على سبيل الإدعاء.. الإيمان بالنص الشعري المُحَرِض، والاعتصام بقوافيه ومعانيه، والجنوح إلى تفكيكه والكشف عن أسراره الهادفة إلى إحياء الإنسان داخل الإنسان، هو أحد أهم مطالب الأدب الحقيقية منذ ميلاده، في أفق عودة الأدب والفن إلى واجهة التصدي لدعاة الإلهاء وتجار الخيال المُسْتَهْلك وصناع الأفيون،، ودع ذا وعد القول في هرم. فما الذي يجعل من الإبداع باعثا على الفرح والأمل في أوطان تتشتت يوما بعد يوم؟ وما الذي يجعل من النص الإبداعي غير قادر على مغادرة الغرف القذرة والبهارات البلاغية الحارقة والخيالات القاتلة والمخدرة للعقل والوجدان؟ رحل النهار يوما مع السياب، وبقيت لبعض مبدعينا ليال لو أدركها رَاسِين لتخلى عن لياليه، ولتخلى قيس عن ليلاه..هي تلك اليوم شيمة بعض النصوص في سعيها إلى فهم الواقع دون أن يفهمها كاتبها، فبالأحرى أن يفهمها القارئ..وإن وجدتموه أخبروني.. وكثيرة هي النصوص التي حافظت على حياتها رغم الحصار والحرق..، وكثيرة هي المتون التي لم تغادر المعطف بعد..، وكثيرة هي المحكيات التي لم تغادر الجُبَة خشية أن يفتك بها دعاة البوار واستعباد الإنسان..في انتظار أن يموت المارد داخل المصباح السحري وخارجه.. كل مفردة، وكل كلمة، وكل روي، وكل تكرار لحرف مجهور أو مهموس.. إذا اجتمعت في نص جرحك بشظايا البلور المكسور وأنت على ناصية مقهى، توهم نفسك بسلطة لا تمارسها إلا على ذاتك، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الواقع شديد.. فهلا تنازلت/تنازلنا عن عرشنا الكاذب، وهلا تخليت/تخلينا عن حِيل بَيْدَبَا، فكل شيء بات مفضوحا..ولتركض بشِعرك، هذا مغتسل بارد لمعظم الشعراء والروائيين والمثقفين في شرقنا "المتخلي عن كل كرامة". وكم نص قفر بمندفع النَحَائِت جالت بذكره غربان النقد..وكم من النصوص التي تم الاحتفاء بها لسبب من الأسباب.. وكم قريض لم يدركه قدامة بن جعفر ولا بن سلام الجمحي ولا غيرهما، وكم من كتاباتنا اليوم فيها من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء.. على طريقة بلقيس..حرفا بحرف أقول: يا أيها القراء إني ألقي إلي كتاب نقدي...إنه من الشاعر محمد المتقن، وإنه سماه "في ألفة الحداثة الشعرية"(1)..وإني وبالنيابة عنه أقول: كان النظر النقدي إلى القصيدة العربية المعاصرة وما زال مختزلا في كونها مخالفة شكلية للقصيدة الموروثة، انفكاكا من الخضوع للنموذج الموروث، في الناحية الشكلية، أي في النسج على مغزل نظام الشطرين. وفي هذا ما فيه من إلغاء لتطور شخصية الشاعر وتغير ثقافته وعصره وشخصية القصيدة ومميزات العصر وتأثير الظروف المحيطة. ولقد حاول النقد العربي جاهدا التنبيه إلى أن الزمان قد تغير من حولنا، وتغيرت طرائق التعبير عن لواعجنا ومواجدنا وتطلعاتنا وأشواقنا، فنبه أول الأمر إلى الخصوصية التي تتميز بها القصيدة المعاصرة، وركز كثير من النقاد في هذا الباب على الجانب الشكلي، أقصد النظام الذي حل محل نظام الشطرين المتناظرين، ونظروا، في تنظيراتهم الكثيرة للقصيدة العربية المعاصرة، انطلاقا من هذا الجانب الجزئي فيها، وكانت أعينهم عمياء في سبيل هذا الذي أرادوا تأكيده عن إنجازات السياب نفسه في هذا الجانب الشكلي...مما لا سبيل إلى تفصيل الحديث عنه الآن؛ ثم ما لبث أن جاء نقاد آخرون، اجتروا مقولات السابقين ووقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فكرسوا النظرة الجزئية إلى القصيدة. وفاتهم الكثير، حتى وهم ينظرون بعين الرضى إلى إنجازات من فتنوا بهم من الشعراء الذين كانت دراساتهم منصبة على أشعارهم. إن هذا القصور النقدي، مرده إلى بقية من آثار النقد العربي القديم، التي تسربت إلى نقدنا المعاصر، الذي لم يلتفت إلى التناول الكلي للقصيدة، أو لم يتسلح بالنظرة الشمولية إليها، باعتبار أن هذه النظرة تساعد على حسن الفهم لبنية القصيدة وأجزائها المكونة لها، والعناصر المشتملة عليها وقيمتها الفنية، ومن جهة أخرى يعود سبب هذا القصور كذلك إلى اصطحاب بعض النقاد -بطريقة غير واعية- لمعركة إثبات الذات من قبل قصيدة التفعيلة في صراع أهلها مع النقد الرافض للتجديد، الرافض لكل ما جاء به السياب وجيله. ومن غير أن نقول جديدا، ليس للبناء وفق نظام الأسطر الشعرية مزية في ذاته، وليس البناء وفق نظام البيت، مؤهلا لكلام ما كي ينعت بأنه قصيدة قد تحوز الإعجاب، كما أن الاقتراب من لغة الحديث اليومي في التعبير، لا يضمن النجاة من السقوط في هوة النثرية السحيقة، وعكس هذا لا يحول دون الوقوع في أسر التعمية والغموض. ينبغي أن تكون العلاقة بين النقد والشعر، قائمة على ارتياد الآفاق الجمالية من طرف الشاعر، وعلى الإمساك ببوصلة التوجيه والتصويب والتسديد من جانب الناقد. وليس اجترار هذا الطرف أو ذاك لمقولات السابقين، في هذا الفن أو ذاك العلم. إن الشعر العربي اليوم -كما يقول صاحب الكتاب- أحوج ما يكون إلى ما يزيل عنه الغشاوة التي لفه بها من يحسبون على الشعر والنقد على السواء، ومن هنا جاءت هذه الدراسة: "في ألفة الحداثة الشعرية" وهي دراسة لقصيدة "بغداد" للشاعر محمد علي الرباوي، تحاول تلمس عناصر الألفة التي نشعر بها إزاء الشعر، متجاوزة النظرة النقدية الجزئية، محاولة تجاوز الخوض في الإنجازات المبكرة للشعر الحر -كما كان يطلق عليه النقد العربي المصاحب- واضعة نصب عينيها رد الاعتبار للشعر ورسالته، والقصيدة وشخصيتها المتميزة، باعتبارها وحدة مستقلة عن مثيلاتها، وهكذا احتفت هذه الدراسة بعتبة العنوان "بغداد" وانتشاره في كل مفاصل القصيدة. وهذا الذهاب والإياب بين المحطات الدالة ذات الصلة، بلغة فنية تأسر القارئ، دون أن يشعر بأن الفواصل والأحداث التاريخية تزيغ به عن سكة الجمال في مملكة الشعر. ولما كانت الدرامية التي اختار الشاعر مخاطبتنا من خلالها أسلوبا مهيمنا على القصيدة، وقف الشاعر الناقد محمد المتقن طويلا -في الفصل الثاني-عند مكوناتها. وقد تأكد لدينا تحول القصيدة في كثير من المحطات إلى جوقة كبيرة يتصارع أفرادها ويتسابقون ليؤكدوا حقيقة واحدة، هي أن القصيدة المعاصرة في صورتها الناجحة عند كبار الشعراء، حياة بكل ما تعنيه الحياة من صخب وهدوء وانكسار وانتصار وقوة وضعف، وكل هذا يشكل الدرامية التي نتلمس عناصرها عنصرا عنصرا ونحن نشرع في قراءة القصيدة ونعيد، وكلما انتهينا من القراءة الأولى عاودنا الحنين لقراءة القصيدة مرة ثانية، وهكذا مرة بعد أخرى، نظرا للتشاكل القائم بين القصيدة والحياة، أليس ما منح شعر المتنبي الخلود والإعجاب غير هذه الصلة بين قصائده ووقائع الحياة!. وفي الفصل الثالث، كانت لصاحب الكتاب وقفات مع النصوص الغائبة، بما تضيفه هذه من عمق يقوي وشيجة الاتصال والتجاوب بيننا وبين القصيدة محل القراءة أو الدراسة، وبما تنسجه هذه من علاقات بيننا وبين الشاعر وشعره. إن التناص بهذا المفهوم ليس مجرد وضع اليد على النصوص التي تجري مياهها في القصيدة وتصب في نهر الشاعر، بل هي المشترك الجمعي بيننا وبينه، الذي يجعلنا نقتنع بما يقوله جماليا وفكريا في آن معا. ولما كانت القصيدة المعاصرة ليست مجرد تراكم لمجموعة من الأسطر الشعرية، بل بناء مخططا له بعناية، خصص الكاتب الفصل الأخير للكشف عن خصوصية العناصر الداخلة في هذا البناء مثل نظام المقاطع والتدوير والتكرار. ليس سرا أن الرحلة مع الشاعر محمد علي الرباوي في قصيدة بغداد، رحلة مع مجموعة من الذوات والأدوات الفنية والطبائع الإنسانية والطرائق التعبيرية والجمالية، أرجو أن يستمع القارئ إلى نبضها، وهي تقول ما تقول. استهلال عن الشاعر والقصيدة: لم يكن للشاعر العربي في زمن الحرائق والصواعق ومذابح الإبادة الجماعية في العالم العربي والصمت المخزي لجل أمم هذا الكوكب الذي نعيش فيه، لم يكن لهذا الشاعر أن يغمض عينيه ويصم أذنيه ويعقد لسانه، ويولي هذا الواقع الأدبار، ثم بعد حين يخرج على قراء الشعر بتهويمات في أعماق النفس تغني لعاطفة مكدودة بعبارات مشحونة بالدلالات الكسيحة والخيال المريض... والشاعر قد حضر عدته من الكلمات المسكوكة تجاه ما قد يرميه به القارئ، ووضع اللمسات الأخيرة على برنامجه الدفاعي الذي يعرف مفاصله، إن لم نقل يحفظ عن ظهر قلب، قسماته الكبرى وخطوطه التي لا تكاد تظهر. لم يكن للشاعر الحق أن يشيح بوجهه عن الواقع...سواء كان فرديا أم جماعيا.. كما لم يكن له أن ينحني أمام صهد الواقع وناره، ويتخلى عن أداته الفنية التي هي كل هويته... أسوق هذا الكلام للتذكير بأمر بدهي مرتبط بالشعر باعتباره جنسا أدبيا. فالشاعر لم يُسم بهذا الاسم إلا لأنه يشعر بما لا يشعر به الآخرون من جهة، ومن جهة ثانية لأن له قدرة على إشراك القراء فيما يشعر به، وجعلهم يتفاعلون معه من خلال اندفاعهم إلى التجاوب معه، وما يترتب على هذا من التزامات نسميها التغيير أو الإطراب أو التعبير والتجاوب وما شابه... والنتيجة على كل حال، هي خلخلة السكون...أما القول بعكس هذا تماما، فسم ما يكتب ما شئت، وحاذر أن تنسبه إلى الشعر، ودع عنك تهويمات البعض وتلاعبهم بالكلام. في هذا السياق يقف الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في قصيدته: "بغداد" على مسافة معتبرة من الواقع، لإدراكه أن الشعر باعتباره فنا، يفرض على الشاعر هذا الأمر، لأن الانغماس في الواقع، يفقد أي فن ميزته الأساس، كما أن التحليق بعيدا عن الواقع يجعل الفن -وخاصة الشعر- يخسر نفسه وجمهوره ورسالته التي تبرر وجوده. تعتبر قصيدة "بغداد"(2) للشاعر المغربي محمد علي الرباوي -إذا استعرنا لغة القدماء- درة ديوانه قمر أسرير، وواسطة العقد، بين كل القصائد المكونة للديوان، وهي تتميز بعدة مميزات ليس على رأسها بالتأكيد طولها، وإن كان هذا الميسم دالا على دراميتها التي لا تخطئها العين! ولكن هذه الدرامية ليست هي كل شيء. فالشاعر الرباوي صوت شعري متميز جدا، حتى قال عنه الشاعر الكبير حسن الأمراني: إنه لا يشبه إلا نفسه! وهذا التميز باد للعيان في كل أعماله التي لم يقو النقد المغربي إلى اليوم على متابعتها، بله فحصها وإبراز أماكن الفرادة فيها. لقد أغوت قصيدة "بغداد" بالنسبة للشاعر محمد المتقن من أول يوم سمع الشاعر الرباوي يلقيها كما جاء في مقدمة الكتاب، ذلك الإلقاء المميز، الذي يعرفه كل من استمع إلى الشاعر الرباوي، وهو يلقي قصائده في الأمسيات الشعرية الباذخة، بعبق التفاعل بين الشاعر وجمهور عشاق الشعر! ما يدهش القارئ، وهو يكتشف جزر وخلجان القصيدة العربية المعاصرة، هو طريقة الشاعر في قول ما يقول، فمرة يجد المتلقي نفسه أمام هذا التموج الإيقاعي الذي لا عهد له به، ومرة تصدمه هذه الذوات الكثيرة التي تعمر كل مساحات القصيدة، وكأننا أمام كرنفال أسطوري، يتجاور فيه الواقعي والخيالي والسريالي، والمقدس والمدنس، والسفاحون من نسل قابيل والطيبون الأطهار من عقب هابيل، في جوقة سمفونية متميزة، تشعرك آنا بالقدرة على الصمود والفعل، وآنا بالضعف الذي يلوذ بلغة الابتهال واستدرار النصر. ومرة ثالثة، يجد القارئ نفسه أمام القصيدة/القصة، بما يعنيه هذا من درامية وأحداث وشخصيات نامية وغيرها وزمان ومكان وتشويق ونهاية مفتوحة أو غير هذا...لكن الذي يدهش القارئ أكثر ويجعله يقف مشدوها، مشلولا هو أن تجتمع هذه الخصائص كلها في قصيدة واحدة مثل قصيدة "بغداد"! حينذاك، لا مناص لهذا القارئ من يقظة هي الأخرى يقظة! مزودة بكثير من الحذر الحذر بدوره! من أجل الكشف عن مصادر الطاقة الجمالية التي أوقعته في شرك الحسن، وجعلته لا يقوى على أن يزيد على أن يقول: هذا هو الشعر! فمن يأتيني بعرش الشاعر قبل أن يأتوني مسلمين.. أقصد القراء.. هوامش: المتقن(محمد)، في ألفة الحداثة الشعرية، مطبعة ووراقة بلال،فاس، ط1،2017 الرباوي (محمد علي)، قمر أسرير (ديوان)،دار النشر الجسور، وجدة، ط1، 2002، ص 76.