سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الناقد المغربي حسن الغُرفي : قررتُ العيش متلفعا بعزلتي الاختيارية صاحب كتاب «حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر» قال إنه ترك لغيره فرصة الظهور والاستعراض وتقاسم كعكة لا وجود لها
- بعد تجربة طويلة في ممارسة نقد الشعر، كيف يتمثل الأستاذ حسن الغُرفي مفهوم النقد، وبناء على أي منهج يمارسه؟ < النقد عملية اكتناه تحسسي لجوهر الأثر، فنيا وجماليا، وهو في الآن نفسه، اكتناه فكري عقلاني لخصوصيته الإبداعية، بناء شكليا وتقنية تعبيرية، وأبعادا ومدلولات اجتماعية تاريخية، حضارية وإنسانية على وجه العموم. قد نتحدث عن نظرية النقد، وقد نمارس عملية نقد، بمعنى أن نتحدث عن قصيدة أو ديوان شعر، أو حتى عن مجموعة دواوين شعرية لشاعر من الشعراء. بالنسبة إلي، إن كل مرة أمارس فيها عملية نقدية من هذا النوع، أدخل معاناة جديدة، لأن كل عمل يفرض عليك منطقا خاصا في تناوله. ولا يمكن أن تعالجه بالطريقة نفسها التي عالجتَ بها عملا سابقا، لأن هذا التميز والمغايرة يقتضيان منك أن تدخل إليه من مداخل مغايرة. فكل عملية نقدية هي تجربة ممارسة جديدة. إن الإنسان يستفيد من خبرات سابقة، نعم هذا وارد بطبيعة الحال ولا بد منه. لكن يظل في كل مرة يتجه فيها إلى كتابة نقدية عن عمل أدبي كأنه يواجه هذه العملية للمرة الأولى. والمنهج في هذه الحالة تفرضه طبيعة المادة التي تعرض لها ونوعيتها ومدى ملاءمتها مع هذه الطريقة أو تلك. ذلك أن النص الأدبي عموما لم يعد قابلا للتعامل معه بأدوات جاهزة سواء أكانت وافدة أو تراثية. إن النص الحداثي يفرض على الدارس مجموعة من الأدوات التي يجب أن يواجه بها النص، فما يصلح مع نص قد لا يصلح مع آخر، وما ينجح مع خطاب لا ينجح مع آخر، وهذا كله رهين بالقراءة المتأنية الواعية التي تحاول أن تستوعب خواص الخطاب أولا، ثم تستحضر الأدوات اللازمة له ثانيا. - القصيدة المشرقية، متجسدة عند شعراء مثل أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، شكلتْ إغواء نقديا لحسن الغُرفي، ما هي العناصر التي شكلتْ أساس هذا الإغواء؟ < مند البدايات استبعدتُ كل نزعة إقليمية، بالنسبة إلى المتون الشعرية التي اشتغلتُ عليها، هي التي استأثرتْ باهتمامي وذائقتي الأدبية، وأمتعتني، وفتحتْ أمامي آفاقا شتى كانت مغلقة من قبل. أنا لا أكتب أبدا عن نص لا يدهشني، لهذا لا تراني أكتب إلا عما أحب ويستحوذ علي... طبعا هناك نصوص كثيرة أحبها، بل أنا مسكون بها، ولم يتح لي بعد أن أكتب عنها. بالإضافة إلى الشاعرين المذكورين في سؤالك، فقد سعيتُ إلى الاحتفاء بالقيمة الإبداعية لشعراء آخرين (السياب، صلاح عبد الصبور، بلند الحيدري، خليل حاوي...) حيث لا أمل من العودة إلى منجزاتهم الشعرية المتميزة. وهناك شعراء آخرون سيكونون موضع مقارباتي النقدية مستقبلا (حسب الشيخ جعفر، سعدي يوسف، محمود درويش...) أما عن سؤال الإغواء فهو متعدد، سأحصر الإجابة عنه، باختصار شديد، في العناصر التالية: 1 ولعي الكبير بالموسيقى الشعرية. أنا كائن إيقاعي حتى النخاع. ولهذا لا تفتنني سوى النصوص الشعرية الممتلئة بالإيقاع المتحقق أساسا بالتفعيلة بكل أنماطها، والقوافي بأنظمتها، وبوسائل لغوية متعددة... 2 المتون الشعرية المستثمرة للتراث العربي بمصادره المتعددة خاصة، والإنساني عامة، إبداعا وفكرا، والمبنية على وعيها العميق بهذا التراث، قديمه وحديثه، بالغ الرحابة والغنى، وقدرتها الفذة على توظيفه بآليات شتى. 3 النصوص الشعرية التي سعتْ إلى إغناء جوهرها الغنائي بالعديد من العناصر الدرامية (الحوار، عناصر سردية، الصراع، تعدد الأصوات والشخصيات، تباين وجهات النظر، الأقنعة، استخدام لأكثر من إيقاع موسيقي داخل القصيدة الواحدة، ميل القصيدة إلى التجسيد والموضوعية...) 4 تشغلني، كذلك، المتون المشتبكة بحركة الواقع وجدليته ومتغيراته، حيث يتحقق فيها جدل الشعر والحياة. إنها لا تفارق شرطها التاريخي. عندما يقدر لكتابي الجديد (مقامات شعرية) أن يرى النور في الشهور المقبلة، ستلاحظ من خلال مقالاته، أنني حرصتُ على الاقتراب من هذه العناصر، ربما أكثر من غيرها، من خلال توقفي الطويل عند منجزات العديد من الشعراء مشارقة ومغاربة. - التجارب الشعرية المغربية المؤسسة لجيل الرواد، هي التي خصها الناقد حسن الغرفي بتأملاته النقدية. لماذا الحرص على مقاربة هذا الجيل تحديدا؟ أشهدُ أن النصوص الشعرية المغربية التي أتيح لي أن أقيم معها حوارا هي قليلة العدد ولكنها بالغة القيمة. لذلك حرصتُ على التواصل الحميم معها، هي التي، كذلك، شكلتْ بالنسبة إلي إغواء نقديا لما تنطوي عليه من عناصر أشرتُ إلى بعضها. لقد كتبتُ، إلى حد الآن، شهادتين عن الشاعر الفذ محمد الخمار الكنوني، فهو علامة مضيئة على الإنجاز الأجمل والأغنى والخلاق في إبداعنا المغربي المعاصر... أما عن شيخنا العذب الجليل سيدي محمد السرغيني، فقد كتبتُ عنه مقالة مطولة بمناسبة إصداره لأعماله الشعرية شبه الكاملة، وأنجزتُ عن تجربته الخلاقة كتابا حواريا بعنوان «هكذا تكلم الشاعر..سيرة شعرية ثقافية للشاعر محمد السرغيني»، أتمنى أن يجد طريقه إلى النشر. محمد السرغيني عميد القصيدة المغربية المعاصرة بدون منازع. وشاعر الحكمة ونفاذ النظرة وتوهج البصيرة. إنه واحد من أهم الأسماء الشعرية العربية في حداثتها المتوازنة الحديثة. ولأنني لم أركز اهتمامي فقط على جيل الرواد عندنا، كما جاء في سؤالك، فقد أنجزتُ دراسة مطولة عن المتون الشعرية للشاعر محمد علي الرباوي... - يفترض الناقد حسن الغرفي علاقة بين المكان والتجربة الشعرية، كيف تنظرون إلى هذه العلاقة في القصيدة المغربية؟ < إن عنصر المكان، في القصيدة المغربية المعاصرة، لا يحتل المكانة المرجوة، ولا يشغل حيزا متميزا من اهتمامات شعرائنا. بالطبع أستثني هنا متون بعض الشعراء المنتمين إلى جيلي الريادة والسبعينيات. بالنسبة إلي شخصيا، يهمني أن أشير، في هذا المجال، إلى أنني لا أهتم إطلاقا، في دراساتي بالمكان الطباعي. وأركز على تمظهرات أخرى يتخذها المكان في المتون الشعرية التي درستُها إلى حد الآن، مشرقية ومغربية (الأمكنة المؤسطرة، الأبعاد الرمزية للأمكنة، الأقنعة...). لقد شكل المكان بكل تمظهراته أحد المفاتيح الرئيسية للولوج إلى العوالم الشعرية للشاعرين محمد السرغيني ومحمد علي الرباوي، اللذين سبق لي دراسة متونهما، بل وأعتبره من أهم عناصر التشكيل الشعري لديهما، حيث منح متونهما نوعا من الخصوصية والتميز. لقد كان استحضار الشاعرين للعديد من الأمكنة ذات الطابع المحلي والمرجعية الوطنية والعربية والإسلامية والأجنبية، أحد أشكال التعبير لديهما عن الذات والجماعة والإنسانية، حيث حملوها العديد من مواقفهما وعواطفهما ومشاعرهما، عبر توظيفهما لشتى التقنيات والآليات. إن ما يسترعي الانتباه، في هذا المجال، ونحن نقلب صفحات ديوان الشعر المغربي، هو الخيبة التي تواجهنا من شبه غياب لمعطيات البيئات الجغرافية المختلفة التي يتحدر منها شعراؤنا، بحيث لا نجد سوى معطيات القراءة لديهم، وكأنه شعر يُكتَب من شعر آخر لا من العالم المحيط، ولا من مدركات الحواس. من هنا عمتْ ظاهرة التجريد في هذا الشعر. - يتفاعل الناقد حسن الغرفي الآن مع الواقع الثقافي المغربي بأناة قريبة من الحذر. ما الداعي إلى نسج مثل هذه العلاقة؟ < من أكثر العبارات التي آمنتُ بها عن تجريب حي وملموس، مقولة شاعرنا العظيم صلاح عبد الصبور «أجافيكم لأعرفكم»، ومقولة «الآخرون هم الجحيم». لا شك أن معظم ما يحيط بنا يغري بالعزلة واليأس. لم يعد هناك لا في السياسة ولا في الثقافة، ما يوحي بأمل كبير في خلاص مؤكد. إن ما تسميه أنتَ بالواقع الثقافي، هو، في الحقيقة، واقع مكتظ بكافة أنواع النميمة والدسائس الصغيرة والتملق والزبونية، بحثا عن تحقيق نجومية وهمية وأشياء أخرى... إن بعض مؤسساتنا الثقافية غير عادلة، وغير ديمقراطية، ولا تتسم بالحد الأدنى من الموضوعية والنزاهة. وذلك، مثلا، من خلال تركيزها، بإصرار شديد، على لائحة خاصة يتداولها تباعا رؤساء اتحاد كتاب المغرب، هي نفسها التي تداولها السابقون واللاحقون من مسؤولي وزارة الثقافة مند عقد ونيف من الزمن. وهذه اللائحة لم تعد خافية على أحد، حيث صارت مكرسة في كل الأنشطة الثقافية (أنشطة معرض الكتاب، النشر، لجان القراءة، الأسفار، الحضور في الفعاليات الثقافية داخل المغرب وخارجه، الجوائز...) لقد قررتُ العيش متلفعا بعزلتي الاختيارية... تاركا لغيري أن يتقاتل من أجل الاستعراض والظهور، وتقاسم كعكة لا وجود لها.