أدنَى صِفة المُحِبّ أن لا يفارقَ فكرهُ المَحبُوب، فهُو دائمُ التعَلق بشكلهِ ودَائمُ الاستحضَار لمَحَاسِنِهِ وصِفَاتهِ وَمَزَايَاهُ وعَقلهُ لا يفارق خيالهُ وصُورَتَه، وهذا الاستحضَارُ لا يعدو أن يكونَ تعلقًا بذات المَحبُوب وشوقًا إلى مُعَانقتِهِ ومُشَاهَدته مُشاهَدة عَينيَّة لا قلبيَّة، ومعانقته عِناقًا جَسديًّا لا عناقًا رُوحيًّا تسكرُ فيه الأروَاح فِي انتشاءٍ وتذوبُ فِي معاني الفنَاء الصُّوفي. وأعلى صِفة المُحبّ أن لا يفارق قلبُهُ المَحبُوب فهُو يطلب رُوحَ المَحبُوب لا ذاته ويهيم انصهَارًا فِي بَوتقة رُوحِهِ الوَضَّاءَة بعيدًا عن ذاتهِ التِي لا يرى فيها قلب المُحبِّ العَارف بأسرار المَحبَّةِ إلا حجَابًا وستارًا يُعيق الرُّوح من الاتحَاد الذِي يعَدُّ غايَة الأروَاح الهَائمة وغايَة القلوب المشتاقَة المَكلومَة إلى مُلازمة المَحبُوب مُلازمَة أزليَّة، لأنَّ فلسفَة العِشق الاتحَادِي الذي تأثر به الصُّوفيّة وكانُوا الدعَاة إليه، يَعنِي الخُلودَ الأزلِي حيث تعُود الرُّوح بعد رحلةِ شقاءٍ في عَالم المادة إلى عَالم الروح حَيث الصَّمديَّة الإلهية والوحدانيَّة الرَّحمَانية التِي ليس كمثلها شَيء، فالصوفي يؤمن بالاتحاد ولن نستغربَ إذا مَا رأينا بعضَ كبَار الصُّوفية يَسْخرُون من الجَنَّة والنَّار ويزدرونَ الفردوسَ وحُورَهَا وعَسَلهَا الصَّافي، ولا يهَابونَ النار وحَميمهَا وجَحيمهَا المُستعِر إنمَا يطلبونَ الله ويهَابونه ويخشونهُ.. وتعدّ هَذه التجربة الصُّوفية أعلَى مَرَاتب المَحبة والعشق الإلهي الجَليل، التي تجعَلُ مِن الله الغاية المُثلى، فالعارفة بالله (فاطمة النيسابورية) كانت تقُول: '' لان أدخلني الله النار لأخذن توحيدي بيدي'' وفِي هذه المقولة إشَارة لطيفَة تنطوي على مَقام التوحيد التي بلغته هَذِه العَارفة بالله والذي يعكسُ إيمَانها وتعلقها لدرجة أنهَا لو أدخِلت النار لظلت مُتمسِّكة بالتوحيد الإلهِي، وهَا هِيَ العَارفة بالله (ريحانة الوالهة) تتغنى ببيتٍ نعرفه جميعًا: ليس سُؤلِي مِن الجنَان نعيمٌ ** غيرَ أنِّي أريدُ أن ألقَاكَا. فجُلُّ الصُّوفية يَتجَلى عِندهُم مَفهوم العشق الاتحَادِي بصُورةٍ أحيانا قد تكُونُ مُبَاشرَة من خلال مَعنى طلب الله لذاتِهِ وأحيانًا عَبر الزُّهد في النعيم الذي وعَد الله به عبَادُه، ويعتبر الصُّوفية الكبَار أن المريد الذي يعبد الله طمعًا في الجنة أو رهبًا من النار، إنما يعبد طمعَهُ وخوفه، فكأنما صَيَّر الجنة أو النارَ ربًا له، فعبادتهُ حَسبَ العَارفين بالله عبَادة شِركيَّة مَردُودَة فيهَا من الشٍّرك الخفي ما يَجعلُ المَرء لا يطلب الله حبًا وشوقًا وهيَامًا به وإنمَا خوفًا منه وطمعًا في جنته، ولذلك كانت تربية العَارفين لمُريديهم تقومُ عَلى هَذا المَعنى الجَليل والعَميق والرَّقيق، الذي يرفعُ المُريد ويرتقي به فِي مَدَارج المَعرفة الإلهية حتى يبلغ مَقام التوحِيد الشُّهودي، أو توحِيد الفنَاء، حَيث يفنى المُريد عَن نفسِه وذاتهِ وكونِهِ ولا يَرَى ولا يبغِي غير الله عَز وجل فهو في سُكر ليَس يصحُو مِنه إلا بمُلاقاة الله عز وجَل.