إن الحق في الثقافة يعني حق كل ثقافة لأمة أو لشعب أو لجماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها الداخلية، وبعوامل التأثر الخارجية، مع حفاظها على خصوصيتها واستقلالها. والسؤال المطروح هو: هل التنوّع الثقافي قيمة مضافة إلى إثراء وتطوير ثقافة حقوق الانسان في إطار من الانسجام، أم أنه مصدر أزمات يؤثر في تماسك الدول والمجتمعات، خصوصاً من خلال التعامل الإقصائي أو أشكال التمييز التي قد تحصل ضد فئات اجتماعية بسبب لغتها أو تقاليدها أو خصوصيتها؟ . إن الحديث عن التنوّع الثقافي يستدعي التطرّق إلى دور الثقافة وارتباطها بقضايا الحقوق والحريات، انطلاقا من كون منظومة حقوق الإنسان الثقافية ترتكز على عدد من القواعد الأساسية، كالمساواة في الحقوق، والحق في التمتع بالثقافة الخاصة، واستخدام لغة خاصة، واعتبار جميع الثقافات جزءًا من التراث الإنساني المشترك للبشرية، بما فيها من تنوّع واختلاف، وضمان حق كل شعب في تطوير ثقافته، وتعزيز روح التسامح والصداقة بين الشعوب والجماعات على اختلاف ثقافاتها، وحق كل فرد في المشاركة الحرة في حياة المجتمع، والتمتع بالفنون والآداب، والمساهمة في التقدم العلمي، والحق في حرية البحث العلمي، والحق في حماية الانتاجات الفكرية والعلمية . وبالرجوع إلى المنظومة الدولية لحقوق الإنسان الثقافية، التي ترتكز أساسا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 دجنبر 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966، نلاحظ أنها أقرّت التنوع الثقافي والحقوق والتعددية الثقافية، مستندة إلى المبادئ التالية: المساواة بين الثقافات، ورفض التمييز بين الأمم والشعوب، وعدم الاعتراف بفكرة التفوق أو الهيمنة الثقافية، وما تستند إليه من مفاهيم عنصرية . ويمكن القول إن التنوع الثقافي هو تعدد الرؤى والأشكال والأنماط التعبيرية في المجتمعات، وهذا بحد ذاته إغناء للمعرفة وتنوع روافدها في إطار الوحدة، إذ لكل مجتمع أنماطه الثقافية، وتراثه الحضاري الخصوصي. كما لا يمكن تصور تنوع ثقافي على معنى الصدام والكراهية والصراع؛ ذلك أن التنوع الثقافي هو إغناء للثقافات، وتعزيز لقدراتها، وإكسابها أبعادا إنسانية، لأن الثقافة في معانيها المختلفة تعني تهذيب السلوك الاجتماعي وتربية الإنسان وتغذيته بالقيم الروحية والوجدانية. فلا ينبغي أن تتصدى ثقافة لثقافة أخرى، أو أن نجعل من الاختلاف الثقافي ميدانا للصراع والصدام بين أفراد المجتمع من جهة، وبين المجتمعات من جهة أخرى. ولذلك، فإن جعل الاختلاف بين الثقافات كوسيلة لهيمنة ثقافة على أخرى، أو الإقرار بثقافة سامية وأخرى متدنية، وثقافة كونية وأخرى محلية، هو من صنع السياسات الاستعمارية التي تحاول إقامة الحواجز بين الشعوب والحيلولة بين التقارب بينها. ليست نظرية التنوع الثقافي إلا نظرية في الإنسان بصرف النظر عن الحدود الجغرافية، وعن العرق والدين واللون، كما قال العالم الاجتماعي كلود ليفي ستروس: "الهمجي ليس إلا "من قال بالهمجية"؛ ذلك أن الإنسان يعرف كيف يتعرّف على الإنسان شبيهه وصنوه، بصرف النظر عن فوارقنا المشروعة واختلاف عاداتنا وتباين أزيائنا". تأسيسا على ذلك، لا ينبغي للهوية الثقافية أن تتقوقع داخل خصوصية ضيقة تحول دون انطلاقها إلى فضاء الكونية الواسع والرحب، فهي بعيدة عن أن تكون شيئا جامدا، وإنما هي ديناميكية متطورة، تتناغم مع منظومة حقوق الإنسان في بعدها الكوني، كالاعتراف بالآخر وتنمية روح التسامح، ونشر ثقافة السلم والتعاون بين البشر. إن فرض حق الاختلاف الثقافي والفكري يعد شرطا ضروريا باعتباره حقا لا تنازل عنه من حقوق الأفراد والشعوب والحضارات في التعبير عن وجودها بحريّة. كما أن الإشكال المتعلق بالتنوع الثقافي والاختلاف الفكري إنما هو في أساسه إشكال الحريات وإشكال حق الشعوب في تقرير مصيرها الثقافي، حتى تكون ثقافة شعب ما مصدر ثراء لغيرها من الثقافات في إطار التعاون والتفاهم . ونخلص في الأخير إلى أن التنوع الثقافي الخلاّق يمكن أن يشكل قيمة مضافة إلى إثراء وتطوير الثقافة وتماسك الجماعات والمجتمعات وتقاربها، لذلك فإن هذا التنوع، رغم خصوصية بعض الثقافات المحلية أحيانا، يتناغم مع منظومة حقوق الإنسان ويساهم في تطويرها . *أكاديمي وناشط حقوقي