعَ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ إِلاَّ كَثَّرَتَاهُ، يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَبَنِي إِبْلِيسَ قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ القَوْمِ بَعْضُ الَّذِي يَجِدُونَ، فَقَالَ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ. ( مسند أحمد ح 19901 ، وسنن النسائي الكبرى ح 11277 و سنن الترمذي ح 3168 و 3169 ومستدرك الحاكم 1/81 و2/254 و2/417 و4/611 ) قال الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه الحاكم . وشاهد ثالث مشابه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في المستدرك على الصحيحين (4/ 612) ، وصححه الحاكم والذهبي . شرح الحديث : حين يحين وقت الزلزلة الكبرى الواردة في قوله تعالى : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) ، يأمر الله تعالى أبانا آدم ، تشريفا وتعظيما ، بالإذن للملك المكلف بالنفخ في الصور لينفخ إيذانا بخروج " بعث النار " من قبورهم ، وهم يأجوج ومأجوج العصور كلها ، أي الكافرون المفسدون المجرمون عبر التاريخ ، فتراهم ( من كل حدب ينسلون ) كما جاء صريحا في رواية ابن وهب ، وذلك لكثرتهم الفاحشة مقارنة بالمؤمنين والمستضعفين . وعدد تسعة وتسعين وتسعمائة قد يكون للتكثير فقط ، أي ليس على ظاهره ولا مفهوم له . ويجوز أن يكون عدد المفسدين المجرمين في النار يضاعف عدد أهل الجنة إلى ذلك الحد ، وذلك أنهم يكثرون في المستقبل ، ويطغون في الأرض قبل القيامة بقليل ، لأنها لن تقوم إلا على شرار الخلق كما جاء صريحا في حديث : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ " ( مسند أحمد ح 3735 و 4144 وصحيح مسلم 131 - (2949)) . وبالجملة ، فهذا الحديث صريح في تأييد نظريتي لأنه يربط بين خروج بعث النار من القبور، وفيهم يأجوج ومأجوج ( من كل حدب ينسلون ) ، وبين الزلزلة العظيمة على أثر ذلك الخروج . وبذلك يتأكد أن خروجهم يكون بهدف مشاهدتهم أهوال الزلزلة العظيمة وما بعدها من أهوال القيامة . خلاصتان عظيمتان : الأولى : كان المفسرون الأوائل من الصحابة ( ابن عباس ومجاهد وابن زيد ) يرون أن الضمير في ( وهم من كل حدب ينسلون ) عائدا على الموتى الذي يبعثون يوم القيامة ، وأن الفتح هو الشق عنهم في قبورهم لينتشروا . وهذا يعني أن أسطورة بقاء يأجموج أحياء تحت أو خلف الردم ، وأنهم يحفرون ليخرجوا يوما ما للسيطرة على الأرض وخيراتها ، لم تكن حقّقت الانتشار والتأثير حينئذ . ولكن بعد تدوين الحديث وذكرها في مدوناته ومصنفاته وصحاحه ومسانيده ، فرضت نفسها على المفسرين والمحدثين على حد سواء . وأحمد الله أنني وافقت المفسرين الأوائل ، وإن كنت انفردت عنهم في مسألة واحدة ، وهي أن يأجوج ومأجوج ليسو قوما محصورين في الذين قاومهم ذو القرنين ، بل هم هؤلاء ، وكل المفسدين والمجرمين عبر تاريخ البشرية ماضيا وحاضرا ومستقبلا . الثانية : استغل الكذابون الوضاعون من أهل الكتاب تصريحَ آيةِ الأنبياء وحديثِ أنس بن مالك وشواهده إلى كثرة " يأجوج ومأجوج " يوم البعث من قبورهم ، فنجحوا في تمرير أسطورتهم عن خروج قوم مسجونين تحت ردم ذي القرنين لغزو العالم وإذلال المسلمين وطردهم إلى جبل الطور المقدس عند اليهود . [email protected]