"يكذب السراب على الصحراء فتزداد عطشا" سعد سرحان المغاربة أقروا الدستور الجديد.. هذه هي الحقيقة الثابتة اليوم، لا يهمني الدخول في خدعة الأرقام الماكرة، ولعبة الحسابات الباردة لنسب المشاركة.. فالأمم لا تتقدم فقط بلغة الأرقام بل بالأحلام الكبرى والإرادة الفلاذية في السير نحو الأمام.. نتائج يوم الجمعة الماضي، يجب أن نستخلص منها الدروس والعبر، فالمغرب هو الذي انتصر في نهاية المطاف، ولو أننا في بداية الطريق نحو الديمقراطية الكاملة الأوصاف، أو النظام الأقل سوءاً الذي ابتدعته البشرية حتى اليوم، كما قال تشرتشل. وأهم هذه الدروس لنتائج الاستفتاء الأخير، هي أن المغاربة أجمعين، على مستوى الشارع كما على مستوى النخب، على المستوى النسق المركزي للنظام كما على مستوى جل فروعه يريدون التغيير، لكنهم لا يقبلون بالمغامرة في الفراغ، إنهم محافظون يريدون تحولا بأقل الخسائر الممكنة، ومحيط الثورات خاصة في تونس ومصر وليبيا واليمن لا يبدو مشجعاً للذهاب إلى أبعد مدى.. والبدائل المطروحة داخل المغرب لا تغري.. لأن الملكية بالمغرب لازالت في قلب ولاوعي المغاربة، ليست لأنها عريقة ووطنية فقط، بل أيضا لأنها لازالت قادرة على تحقيق الاستقرار والأمن، ولا زالت النظام السياسي الأقل تكلفة لدى عموم المغاربة. نتائج الاستفتاء أيضا تبرز أن نسبة المنقطعين من المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وعموم مكونات اليسار الجذري وجماعة العدل والإحسان وحركة 20 فبراير، تمثل ثلث الكتلة الناخبة، وثلث المجتمع قياساً إلى غير المسجلين أصلا في اللوائح الانتخابية، وهذا الثلث، بالمعيار الديمقراطي، مؤثر ووازن.. لكن من الخطأ اعتباره مناهضا للملكية لمجرد دعوته إلى مقاطعة الاستفتاء. لقد انتصرت الملكية لكن حركة 20 فبراير لم تنهزم.. يجب أن نتواضع على التقييم الإيجابي لما تراكم منذ إعلان الشباب على التظاهر في الشارع العام بمطالب سياسية واجتماعية، عنوانها الأكبر "إسقاط الفساد".. ليس من حق أي جيل أن يفرض وصايته على الجيل الموالي له ولا منعه من حقه في الحلم، إذ بدا أن الأمر يتعلق بدينامية مجتمعية تدعمها حساسيات سياسية مختلفة المشارب، 20 فبراير هي أكبر من حزب لكنها أقل من حركة منظمة لها رموز وأوصياء يسهل اختراقهم واستيعابهم، فالسلطة رغم كل أشكال التشويه والتجنيد والاستفزاز وشراء الذمم... لم تستطع إيقاف مد حركة 20 فبراير، من جهة لاتساع مداها، وعدم تمركزها في الحواضر الكبرى فقط، ولتعدد المخاطبين وسطها من جهة أخرى.. هذه الحركية هي التي كانت وراء الخطاب التاريخي للملك يوم 9 مارس، ودينامية المشهد السياسي، وكتابة المغاربة لأول مرة دستورهم بأنفسهم، دستور صُنع في الساحات العامة لا في الكواليس الضيقة للقصر.. حركية الشباب هي من كانت وراء "إغلاق" المعتقل السري لتمارة ورفع القداسة عن الملك.. وبكلمة هي التي خلقت كل هذه الدينامية السياسية التي شهدها المغرب اليوم. الظروف التي مرت فيها حملة التصويت على الاستفتاء وما حدث يوم الجمعة الماضي من خروقات في العديد من مكاتب التصويت يبرز أيضا أن جزءاً أساسيا في الدولة لا زال تقليديا ومحافظاً، ويستعمل نفس أساليب الماضي في صنع إشراقة الحاضر الذي يرهن المستقبل. الدستور الحالي جاء بضغط من الشارع المغربي، وتفاعل الملك مع مطالب الشباب في خطابه يوم 9 مارس الذي قدم فيه ركائز ومقترحات للتغيير، واشتغلت لجنة أنصتت لكل الأصوات، لكنه ما كان يجب تقديم الأمر، كما لو أنه دستور للملك، إنه أول دستور على عهد محمد السادس، جاء مختلفا في منهجيته وطريقة إعداده وحتى في مضامينه، لكنه كان يجب أن يقدم على أساس أنه نتاج للمغاربة، سواء أعضاء اللجنة الاستشارية أو الآلية السياسية للتتبع، حتى تكون لحظة الاقتراع حرة، يقرر فيها الشعب مصير الدستور بحرية ويربح الملك والشعب، ويخضع كل الفرقاء للعبة الديمقراطية ونتائج صناديق الاقتراع. كان إدريس البصري يؤكد على أن الاستفتاء على الدستور يمثل عقد البيعة، لذلك حرص دوماً على مفهوم الإجماع ذي الأربع تسعات، هذا الأمر استمر حتى مع الدستور الجديد، لقد اعتبر المقاطعون كما لو أنهم ضد الملك، وهو ما دفع محمد نوبير الأموي إلى القول: "الملك على راسنا"! إنها إحدى ركائز الملكية التنفيذية التي نتمنى أن تسعى النخب السياسية إلى تجاوزها من خلال استغلال مكونات الدستور الجديد في الذهاب بها بعيداً إلى أقصى ما تسمح به الديمقراطية .