مع عمر ابن الفارض يُلغي الصوفية الطمعَ في الجنة والنجاةَ من النار كحافزيْن على العبادة؛ إنما الدافع الأساس عندهم هو حب الله، فهم يعبدونه من أجل حبه؛ هكذا قرر سلطان العاشقين عمر بن الفارض ومَن ذهب مذهبه. والمحبة هي واسطة العقد التي تؤسس للشعر الصوفي برموزه وإيحاءاته، فهي ليلى التي يشدون بها وقد أضنتهم وأرقتهم ومزق حبُّها أوتار قلوبهم. بذلك لم يزل الشعر الصوفي عصي التفكيك. وكأني بسلطان العاشقين أقام مملكة الحب وجلس على عرشها يأمر وينهى.. تخطى الحواجز التي وقف عند حدها الشعراء وتعلق بالمتعالي ومبدع الجمال. كما جعل الصوفية الخمرة رمزاً للمحبة لتعدد أوجه الشبه بينهما؛ من شرِب طرب، ومن سكِر أبدى الأسرار برفع الأستار، هي لذة للشاربين، في الدنيا محرمة، وفي الآخرة مكرّمة؛ وذلك لعظم شأنها وقوة سلطانها، وما تعددت أسماؤها إلا لشرفها. كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى كما قالت العرب..اشتغل الصوفية على التفنن في مدحها والإسهاب في تعريفها، وهم أسعد حالاً عندما يطنبون في وصفها، تُسعفهم اللغة في ذلك تارة، وتضيق عليهم العبارة أطواراً. ابن الفارض: يقولون لي صفها فأنت بوصفها خبير أجل، عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوىً ونور ولا نار وروح ولا جسم وهامت بها روحي، بحيث تمازجا اتحاداً ولا جرم تخلله جرم ولطف الأواني في الحقيقية تابع للطف المعاني والمعاني بها تنمو وقد وقع التفريق والكل واحد فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم تتلاشى الكائنات وتنعدم، بل ينعدم السالك نفسُه. يُلغي المريد السالك كل شيء ما عدا واجب الوجود. يلغي ذاتَه وهُويته وما حوله من العوالم بحثاً عن ولادة جديدة. فما ترصده أمامك في الحقيقة الصوفية غير موجود، وبالتالي: فإن المعاناة التي تعتري المرء في الحياة من آلام وأحزان ووساوس واكتئاب وأحقاد وكراهية إنما هي أوهام لا وجود لها، لأن الإطار الذي تحصل فيه كينونة العوارض من عدم في الحقيقة الصوفية فلزم بذلك انعدام المضمون. فالكَرْمة التي هي مصدر الخمر لم توجد أصلا، فهو لا يمدحها وهي في الدنان أمامه يستمتع بالنظر إليها قُبيل شربها أو أثناءه على غرار شعر الخمريات: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر** ولا تَسقي سراً إذا أمكن الجهر وصرح بما تهوى ودعني من الكنى ** ولا خير في اللذات من بعدها الستر. إنما خمرة الصوفي التي يَهيم بها ولا يكاد يستفيق لم يَبق منها سوى اسم ورسم لا غيرُ، فذِكِرُ اسمها لوحده يثيره ويُلهمه ويسعده. يقول سلطان العاشقين: ولم يُبْقِ مِنها الدَّهْرُ غيرَ حُشاشَةٍ كأنَّ خَفاها، في صُدورِ النُّهى كَتْمُ فإنْ ذكرتْ في الحيِّ أصبحَ أهلهُ نشاوى ولا عارٌ عليهمْ ولا إثمُ ومنْ بينِ أحشاءِ الدِّنانِ تصاعدتْ ولم يَبْقَ مِنْها، في الحَقيقَة، إلاّ اسمُ وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ امرِئ أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ الزمن الصوفي كإطار للحدث ملغىً، إنما يتعامل بالزمن البرزخي، فخمرته لا تحتاج إلى زمن لتوجد فيه، لقد كانت قبل أن توجد شجرة الكرْم: شرِبنا على ذِكر الحبيب مُدامة سكِرنا بها قبل أن يُخلق الكرْم. بهذا الوصف يعطى ابن الفارض المدامة صفة الأزلية والقداسة عندما يربط صفة المحبة بصفات الحق سبحانه الأزلية التي كانت ولا مكان؛ فالمحبة اشتقاق معنوي من صفة الودود الأزلية. وهنا مفترق المذاهب الكلامية في الصفات، فمِمّن قال بأزلية صفات الذات ولم يقل بأزلية صفات الفعل. هنا أخذ المعتزلة طريقهم بنفي صفات الفعل تفادياً للقول بتعدد القوادم، لأن الله وحد هو القديم الأزلي وليس صفاته باستثناء صفات الذات السبعة التي يثبتونها. فمن حيث أزلية الصفات اكتسبت خمرة الصوفي أزليتها [وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل]. في البدء كانت المحبة يرى القوم أن الله أحب أن يخلق الخلق فخلق، وذلك في الأزل؛ بعدها أشهد بني آدم في عِلمه على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى [النداء الأزلي - الصوت القديم] لهذا كانت المحبة صفة لازمة لله عندهم. عبر عن ذلك فخر الدين الرازي بقوله: شربنا على الصوت القديم قديمةً لكل قديم أولٌ، هي أولُ ولو لم تكن في حيز قلت إنها هي العلة الأولى التي لا تعلل لذلك كان الخلق عندهم ناشئاً عن المحبة وأصل بدايته؛ فالخالق سبحانه هو الحبيب والمحبوب والطالب والمطلوب. اتسعت الرؤية وضاقت العبارة عندما تقرأ الشعر الصوفي عليك أن تتحرر من قيود اللغة المنطوقة، لغة الأصوات المباشرة الحرفية التي تسجن المفاهيم المتعالية دون أن تتسع للمعاني؛ إذ ضاقت لغة الشعر وقوافيه وقصر اللفظ عن تصوير ما يضطرم به قلب الصوفي، فاللغة الصوفية تحاول التعبيرعن اللامحدود بما هو محدود وعن المطلق بما هو نسبي. ولقد استعمل الصوفية اللغة الرمزية قبل بروزها والإعلان عنها في العصر الحديث. كما عليك أن تتحرر من مقولات الكم والكيف والهيئة والشكل والزمان والمكان. نعم، هم غامضون مبهمون وغموضهم مقصود، حيث يظل المرء يطوف بقلاعهم المحصنة وراء الملموس فلا يكاد يجد باباً ينفذ من خلاله، إما أن يتحدى بحثاً عن الولوج أو ينصرف راشداً؛ فهم يحجبون تجربتهم تحت الاستعارة والمجاز، فلغتهم إشارية رمزية موجهة إلى فئة مخصصة وليست لجمهرة القراء. تواصلْ مع النص الصوفي بصفاء روحي منفتح غير منقبض، بلغة وجدانية تتسم بالسمو والارتقاء. اقرأها بحمولتها الروحية وبعدها الكوني، فعلم السلوك تجربة تغذيها المجاهدة والممارسة، ليست نظرية معرفية من أعمال العقل حتى يدركها. الذي يرغب في إدراك علم التصوف مجرداً عن التجربة أشبه بمن يتعلم السباحة من خلال دروس نظرية مفصلة، فإن ألقي في الماء ليسبح غرق. حتى القراءة الإبستمولوجية للتراث الصوفي رأيتها تحلق خارج السرب لم تكتمل آلياتها للولوج إلى النص الصوفي، رغم ما لهذه القراءة من وسائل معرفية تفرض من خلالها سلطانها على النص. لا تراهن على اللغة المنطوقة وأنت تقرأ أسفارهم فتحول بينك وبين مقاصدها.. إنما هي قناطر وأشكال يعبُر بواسطتها الصوفي نحو المستقَر الذي سيحط فيه رحاله.. فبعد الشراب يُلقون بالكأس. عندما اتسعت رؤية الصوفي وضاقت عبارته اضطر إلى الاستعانة بالرموز والإيحاءات والإشارات والتلويحات، وجعل من كل ذلك لغة، مثل فنان رسم لوحة اختزل فيها أبعاد قصة تعجز الكلمات عن تصوريرها. لكن المشكلة أن اللوحة لن يقرأها غير فنان مثله، أو يلقى بها في ركن بعيد. المدرسة الصوفية أبدعت وأنتجت معجمها الخاص بمفاهيمها الغزيرة وأجهدت في التعبير والبرهنة عن مركزية المحبة في الدين، فالمفاهيم والمصطلحات مثل الوجدان والصبابة والوجد والتتيم والجَوَى والصبابة والهيام والولع والوله والود والتصافي، رغم ترادفها النسبي وظفها الشاعر الصوفي بمهارة فائقة، حيث وضع المفردة في المكان المناسب المتسق مع السياق والمساق. فهو يرى في المحبة [الخمرة] مدرسة كفيلة بأن تهذب أخلاق المجتمعين المتصاحبين على شرابها وتعلمهم المروءة والعفة والرقة، والحكمة، وتشحذ همتهم وعزيمتهم وترقى بهم فيصير متعاطيها مِعطاء بعد شح حليماً بعد جهالة. تهذب أخلاق الندامى فيهتدي بها لطريق العزم من لا له عزم ويكرُم من لم يعرف الجودَ كفُّه ويحلُم عند الغيظ من لا له حِلم عندما دخل الصوفي بحر الحب أحرق مركبه ليتكرر موته في ذلك البحر، فقد صار مدمناً للفناء؛ فهو لا يفقه قول من يقول ذكرت ربي، فهل يمكن أن ينسى المرء ربه حتى يحتاج لذكره؟. أبو يزيد البسطامي: عجبتُ لمن يقول ذكرت ربي وهل أنسى فأذكر ما نسيت أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ولولا حسن ظنى ما حييت فأحيا بالمنى وأموت شوقا فكم أحيا عليك وكم أموت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفذ الشراب ولا رويت المحبة تشحذ الهمة المحبة تَشحذ همة الصوفي فيُقبل على العبادة بعزيمة فوق الوصف، بحيث يرخص عنده ما غلا من أجل إرضاء الله. يقول ابن الفارض: ولي همَّة ٌتعلو إذا ما ذكرتها وروحٌ بذِكراها، إذا رَخُصَتْ، تغلُو جَرَى حُبُّها مَجَرى دمي في مَفاصلي فأصبَحَ لي، عن كلّ شُغلٍ، بها شغلُ غرابة الصوفي لازال الصوفي محكوماً عليه بالغرابة واستهجان رؤيته للدين والحياة.. هو على عِلم بمخالفته للسائد لكنه فخور بغرابته.. في الوقت نفسه لا يُلزم أحداً بسلوك طريقه إلا أن تختار صحبته على بينة من أمرك في رحلته المغامِرة، وستفهم في النهاية إن لم تستعجل، ولسان حاله يقول لك: [فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا-الكهف70] مستوحياً مرجعيته في ذلك من قصة الخضر مع موسى عليه السلام؛ فهو يريد منك قبل اتباع طريق التصوف أن تفكر بروية وتحسن الاختيار لما في الطريق من معاناة لا محيد لك عنها: نصحتُكَ علماً بالهوى والَّذي أرَى مُخالفتي فاخترْ لنفسكَ ما يحلو فإنْ شِئتَ أنْ تحيا سَعيداً، فَمُتْ بهِ شَهيداً، وإلاّ فالغرامُ لَهُ أهْلُ فَمَنْ لم يَمُتْ في حُبّهِ لم يَعِشْ بهِ، ودونَ اجتِناءَ النّحلِ ما جنتِ النّحلُ. تَعَلّمَ السالك ألا يلتفت في طريقه يمنة ولا يسرة ولا يترك شيئاً يلفت نظره أو يحجب رؤيته عن الوصول إلى الله.. حتى ظهور الكرامات له لا يعبأ بها كما يحدث لمبتدئيهم، حيث يُوقفون سيرهم عند حصول الكرامات وقد يسترزقون بها. لكن أصحاب الهمة العلية لا يقبلون بغير مُجريها ومُرسيها. يقول أبو الحسن التستري: فلا تلتفت في السير غيراً وكلما** سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصناً وكل مقام لا تقم فيه إنه** * حجاب فجدَّ السير واستنجد العونا ومهما ترى كل المراتب تجتلى ** عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا وقل ليس في غير ذاتك مطلب ** فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى. يُحذر المربي السالكَ أن يُشغله العطاء عن كشف الغِطاء؛ فالفناء والعزلة مراحل سلوكية عند الصوفي حتى يصل إلى الله سالماً من فتنها التي تلاحقه في الطريق، وتناديه: [إنما نحن فتنة فلا تكفر- البقرة 202] ثم إن العذاب الذي يتوجس منه الصوفي خِيفة ويقض مضجعه وجَلاً يتمثل في ما إذا أبعده الله عن رحابه وطرده عن جَنابه.. ما عدا هذا هو سعيد مبتهج مسلِّم مهجته لله رب العالمين. فليس الحب حبا إن لم يؤدِ بصاحبه في عرف سلطان العاشقين: عذِّبْ بما شئتَ غيرَ البعدِ عنكَ تجدْ أوفى مُحِبٍ، بما يُرْضيكَ مُبْتَهِجِ وخذْ بقيَّة ما أبقيتَ منْ رمقٍ لا خيرَ في الحبِّ إنْ أبقى على المهجِ الردة أزمة محبة يرى الصوفي أن الردة تحصل للأفراد والمجتمعات عند غياب الحب. وذلك صريح القرآن الذي لا يحتاج إلى تأويل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. المائدة 54] تُقررالآية شأن المحبة وأهميتها في أخطر منعرج يمر به الإيمان، وهو منعرج الردة. فعندما يرتد أفراد أو قوم كيف يدفع الله الردة؟ هل يأتي بقوم يُعمِلون العقل في إثبات الحق بالبرهان فيُقحمون المرتدين بالحجة حتى يحملونهم على الإيمان حملا، أو يُمكّن للمسلمين بالقوة والبطش فيُدحضون أهل الردة؟ كلا. كل ذلك لا يرفع الإشكال إنما يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. بمحبتهم يلملمون شعث أمة تناثرت أجزاؤها وتمزقت شرايينها حتى ارتد أفرادها. فاتضح من خلال الآية أن الردة أزمة محبة.. تحتاج إليها أباً كنت أم أماً أم معلماً أم مربياً، وبالأحرى داعية، وأعظم من اتصف بها هو الله من خلال اسمه الودود، ووصف بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر [آل عمران159] ترجيح حافز المحبة على طلب الجنة لا يتناقض عند الصوفية مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سؤاله الجنة والاستعاذة من النار، وفعل الأنبياء قبله مثله [ إِنّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء 90] يورد المعترض عليهم هذا الاستدلال المقتضي وجوب اقتدائهم بالنبي في العمل على الفوز بالجنة والنجاة من النار، فيجيب العارفون بكون النبي عَبَد الله حباً له وشكراً في كثير مواقفه: عندما قام الليل حتى تورمت قدماه وهو على يقين بضمان الجنة له.. كما استعاذ بالله من عذاب جهنم ليقتدي به عامة المسلمين في ذلك.. بذلك مثل قدوةً سواء لمن عبد الله طمعاً أو محبة.. فلكل وجهة هو موليها.. وليس يلزم أن يكون كل مسلم في مقام طالب المحبة. في النهاية العبادة عند القوم إن كانت خوفاً من النار تكون حاصلة تحت الضغط والإكراه [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ - البقرة 256] إذْ لم تنبثق عن إرادة اختيارية.. بعكس باعث المحبة الذي يحمل صاحبه على الاستزادة مما يحب. فإذا كانت العبادة طمعاً كانت مصلحية برغماتية ينتهي الباعث عليها بمجرد نيل المطلب. ولقد سأل أحد المريدين شيخه حول إمكانية الصلاة في الجنة والحالة أن زمن التكليف قد ولى فقط تنعماً بحب الوقوف بين يدي الله. يرى الصوفي أن الله إذا أحبك ورضي عنك وأدخلك في رحابه تكون الجنة من باب تحصيل الحاصل. فالكريم إذا نزل به ضيف أكرم وفادته وبالغ في الترحيب به وإرضائه.. هذا إن كان إنساناً فما بالك بالجواد الكريم الذي وسع جوده الوجود. يتساءل الصوفي: كيف يُحرق الله قلباً بالنار طالما أضناه الاشتياق إلى اللقاء؟ إنْ أدركتَ هذا كان بإمكانك أن تفكك شعر ابن الفارض وتدرك لماذا عبد الصوفية الله لذاته.