هل نبارك لأنفسنا ، كمواطنين مغاربة، النتائج التي أفضى إليها مسلسل المراجعة الدستورية ؟ أم نؤجل هذه المباركة إلى لحظة أخرى قادمة،قد تأتي بما هو أفضل وقد لا تأتي ؟ أم نواصل الاحتجاج ،سواء في حركة 20 فبراير الشبايبة أو في غيرها من الهيئات السياسية ،الرافضة أصلا لأسس ومنطلقات المراجعة الدستورية ،والمطالبة بجرعة مركزة جدا من أجل تغيير حقيقي وشامل ؟ لكن الأرقام المدلى بها ،عقب الاستفتاء ، هي ل " من " وعلى " من " ؟ لصالح " من " وضد " من " ؟ وإذا كانت الأرقام فعلا ناطقة بكثير من الدروس والدلالات فما ذا عن الآمال والانتظارات ؟ إن كثيرا من الأرقام ، على افتراض صحتها ومصداقيتها ، قد لا تجيب على الإشكالات الحقيقية المطروحة، وخاصة تلك التي تتطلب معالجة سريعة وحلولا آنية . بل إن تعدد القراءات ،وتباين المواقف ،بخصوص هذه النسب والأرقام أو تلك، يجعل الاستناد فقط إلى لغة الرياضيات ، جمعا وطرح وقسمة وضربا، يفتقد إلى كثير من الصواب والمعنى . أولا : أرقام ناطقة وأرقام صامتة عشية الاستفتاء على الدستور الجديد ، كتبتُ مقالة ،نشرت بموقع هسبريس تحت عنوان : الدستور الجديد : '' نعم '' التي لن تلغي '' لا '' ، وكان القصد أن نتيجة الاستفتاء محسومة وتبقى النسب فقط لا يمكن التكهن بها بدقة متناهية.كما حاولتُ أن أكون متفائلا، وممسكا بحبل الأمل، في قدرة كل الأطراف على تجاوز الصراعات والاختلافات الحدية ،أي الوقوف على طرفي نقيض من الدستور الجديد.فإما أنه شر مطلق وجب البراء منه أو هو الخير كله ولا ينتقده إلا آثم أو آبق عن الإجماع الوطني.فكان رأيي ، الذي اعتبره البعض مثالية حالمة،لا بد من تجاوز منطق الخلافات فقط لتأجيج هذه الخلافات،وتبني منطق الواقعية والبرغماتية السياسية والقبول بالآخر بل وتبني شعار : رابح ... رابح gagnant- gagnant . الآن وقد ظهرت النتائج،ندخل معركة الأرقام والنسب.وهل هي معبرة عن إرادة فعلية أم مزورة .حيث يتم النفخ في أرقام والتهوين من شأن أرقام أخرى ، انتصارا ودعما لموقف بعينه واستهانة واستخفافا بموقف آخر.وكلها نقاشات ، على أهميتها في إثراء وإغناء النقاش السياسي والإعلامي ، قد لا تكون ذات جدوى ومردودية بلغة أهل الاقتصاد. أحب أن أشير فقط إلى حقيقة بسيطة، وهي أن التفاضل بالأرقام وإجراء المقارنات بينها ،له دلالة حقيقية في الرياضيات المجردة وفي النقاشات النظرية .أما في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،أي تلك التي لها علاقة وطيدة بحياة الإنسان في مجتمع بشري،فإن الأرقام النظرية الناطقة بقوة تصبح صامتة بخجل. إن العقل الرياضي المجرد فقط يستطيع تصور استحالة أن تكون اثنان ( 2) أصغر من واحد ( 1 ) ،ولديه على ذلك براهين واستدلالات لا يمكن، نظريا،الطعن في حجيتها. لكن في الواقع المعيش يبقى هذا مجرد كلام في كلام ..هناك موازين أخرى وطرق للمقارنة . إن بطيخة واحدة (1) " نحن في موسم البطيخ ، ولا بأس أن نستدل به، عن حسن نية طبعا " وزنها خمس كيلوغرامات هي أكبر ولا شك من بطيختين اثنتين (2) وزن كل واحدة كيلوغرامان فقط.ولو أخذنا بعين الاعتبار معيار الجودة ،قد يختلف ترتيب الأرقام من جديد.وليس هذا جدالا نظريا، بل هو منطق مقاربة الواقع بأدوات الواقع لا بالأرقام فقط. لقد كان نظام البعث في العراق سابقا، يفوز في الاستفتاءت على تجديد الولاء للسيد الرئيس القائد بنسبة 100 % ،ومنهم من يوقع بدمه... والنتيجة التي أدى إليها الولاء المطلق كارثية بكل المقاييس .أي 100 التي أنجبت صفرا إلى اليسار. أما في تركيا، فمازال حزب العدالة والتنمية ،بقيادة رجب طيب أردوغان،ينافس بقية الأحزاب السياسية بأرقام معقولة ونسب محدودة تخطت مؤخرا 50 % بشكل ضئيل. بالمقابل تنطق هذه النسبة في الواقع بنتائج وإنجازات صارخة .ولا يمكن أن يطعن فيها أي كان،لسبب بسيط أنها نتائج ملموسة تراها العين مجسدة لا مجردة. من الحكايات الشعبية القصيرة التي لها دلالتها في هذا السياق،أن أحدهم سال جائعا : كم حاصل أربعة في خمسة ؟ فجاءه الجواب : عشرون "خبزة" ! ... لم يعترض السائل،قبل الجواب معلقا : كل واحد حسابه في رأسه .وأرى جواب الجائع أكثر واقعية من مجرد الدخول في حسابات وجمع وطرح ليس وراءه إلا صداع الرأس.فرقم 20 لا يعني شيئا كرقم مجرد،لكن حين تنضاف إليه تلك الكلمة العجيبة " خبزة " ،يصبح ناطقا بقوة. ( ألسنا نقول إننا نكدح من أجل تحصيل طرف ديال الخبز ! ) أي بعبارة أخرى إن الرقم يكتسب قيمته ودلالته من قيمة المعدود ورمزيته وضرورته. وإن كان ولا بد من الاستقواء بالأرقام فليكن ذلك نهاية وليس بداية .أي نريد أن يكون حساب البيدر ،بنتيجته الصافية،أكبر من حساب الحقل .وليس العكس كما في كثير من تجاربنا المؤلمة. نريد أن نخفض نسبة الأمية بكل أنواعها،الأبجدية والقانونية والثقافية ... نريد أن نجعل بنود الدستور الجديد،والتي في مجملها متقدمة كثيرا بالنسبة للدساتير القديمة، وبالنسبة لما هو سائد في منطقتنا العربية ،تحكم سلوك الحاكمين والمحكومين.وتسدد فعل الأغلبية والأقلية.وتعلو ولا يُعلى عليها بالمال والمحسوبية والتدخلات وكل الأساليب العتيقة التي لا تمت لدولة الحق والقانون بصلة.. نريد أن نؤسس لثقافة احترام الآخر، والقبول بوجهات النظر المتباينة وفتح المجال أمام المواطنين كي يعبروا ،بكل جرأة،عن آرائهم واختياراتهم . وليس لأحد الحق أن يصف سلوك الناس وموقفهم بأوصاف لا تليق.لا لشيء سوى أنه يعتبر هذا السلوك غير ناضج، وهذا الموقف غير سديد.إن التعالُم والتعالي في هذا الباب مورد للهلاك.فلا يعقل أن تتقوى كل الأطراف ب''الشعب" لكنها لا تقبل باختيارات أفراد من هذا الشعب نفسه. ونريد أن يؤسس هذا الدستور ،سواء تم تبنيه بنسبة 98 % كنسبة لا طعن فيها ولا نقاش حولها .أو تم تبنيه بنسبة أقل من هذه المعلن عنها ،أخذا بعين الاعتبار الطعونات والتشكيكات ،والتي في جميع الأحوال،لن يصل الخيال بأصحابها إلى درجة القول أن الاستفتاء كان ممكنا أن يفرز نتيجة في صالح المقاطعين أو المعارضين ... في جميع الأحوال وقد أصبح هذا الدستور دستور كل المغاربة،نريد له فعلا أن يشكل قطيعة حقيقية مع الماضي الذي يجعل من القوانين كلها ،وعلى رأسها الدستور،في كثير من الأحوال،مجرد مواويل ومزامير تتلى ،في حين يسود قانون الأقوى ،وقانون الأقرب إلى مراكز القرار، وقانون من يعرف من أين تؤكل الكتف ،وقانون الزبونية والمحسوبية. إن تطبيق بنود الدستور وحده،كفيل أن يجعل من صوتوا ب''نعم'' يقتنعون أكثر بجدوى تصويتهم.ومن صوتوا ب ''لا'' أو قاطعوا الاستفتاء أو دعوا إلى تغييرات أكثر راديكالية ...إن تطبيق بنود الدستور كفيل بأن يقنع هؤلاء بعدم جدوى مواقفهم السالفة،ويدفعهم دفعا للانخراط فعلا في المرحلة القادمة. ثانيا : أرقام كفيلة بتغيير كثير من المعادلات قد يراودنا الطموح في حياة ديمقراطية مثالية،وهو حقنا على كل حال، فنلجأ إلى مقارنة أحوالنا مع أحوال دول وبلدان أخرى لا تجمع بيننا وبينها كثير من القواسم المشتركة.فلا مجال لمقارنات من هذا النوع ، إلا إذا كنا فعلا نملك همة أكبر ،ورؤية استراتيجية أوضح، وقدرة على الاستباق والتنافس في أكثر من مضمار. إن ذلك الشاعر العربي الذي قال يوما : عجبتُ لبحر الروم يُلْقي بموجه على ساحل حُرِّ وآخر مُوثّقِ إن هذا الشاعر أصاب كبد الحقيقة كما يقال،وأصاب قلبها وعينها أيضا. يقصد ببحر الروم البحر الأبيض المتوسط.أما الساحل الحر فضفته الشمالية،والساحل الموثق هو الجنوب والشرق أيضا.ولا ينبئك عن أحوال هذا ''الشرق'' إلا كاتب كبير في قامة الراحل عبدالرحمن منيف ،في اثنتين من روائعه الروائية '' شرق المتوسط'' و '' الآن ..هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى'' .تغيرت العناوين ،واختلفت الطبعات ،وتعددت المعالجات ،لكن الحقيقة هي نفسها.هناك خلل ما في هذا الجنوب وفي هذا الشرق. إن رئيس فرنسا الحالي،السيد نيكولا ساركوزي أراد أن يترك بصماته على ''بحر الروم'' فكان صاحب فكرة الاتحاد المتوسطي،التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد من أجل المتوسط ،وذلك منذ قمة باريس التأسيسية سنة 2008.ولقد تم مؤخرا تنصيب المغربي يوسف العمراني أمينا عاما للاتحاد من أجل المتوسط الذي يهدف إلى خلق وتشجيع مشاريع تنموية لصالح الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط. لكن الثابت التاريخي الذي يستعصي على كل الحلول التي تسندها مصادفات الجغرافية،هو أن ضفاف هذا البحر،اختار أصحابها وأهلها خيارات قديمة مازالت تؤثر في حاضرهم وستؤثر أيضا على مستقبلهم.لا يتعلق الأمر بفضيلة التفاؤل ولا بمثلبة التشاؤم.ولكنها حقائق على الأرض... وأرقام لم نعرف بعد كيف نجعلها تغير كثيرا من المعادلات والأحوال في واقعنا المعيش. الأسلم إذا،والأقرب إلى منطق الأشياء، هو عقد المقارنات بين المغرب وبين غيره من بلدان المنطقة العربية.وكخلاصة، ربما تبدو غريبة بعض الشيء للوهلة الأولى،إن الوضع في جل الملكيات العربية أو الإمارات كما في الخليج، هو أفضل وأحسن بكثير من الوضع في الجمهوريات العربية،وخاصة تلك التي أضفت على نفسها صفة الثورية. لقد حافظت الأنظمة الملكية،وانظُم في حقها ما شئت من قصائد الهجو !،على الاستقرار وعلى مستوى من التنمية لا بأس به ،وعلى كثير من مقومات الدولة ... وتبقى تجربة المغرب متميزة في هذا الباب بالمقارنة مع باقي الملكيات. بالمقابل،كل الذين حكموا باسم الجمهوريات والحق الثوري،دمروا البلاد وروعوا العباد.وجعلوا الدولة مختزلة في حزب ،والحزب مختزلا في عائلة ،والعائلة كلها، ومن ورائها الشعب،يجب أن يأتمروا ويسترشدوا بأوامر السيد الرئيس القائد والأب والزعيم...واخلع عليه كل الأوصاف التي قد تخطر وقد لا تخطر ببالك. مع هبوب رياح التغيير العربي على المنطقة،كانت الجمهوريات الثورية هي المقصودة بالتغيير الجدري.في حين طالب المنتفضون والمتظاهرون من داخل الدول الملكية بإصلاحات حقيقية لكن دون الوصول إلى درجة المطالبة بإسقاط الأنظمة.تبقى البحرين تجربة خاصة بعض الشيء. باعتبار المغرب على رأس نادي الدول الملكية ،فإنه قادر على المضي في الإصلاحات الحقيقية حتى آخر الشوط،دون الخوف من زعزعة الاستقرار أو عرقلة مسيرة الإصلاحات. لقد بدأت بعض الأصوات ترتفع لوقف احتجاجات وتظاهرات شباب حركة 20 فبراير... وهي أصوات غريبة ونشاز بنص الدستور الذي تم التصويت عليه.لا ينبغي استغلال نسبة التصويت التي فاقت 98 % لتكميم الأفواه وقمع المعارضين. إن في الكيان الصهيوني أقليات متطرفة جدا ،ومع ذلك يُكفل لها حق التظاهر والتعبير عن رأيها ،وتأسيس أحزاب متعصبة على أساس ديني،من داخل ديمقراطية توصف بأنها الوحيدة في المنطقة. فليس مطلوبا إذا قمع الرأي المخالف ولا تكميم الأفواه.بل لا بد من حوار وطني مع كل المكونات وخاصة تلك التي لا تجادل في شرعية النظام... للوصول إلى ما هو أهم، أي الشروع في تغييرات حقيقية تمس المواطن في حياته اليومية. ومدخل من مداخل التغيير الحقيقي، هو تلك العبارة التي استخدمت في السياسة الأمريكية على نطاق واسع إبان الحملة الانتخابية للرئيس بيل كلنتون ضد بوش الأب.لقد كانت واحدة من بنود الرسالة التي كان بيل كلنتون يريد توجيهها للناخبين الأمريكيين،تلك العبارة الشهيرة: إنه الاقتصاد يا غبي ! يا سادة،ليس هذا قفزا على النقاش الحقيقي، ولكن هو جوهر القضية في نهاية المطاف.إن عمر الملكية بالمغرب هو 1200 سنة.ونبض الشارع المغربي،عامة،هو مع التغيير الحقيقي والإصلاح الشامل في ظل الملكية.لكن النصوص والقوانين،بتعبير رجل الشارع دائما،لا تسمن ولا تغني من جوع. الناس في كل ربوع المملكة يطالبون بالعيش الكريم والتطبيب المجاني والتعليم الجيد والشغل ومستوى من الرفاهية كباقي شعوب العالم.وهذا متوقف على التطبيق الحقيقي لبنود الدستور وتفعيلها وإقامة دولة الحق والقانون فعلا لا التغني بها شعارا براقا. وفي هذا الصدد،لدينا أرقام كفيلة بتغيير المعادلات،لا أستطيع استحضارها بشكل دقيق،ومع ذلك فهي معروفة عند الجهات المهتمة في البلد... لا بد إذا من استثمار قدرات ملايين الشباب من الشعب المغربي،وتعليمهم التعليم المناسب ،وتأهيلهم التأهيل الحقيقي.فالعنصر البشري هو الثورة الحقيقية... لا بد من استغلال هذه الآلاف من الكيلومترات ،على شكل شواطئ ،الاستغلال العقلاني والاستفادة من الثروات البحرية وتعميم مردودها على كل المغاربة ... لا بد من تأهيل الفلاحة المغربية... لقد تجاوزنا عتبة سقي مليون هكتار،نريد القيمة المضافة الحقيقية لهذه الفلاحة وترشيد الإنتاج وملاءمته مع السوق المغربية والعالمية.. لا بد من الحفاظ على أغلى ثروة يملكها المغرب،والمتمثلة في الماء،فبدون ماء لا يمكن الحديث عن التنمية.ومن فضل الله على المغرب أن كل مصادر مياهه داخل حدوده.فلا خوف من صراعات مع الجيران في هذا الصدد، ولكن الخوف كل الخوف من الاستمرار في استنزاف هذه الثروة بشكل غير مسؤول وبطرق عشوائية وبدائية ... ولنا عودة لهذا الموضوع بتفصيل .... لا بد من مواصلة تطوير وتثمين الثروات المعدنية،وعلى رأسها الفوسفاط ،وجعل هذه الثروة في خدمة قطاع الفلاحة على وجه الخصوص،وخدمة الاقتصاد الوطني ككل ... وقس على هذا كثيرا من الأرقام التي يكفي تفعيلها لتغيير كثير من المعادلات ... لكن ، وقبل كل شيء، لا بد من آلاف الأفكار الجديدة والمبدعة والخلاقة ...للنهوض فعلا بهذا البلد...وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..