المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منظومة القيم في فكر أبي بكر القادري
نشر في هسبريس يوم 12 - 02 - 2017

بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة لوفاة المجاهد الأستاذ أبي بكر القادري واحتفاء بصدور الطبعة الثانية من مؤلفه الوثيقة (مذكراتي في الحركة الوطنية ج1،1930 1940 ) يسعدني بدعوة كريمة من رئيس مؤسسة أبي بكر القادري للفكر والثقافة الأستاذ خالد القادري أن أتحدث عن شخصية أبي بكر القادري في تجلياتها الإنسانية وأبعادها الوطنية أو ما يمكن أن يُعَبَّر عنه : بمنظومة القيم في فكر أبي بكر القادري .
وأستهل الحديث بتنويه جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه بمزايا أبي بكر القادري العلمية والمهنية ، يقول في رسالة تعيينه عضوا بأكاديمية المملكة المغربية سنة 1982 :" ونظرا لمزاياك الإنسانية والمهنية العديدة ، ولما يتوفر فيك من شروطِ الأهلية والكفاية في حقل نشاطك ،ولاسيما انقطاعُك للتدريس وإسهامُك في بحوث الحضارة الإسلامية والسيرة النبوية إسهاما قيما ، ومشاركتُك في الحركة الفكرية والثقافية كاتبا وأديبا وباحثا ...فلقد قررنا الموافقةَ على ترشيحك وعيناك عضوا مقيما بأكاديمية المملكة المغربية تشريفا لشخصك ورعيا لخدماتك ، وتقديرا لتعلقك بالقيم الروحية والثقافية والحضارية ، وتنويها بجدارتك في الميدان الذي تُكِّرس له عملك ".
فماذا عن هذه المزايا وهذه الكفاية ؟
لاشك في أن دلالة هذه الشهادة تدعو إلى تفكيك عناصرها وتحليل مضامينها واستخلاص ماهيتها ، إنها شهادة تلخِّص ما أودُّ طرحه عن منظومة القيم في فكر أبي بكر القادري .
والقيم لغةً كما هو معروف جمعٌ لكلمة قيمة وهي الشيء ذو القيمة والمقدار ، واصطلاحا مجموعة الصفات الأخلاقية أوالخلقية التي يتميز بها الفرد وعليها تقوم الحياة عنده ويتم التعبيرُ عنها بالأقوال والأفعال ، وعن معناها الفلسفي يقول الأستاذ طه عبد الرحمن في مؤلفه "تعدديةُ القيم ص 11 " : " تفيدُ القيمةُ المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهدَ في الإتيان بأفعاله وأقواله على مقتضاه" ، ولعلها بذلك تدل على المُثُل العليا وأهمها الأخلاق ، فهي غاية في ذاتها لا وسائلَ لغيرها .
فالقيم إذن مجموعةُ من المبادئ والمؤشرات الخلقية والعلمية والحضارية التي يتم من خلالها تشكُّلُ شخصية الفرد في تماسكها وقوتها واتزانها وقدرتها على التغيير والبناء، وإذا كان التسليمُ بها كونيةً دون نقاش ، فهي جوهرُ التعاليم الإسلامية ومبتدؤه وخبره ، إنها قيمٌ تزاوج بين المرجعية الدينية والمرجعية الكونية ، بها يتقوَّى الإيمان بالله، ويتقوى الإيمان بمشروع بناء مجتمع واع بما له وما عليه ، لذلك فهي مدخلٌ لبناء المشترك الإنساني على أسس أخلاقية قطعيةِ النفع في المقصد والنجاعةِ في الوسيلة .( تحدث عنها بتفصيل الأستاذ طه عبد الرحمن في كتابه تعدُّدية القيم : ما مداها ؟ وما حدودها؟ ).
من خلال هذا التعريف نخلص إلى أننا لا يمكن أن نتحدث عن القيم مجردةً بل هي ممارسةٌ وأفعالٌ تنغرسُ في شخصية الفرد فتطبعُ سلوكَه ومواقفَه وتحققُ تطلعاتِه وأهدافَه .
وأبوبكر القادري من الذين نجحوا في بناء شخصيتهم بناء على معطيات قيمية تعددتْ روافدها وتنوعتْ مرتكزاتها منذ شبابه المبكر، وهكذا تشكلتْ شخصيته من خلال إيمانه بمبادئه ومواقفه الوطنية من منظومة قيم كانت لها آثارٌ إيجابية في تكوين الوعي بما دعا إليه باعتباره موقفا قيميا له دورٌ في البناء والتكوين ،ومن ثم يمكن تصنيف هذه القيم والمبادئ في : الإيمان بالتعليم كقناة للتحرر والتواصل
- الثقة بالنفس والوفاء للمبادئ
- الإرادة الصلبة والعزيمة القوية في اتخاذ القرار
- التحدي والمواجهة : مواجهة المستعمر وتحدي قراراته
- التضحية بالحرية من أجل الوطن
- الكتابة تعبيرا عن الوفاء لرموز الوطنية
ويمكن إدراجُ بعض هذه القيم باختصار في الآتي :
أولا : القيم التربوية التعليمية : ويمثلها العلم كأداة للتوعية والبناء
يقول أبوبكر القادري :" لقد اتجهتُ بتفكيري في ذلك الوقت المبكر سنة 1933 إلى الاشتغال بالتعليم كتعبير عن حاجة المجتمع إلى أداة فعالة للتنوير"، ( قصة النهضة ص 49) وتمثَّلَ هذا التفكير في تأسيس المكتب الإسلامي سنة 1933، ( وهو النواة الصلبة لمدرسة النهضة فيما بعد ) و يهدف من وراء تأسيسه إلى تعليم أبناء بلدته وتكوينهم في فترة حرجة من تاريخ المغرب ، وكردُّ فعل إيجابي لما لحقه من ظلم المعلمة الفرنسية بطرده من مدرسة أبناء الأعيان، وسيتحمل أعباءَ المواجهة مع سياسة التغريب والغزو الفكري بإرادة صلبة وثقةٍ في النفس كبيرة وتحدٍّ للمصاعب بالتغلب عليها بشجاعة واتزان ،وهنا نلمسُ قطعية النفع كقيمة خلقية بالتفكير في تحرير الأبناء من الجهل ونجاعةِ الوسيلة باعتماد اللغة العربية أداةً للتعليم ووسيلةً لترسيخ قيمة الانتماء إلى الوطن .
كيف نجح أبوبكر القادري في يفاعته في إنشاء مدرسة للتربية والتعليم ؟.
يعود سرّ نجاحه فيما أعتقد إلى إيمانه بوجوب النهوض بمجتمعه وتحريره من سلطة المستعمر عن طريق تربية النشء وتعليمه وغرس المبادئ الخلقية والإسلامية في فكره ومعتقده الديني لبناء الشخصية الوطنية المغربية معتزةً بتاريخها ووطنها ولغتها .
وإيمانا منه بموقفه بتأسيس تعليم وطني حر فقد عانى مضايقات وإكراهات من طرف السلطة المدنية والمراقب المدني ، فلم تلن قناتُه ولم يُرهبْه التهديد ( فحُكم عليه بالسجن مع زمرة من رفاقه ،ص 59 قصة النهضة ) ، فعلى الرغم مما تعرض له من مضايقات كان وفيا لمبدئه ونجح في ذلك ،يقول : " على الرغم من كل ذلك (ويقصد المضايقات ) َبقيَتِ المدرسةُ قائمةَ الذات ، تؤدي رسالتها رغم بعض الخلل الذي أصابها نتيجة إلقاء القبض عليّ وعلى بعض المعلمين ، ص 70 " ، وتحديا للمستعمر مرة أخرى كان تأسيس معهد سمو الأميرة عائشة العلوية بسلا في يناير سنة 1947، كما تمَّ وضع الحجر الأساسي للمركز الجديد لمدرسة النهضة في شتنبر 1947 ، هكذا نجح أبو بكر القادري في تحقيق مشروعه التربوي التعليمي معلنا تحدّيه للمستعمر .
وتحظى الفتاة السلوية بعنايته فيدعو إلى تعليمها وتحريرها من الأمية والجهل وتشجيع الآباء على التحاقها بالأقسام الدراسية ،ولعل انبهاره بفصاحة الممثلة فاطمة رشدي وهي تلقي كلمة يوم الاحتفال بها بمدينة سلا عام 1932 دعاه إلى التساؤل " متى تُقبلُ بنات شعبي وأمتي على التعليم ....فطريق النهضة الصحيحة سيبقى بعيدا إذا لم نُفسح المجال للبنت المغربية كي ترتوي من معين المعرفة وتلج باب المدرسة وتتعلم مثل ما يتعلم الولد سواء بسواء "،إنها الفكرة التي شغلت باله فعمل على تأسيس معهد الأميرة للاعائشة لتعليم الفتاة،ومن ثمَّ حقق أمنيته وانتصر لفكرته ،فتعليمها من أوجب الواجبات وهو الذي سيرفعها درجات .
لقد شغله أمر المدرسة باعتبارها تمثل روح التربية والتعليم في فكره، يقول :" أعتبرها أي مدرسة النهضة بمنزلة الابن والأخ والوالد والصديق بل أعتبرها جزءا مني، وأنا جزء منها "( قصة النهضة ص 11) .
كما يتّضح أن مواجهة المدّ الاستعماري الذي رغب في تفتيت وحدة المغرب والكيد لهويته تمثَّل في صيانة الهوية الوطنية وأهمُّها اللغة العربية ،لقد عملتْ فرنسا منذ التوقيع على معاهدة الحماية على الترويج للغتها الفرنسية في مجتمع يعاني من أوضاع متردية باعتبارها أي اللغة وسيلةً ناجعة لامتلاك العقول ،ولغةَ الحضارة والعلم، فأُسَّسَتْ مدارس للتعليم في بعض المدن والقرى بناءً على منهجية تحكمية يسهل معها النفاذُ إلى الأجيال المتعطشة إلى العلم ،معتقدةً أنها نجحت في مراميها بتخدير العقول والأفكار، لكن الطبقة المتنورة من أبناء الوطن وفي مقدمتهم أبوبكر القادري تصدتْ لهذه المصيدة ودافعتْ عن هوية المغاربة بتأسيس مدارس التعليم الحر في العديد من المدن المغربية ومنها مدينة سلا ،فاللغة العربية عنوانُ الشخصية المغربية الوطنية، والتحدي طابعُ هذا التمرد،إذ اعتمدتِ هذه المدارسُ الوطنية الحرة اللغة العربية أسلوبا ومنهجا ، دون إهمال تعليم اللغة الفرنسية كلغة خطاب وليس كلغة مستعمر ،فالدفاع عن اللغة العربية مبدأ أساسي في فكر رجال الحركة الوطنية ومنهم أبوبكر القادري، يقول في هذا الموضوع**:"قامت الحركة الوطنية من أجل تحرير المغرب من الاستعمار بواسطة أساليبَ ووسائلَ اتخذتها سبلا لبلوغ الهدف ،ومن هذه الأساليب الحفاظُ على الهوية الوطنية المغربية وأقواها اللغةُ العربية ،فهي لغة القرآن ولغة العبادة والثقافة والحياة العامة بما فيها من تعارف وتعاون ،وهي الرابط المتين بين حاضر الأمة المغربية وماضيها في نطاق إسلامها، بها نحافظ على وحدتنا الوطنية ،وهي الوحدة التي تجمع بين عناصر الشعب المغربي البربري والعربي والإفريقي،وتصهر المغاربة أجمعين في بوتقة واحدة توحّدهم في كيان واحد توحّدتْ دماؤه بالمصاهرة والنسب ".(دور الحركة الوطنية في ترسيخ الهوية الوطنية "، (ضمن كتاب مستقبل الهوية الوطنية أمام التحديات المعاصرة ،مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 1997 / ص114).
ومما يؤسف له أن اللغة العربية اليوم تعيش انتكاسةً وردًّةً في وطن لغتُه الرسمية هي اللغةُ العربية ،وأشدُّ أنواع الظلم أن يكون من أبنائها كما قال الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً ** على النفس من وقع الحسام المهنّد
ثانيا : القيم الأخلاقية :وتمثلها التعاليم الدينية الإسلامية في أوضح صورها :الصدق والاستقامة والأمانة وغيرها .
نشأ الأستاذ أبوبكر القادري في بيئة محافظة،وتلقى دروسه الأولى في مدرسة حرة (مدرسة درب لعلو بسلا)،فحفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم الإسلامية واللغة العربية،وداوم على حلقات دروس المسجد الأعظم بسلا،فتشبَّع بتعاليم الإسلام وقوانينه وضوابطه ،وبذلك كان المسجد منطلقَ إيمانه بالدعوة إلى المطالبة بالحرية والاستقلال منذ صدور الظهير البربري،وتقوّى إيمانه بما للمسجد من قدرات على التصحيح والتغيير،وما لمبادئ الدين الإسلامي من دور في التربية والتكوين،فالتعاليم الإسلامية نبعٌ فياضٌ للقيم الأخلاقية في أبهى صورها وأجمل مظاهرها،فالإسلام دين العدل والحق والحرية والفضيلة والصدق وغيرها .
وفي موضوع الأخلاق يقول الشاعر أحمد شوقي في رثائيته الجميلة للأندلس الفقيدة :
وليس بعامرٍ بنيانُ قوم ** إذا أخلاقهمُ كانت خرابا
ويقول في قصيدته (قم للمعلم ) منبها إلى دور الأخلاق في المجتمع :
وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقهم ** فأقِمْ عليهمْ مأتما وعويلا
تعتبر التربية على القيم الأخلاقية العاملَ الأول في بناء صرح مجتمع أقربَ إلى المجتمع المثالي الذي ننشده كما أشار إليه المفكرون قديما وحديثا، وفصَّلتْ فيه القولَ التعاليمُ الدينية الإسلامية ، وتتمثلُ هذه القيم كما سبقت الإشارة في التواضع والصدق والجدية والأمانة والإحساس والمسؤولية والقيام بالواجب وغيرها.كانت التربية الأخلاقية منطلقا لكل تعليم في فكر القادري، يقول :" إذا كانت بلادنا في حاجة أكيدة إلى المتعلمين والمثقفين والمكونين في مختلف مجالات الحياة فإنها في حاجة أكثر إلى المتحصنين بالأخلاق ، المربين على السلوك القويم ...إننا إذا كنا في حاجة إلى كثير من العلم ، فإننا أيضا في حاجة كثيرة إلى الأخلاق ،،،فهي التي تصون المثقفين وتقودهم إلى أن يقوموا بواجبهم بتفان وصدق وإخلاص سواء في التعليم أو في غيره من المجالات ، لقد اعتنت مدرستنا بالناحية الخلقية في تكوين تلامذتها ...بذلتِ الجهدَ وقامتْ بالواجب .( قصة النهضة ص 147)، ولن تتمّ محاربة الاضطهاد والقهر والجهل إلا عن طريق إصلاح أفراد المجتمع في إطار سلوك أَحْكَمَتْ ضوابطَهُ منظومةُ قيم أخلاقية تتغيَّى تجذيرها في الأفكار والمعاملات .
فالأخلاق هي المطلبُ والهدفُ في فكر الأستاذ القادري ،ومن خلال هذا الموقف تتأكد المزايا القيمية التربوية والخلقية والتعليمية متمثلةً في مِهَنِيَّته وأهليته وكفايته في حقل نشاطه كما أشارت الكلمة الملكية " انقطاعُه للتدريس وتعلُّقُه بالقيم الروحية ".
ثالثأ : القيم الوطنية : وتمثلها التضحية بالحرية من أجل الوطن
إذا كان حب الوطن من الإيمان ،فإن العمل من أجل الدفاع عنه وتحريره من يد الجناة الغاصبين كان بؤرةَ جهاد ونضال في فكر أبي بكر القادري، وتشكل الوطنية قيمة خلقية راسخة في قوله وعمله ،يقول : "انغمرت في العمل الوطني وأنا في سنّ السابعة عشرة من عمري أي سنة 1930 ، ولدى تقديم مطالب الشعب المغربي في دجنبر 1934 كنت من العشرة الذين قدموها لجلالة الملك محمد الخامس،(مذكراتي ج1/ 296 )،وتتلخص في طرح جميع القضايا والمشاكل التي يعاني منها الشعب المغربي كفقدان الحريات العامة وقضايا التعليم وتسلط رجال السلطة على المواطنين ومشاكل الفلاح المغربي والتهمم بالصحة العامة بإنشاء المستشفيات والمصحات ، وعن الضرائب والتراجع عن تطبيق السياسة البربرية ومنع التبشير المسيحي بين المسلمين إلى غير ذلك "،كما تكفلت مجموعة أخرى من الوطنيين بتقديم هذه المطالب للمقيم العام للجمهورية الفرنسية ، لكن لم يتحقق شيء مما دعت إليه المطالب ،وبعد سنتين أي سنة 1936 سيرفع القادري مع زمرة من الوطنيين في كتلة العمل الوطني " ملف المطالب المستعجلة إلى جلالة الملك والمقيم العام للتذكير بالمطالب العامة السابقة مع إضافات اقتضاها الوضع العام للبلاد رغبة في إنجاز برنامج إصلاحي عاجل ينقذ البلاد ممَّا ترزح فيه من استبداد وتحكم في تسيير البلاد وفي استغلال خيراتها. (ج1/323 ،324)، وأكدتْ هذه المطالب من جديد على موضوعات منها :الحريات الديموقراطية والتعليم والعدلية والفلاحة والضرائب والصحة العامة، إنها المطالب التي يسعى الشعب المغربي من خلال مناضلي كتلة العمل الوطني إلى تنفيذها بتطبيق الإصلاحات الضرورية وإشعار السلطة الاستعمارية بإخلالها في ذلك .
وللإشارة فقد كان القادري من وطنيي مدينة سلا الذين دعوا إلى الاحتفال بعيد العرش يوم 18 نونبر 1933 تأكيدا للروابط الروحية والوطنية التي تجمع المغاربة والوطنيين بالسلطان محمد بن يوسف، ولقي الاحتفال صدى طيبا في جميع أرجاء المغرب ، وانبهر المستعمر بالروح الوطنية التي ينعم بها المغاربة ،وأصبح الاحتفال بعيد العرش عيدا رسميا في جميع ربوع المملكة .
كان إصرار المجاهد القادري على القيام بالواجب المتمثل في مقاومة المحتل كبيرا،وكان الوفاء لموقفه من المستعمر واضحا ، لم يتخلَ عنه على الرغم من ظروف صعبة اجتازها في هذه المرحلة، يذكر عندما طُلِبَ منه التريثُ في مواقفه والابتعادُ عن المشاركة في المظاهرات خوفا من اعتقاله لتهديدَ الإقامة العامة بالسجن لكل متظاهر أو خطيب بالمسجد يقول:" القضية يا أخي أي قضية الانسحاب من التظاهر تهمّني وحدي وليس من حق أي أحد أن يصرفني عن أداء واجبي أو يتدخل في شؤوني" (ج1/ 448)، وكان قد أُلْقِيَ عليه القبض مباشرة كما هدد المقيم العام قبل ذلك (1937). بمثل هذا الإصرار والتحدي نلمس وطنية الرجل وتضحيته بحريته في سبيل المطالبة بحرية وطنه وكرامة مواطنيه ،لم يرهبه السجن ولم تردعه التهديدات، وسيلقى عليه القبض مرات عديدة (1932 ، 1935،1937، 1944، 1952، 1953)، فلم يزده السجن إلا صلابة في الموقف وتحديا للسطلة الاستعمارية ،وتشبثا بالحرية والاستقلال .
وإيمانا بموقفه وهو يدافع عن حرية وطنه ، لم يكن السجنُ مَدْعاةً للتخلي عن مبدئه في مقاومة المستعمر،بل كان السجنُ منطلقا جديدا لتثقيف نفسه والارتقاء بها معرفيا وعقد صداقات مع وطنيين من أنحاء المغرب يجمعهم حب الوطن والدفاع عن حريته واستقلاله، يقول:"السجن مدرسةٌ من مدارس الحياة الحقيقية ، المتخرجُ منها لابد أن يحصل على شهادة في معرفة الحياة .....في السجن تعلمتُ الكثير، واستفدتُ الكثير ... والسجينُ الوطني يُدرك تمام الإدراك أن التضحيةَ في سبيل الله والوطن شيءٌ شريف ، ...(ج1/ 467 )،
إن المتتبع لحياة أبي بكر القادري قبل الاستقلال وبعده يشعر بما كان له من حضور وازن في الساحة السياسية الوطنية، مؤمنا بما للثقة بالنفس والثبات على المبدإ من أدوار في الحفاظ على الوطن وعلى رمزيته،لم يتوقف عمله من أجل الصالح العام بعد الاستقلال، بل سيتابع الخطوات بعزيمة قوية،فيشارك في الملتقيات السياسية في المغرب وخارجِه ، في مؤتمر طنجة لتوحيد المغرب العربي سنة 1958 ، وفي الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في الملتقيات الوطنية والعربية ، فانتخب كاتبا عاما للجمعية المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني ، ودافع عن الأقليات الإسلامية في العالم واهتم بقضاياها ومشاكلها إلى غيرها من المواقف المشرفة التي كان يعتز بها في أحاديثه وكتاباته ،كما شارك في العديد من المؤتمرات للدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة المغربية، واختاره جلالة الملك الحسن الثاني ليشارك في الحملة الدبلوماسية التي قام بها المغرب لشرح الموقف الوطني من قضية الصحراء ، لقد ضحى الأستاذ القادري بنفسه وبالحياة ثمنا للحرية المنشودة ، مع أن الحرية والتضحية تتصادمان وعلى طرفي نقيض ،لكنه آثر التضحية كقيمة خلقية تتغيى المصلحة العامة للوطن.
رابعا : القيم الثقافية : وتمثلها مؤلفاته ومذكراته ووفاؤه لرموز الحركة الوطنية.
من مزايا أبي بكر القادري كما ذكر جلالة الملك الحسن الثاني في رسالته السابقة: "إسهامُه في بحوث الحضارة الإسلامية والسيرة النبوية إسهاما قيما ومشاركته في الحركة الفكرية والثقافية كاتبا وأديبا وباحثا ".
كانت شخصية أبي بكر القادري متعددةَ الأبعاد ،متوقدةَ الذهن،أرهفتِ السمع بعد النضال والجهاد في عالمي التربية والتعليم والوطنية إلى أصوات الترحيب به في عالم الكتابة والتأليف ، مستثمرا معارفه ومعلوماته فتعهدها بالصقل والتهذيب لينغمس في عالم جديد كاتبا وباحثا كما أشارت الرسالة الملكية ،كان فيما يبدو مؤهلا لذلك إلى أن أتيحت له الفرصة بعد استقلال المغرب ،فصاحَبَ القلم وألَّفَ في موضوعات كان يراها الأقرب إليه تاريخية ووطنية وأدبية ودينية وسياسية .
لقد كان للأستاذ القادري قبل الاستقلال نصيبٌ في الكتابة الصحفية بجريدة الأطلس والتقدم وجريدة تونس الفتاة التي كانت تصدر بتونس ، ومجلة الإسلام التي كانت تصدر بالقاهرة ومجلة الرابطة الإسلامية التي كانت تصدر بدمشق ، كما كانت مقالاته بجريدة العلم منبرا للتعبير عن آرائه وتصوراته في العديد من الموضوعات، أما مقالاته بجريدة العلم فكانت منبرا للتعبير عن آرائه وتصوراته في العديد من الموضوعات قبل الاستقلال وبعده ،
أما بعد الاستقلال فكان له دور ريادي في الصحافة بإنشاء مجلة "الإيمان "سنة 1963 1985"، صدرت هذه المجلة في فترة " كان المغرب غارقا في لجة التحولات العميقة ، تتجاذبه التيارات العنيفة ، وكان الإنسان المغربي ضائعا وحائرا" كما يذكر الأستاذ عبد القادر الإدريسي . ثم جريدة الرسالة الأسبوعية سنة 1980 1986 لتكون منبرا " لبلورة الصحوة الإسلامية الحديثة العهد بالظهور" .
أما مؤلفاته فتجاوزت الخمسين بين تراجمَ لشخصياتٍ سياسية ووطنية وثقافية ودينية ، ومذكراتٍ سياسية وموضوعات إسلامية وغيرها مما يدعو إلى الإعجاب بذاكرته المتقدة وحضورِها وقتَ الطلب ، فكان نصيبُ الكتابة عن تراجم الأعلام كبيرا بلغ واحدا وعشرين كتابا ، كان وفيا لصانعي التاريخ سياسة وعلما وثقافة ،وكانت هذه المؤلفاتُ تراجمَ توثيقية لرجال احتك بهم عن قرب بل ولازم بعضَهم في فترات الكفاح الوطني وعرف بعضهم من خلال ندوات علمية أو سياسية ، من هذه التراجم : محمد حصار ، سعيد حجي ،أحمد بلافريج ، محمد الخامس ،أما مؤلفاته الدينية فكانت تدعو إلى " مراجعة المقاييس والمعايير التي يسير عليها المجتمع الإسلامي ،إنه أي المجتمع في حاجة إلى تحوّل جذري بإقامة نظام الحياة الإنسانية كما أرادها الإسلام ووضحتها السنة النبوية ، فلا تتحقق أهداف الإسلام المثالية إلا في مجتمع متوازن متعادل مبني على إصلاح اجتماعي وتعاون إنساني " ( في سبيل مجتمع إسلامي 1986، ص 5،6 ) ، ومن مؤلفاته الدينية ( السبيليات ) :في سبيل وعي إسلامي وفي سبيل بعث إسلامي ، المجتمع الإسلامي في مواجهة التحديات الحضارية الحديثة ،في سبيل مجتمع إسلامي ، جولات في رحاب النبوة ، ومن كتب الرحلات : مشاهدات في الولايات المتحدة الأمريكية ، وستة أيام في اليابان ،رحلاتي الحجازية ، أما المذكرات فأهمها مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية وتقع في ثمانية أجزاء، وقصة النهضة .ويخص المرأة بمؤلف عنوانه " دفاعا عن المرأة المسلمة " ، إلى غيرها من المؤلفات .
انطلاقا من هذا الكم الوفير من المؤلفات تتبلور القيمُ الثقافيةُ بأوجه متعددة لامستْ ما هو دينيٌّ وإسلامي وتاريخيٌّ وتوثيقي ، فواكب الحركة الفكرية والثقافية والحضارية باحثا وكاتبا هدفُه المشاركةُ الواعية في بناء مجتمعه بتقديم النموذج والمثال ،مؤكدا ما للحفاظ على الثوابت من قدرة على التغيير بالكلمة الصادقة والتوجيه الصائب ، وكلُّها كتاباتٌ تؤكد تعلُّقه بثقافة وطنه وتاريخه كقيمٍ إنسانيةٍ نبيلة وثوابتَ أخلاقيةٍ لا مَحِيدَ عنها .
وتقديرا لكل هذه الثوابت الأخلاقية في فكر القادري وللقيم النبيلة التي تشبَّث بها في حياته ، حَظِيَ بتكريمات عديدة من طرف هيئات وجمعيات مختلفة في ندوات أو مؤلفات ،وصدرتْ تبعا لذلك ستة كتب في التنويه به وبوطنيته في التربية والتعليم وفي الحركة الوطنية، وكذلك التنويهِ بمؤلفاته وكتاباته ومشاركاته في الأنشطة العلمية والمؤتمرات الإسلامية وغير ذلك منها :
أبوبكر القادري : دراسات وشهادات :وهي أعمال الندوة التكريمية التي أقيمت بمدينة سلا احتفاء بصدور الجزء الأول من " مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية " سنة 1993 ، تنسيق نجاة المريني ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدارالبيضاء / 1994 .
النضال الوطني : مسيرة وآفاق : ندوة تكريمية للمجاهد أبي بكر القادري في بيت آل محمد عزيز الحبابي ،إعداد فاطمة الجامعي الحبابي ،مطبعة النجاح الجديدة / 1999 .
تكريم المجاهد أبي بكر القادري بمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لزيارة الملك محمد الخامس لطنجة ، مطبعة النجاح الجديدة / 2001 .
تكريم المجلس العلمي المحلي بسلا للمجاهد أبي بكر القادري ، مطبعة فضالة / 2007 .
أبو بكر القادري الرائد الوطني: ندوة تكريم حزب الاستقلال،مطبعة الرسالة / 2007 .
المجاهد أبو بكر القادري في الذاكرة الوطنية : كلمات وشهادات في تأبين الفقيد،مطبعة الرسالة / 2012 .
أبوبكر القادري : الجهاد بطعم الوطنية :للأستاذ عبد القادر الإدريسي ، مطبعة النجاح الجديدة / 2013 .
إضافة إلى عشرات المقالات التي كتبت تنويها به وبشخصيته التربوية والوطنية والعلمية في الصحف اليومية والمجلات الثقافية .
وختاما ،وكما جاء في كلمة الأستاذ عبد الوهاب بن منصور في تكريم الأستاذ القادري رواية عن جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة تدشين مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء سنة 1993 :" أبوبكر القادري رجل أحبه الله فأحبه الناس ".
نص العرض الذي شاركت به بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة لوفاة المجاهد أبي بكر القادري صباح يوم السبت 11 يبراير 2017 ، بمقر مؤسسة أبي بكر القادري للفكر والثقافة / بطانة / مدينة سلا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.