تكريم جلالة الملك محمد السادس لرجالات الحركة الوطنية وضمنهم الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال يدل على عمق تشبع جلالته بروح وقيم الحركة الوطنية التي تربى في أحضانها ألقى الأمين العام لحزب الاستقلال الأستاذ عباس الفاسي مداخلة هامة أثناء تخليد الذكرى الأربعينية لرحيل فقيد الأمة الكبير المجاهد أبوبكر القادري ذكر فيها بمناقب الفقيد ونضالهوجهاده في قضايا التربية والتكوين ونصرة القضية الفلسطينية وفي عمله الحزبي الجاد وقال الأستاذ عباس الفاسي في هذا الصدد : »من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. صدق الله العظيم أيتها السيدات أيها السادة يسعدني أن أتقدم بجزيل الشكر وخالص التقدير لكافة السادة الأفاضل، والسيدات الفضليات من داخل الوطن وخارجه على تلبية الدعوة لحضور هذا المهرجان التأبيني الحاشد. عربون صادق من الجميع وإن هذا الحضور المكثف لكبار مسؤولي الدولة وقيادات الأحزاب السياسية الوطنية والعلماء والنقابات المهنية، وأعضاء المقاومة وجيش التحرير، والتنظيمات الشبابية والنسائية، وفعاليات المجتمع المدني وممثلي تنظيمات وهيئات بعض الأقطار العربية الشقيقة، ليشكل عربون وفاء صادق من الجميع لهذه الشخصية الفذة، ودليل عرفان وتقدير لما بذله هذا المجاهد من جهود مضنية، وتضحيات جسام من أجل الدفاع عن حرية وطننا واسترجاع استقلاله، ومواصلة النضال لبناء المغرب المستقل، والدفاع عن ثوابت الأمة. ويشرفني بهذه المناسبة أن أتقدم باسم حزب الاستقلال ومؤسسة أبو بكر القادري للثقافة والفكر لجلالة الملك محمد السادس نصره الله بصادق الامتنان لما أَسْبَلَهُ جلالته من ضافي وسَابٍغٍ العناية الملكية على فقيدنا المجاهد أبو بكر القادري في حياته وعند وفاته. كما نجدد خالص الشكر والاعتزاز بما تضمنته رسالة التعزية والمواساة السامية التي أعرب فيها جلالته لأفراد أسرة المجاهد المرحوم وأهله وذويه وكذا لرفاقه في الجهاد الوطني وخاصة أسرته السياسية ممثلة في حزب الاستقلال الذي كان من مؤسسيه، وقادته الماهدين وأركانه العتيدة وحكمائه المحنكين. وإن هذه الالتفاتة الملكية السامية لتعتبر تكريما لما دَرَجَ عليه جلالته من اهتمام ملكي برجالات الحركة الوطنية عموما والموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال خصوصا، الذين شَمَلَهُمْ جلالته بتكريم مولوي خاص عمَّ الأحياء منهم والأموات وذلك بتوشيحهم بأوسمة ملكية سامية، الشيء الذي يدل على عمق تشبع جلالته بروح وقيم الحركة الوطنية التي تربى في حضنها. كما أود بهذه المناسبة تحية قيادات الدول العربية والإسلامية التي قدمت تعازيها إلى جلالة الملك وللشعب المغربي. معربا لرئيس دولة فلسطين المناضل محمود عباس عن اعتزازنا بحضور الوفد الذي انتدبه برئاسة المناضل عباس زكي عضو اللجنة المركزية لمنظمة فتح. الرزء الكبير أيتها السيدات أيها السادة لقد شكل رحيل المجاهد الكبير أبو بكر القادري خسارة كبرى لا لحزب الاستقلال وحده ولا للمغرب فقط بل كان رُزْءاً جسيما للأمة العربية والإسلامية وللمدافعين عن مبادئ القيم والأخلاق والمتشبثين بالوحدة وإشاعة مفاهيم الأمن والسلام بين الأمم والشعوب. فقد عاش حياة حافلة بالعطاء ضِمْنَ جيل رواد الحركة الوطنية الذين نَذَرُوا حياتهم للدفاع عن قضايا وطنهم وأمتهم وتحملوا قساوة المنافي والسجون في سبيل تحرير الوطن وصيانة كرامة الإنسان، فكان بحق في مقدمة أولئك الأعلام الذين رسموا بصمات متميزة في سجل تاريخ أمتنا المعاصر والذين أقسموا على مواصلة النضال إلى أن تتحقق مطامح الشعب المغربي في الاستقلال واستعادة سيادته ووحدة ترابه وصيانة وحدته الوطنية والذين أسسوا الحركة الوطنية التي انطلقت منذ سنة 1930 وأسهم المجاهد في كل المحطات النضالية التي تواصلت منذ ذلك التاريخ سواء في كتلة العمل الوطني أو الحزب الوطني وصولا إلى حزب الاستقلال مما عَرَّضَهُ لِتَنْكِيلِ المستعمر فاعتُقل وسُجِن عدة مرّات وتَمَّ نفيُهُ إلى أغبالو تكردوس إلا أن كل ذلك لم يَفُتّ في عَضُدِه ولم يَنَلْ من قوة إيمانه، إلى أن تحررت البلاد وواصل جهوده الصادقة للإسهام في بناء المغرب المستقل. فلم يتوقف عطاؤه النضالي ولاَ نَضَبَ مَعِينُ إنتاجه الفكري المتنوع الاهتمامات والانشغالات. رجل تعليم وتربية ونظرا لتعدد أبعاد هذا الرمز الوطني الذي تستعصي على الحصر جوانب شخصيته ومجالات اهتماماته ونشاطاته، وحتى ينفسح المجال للسادة الأفاضل المتدخلين سأحاول الاقتصار على تناول جوانب مُقْتَضَبَة من عطاءاته ومجالات انشغاله. وفي هذا السياق كان المجاهد أبو بكر القادري رجل تعليم وتربية بامتياز فهو في مقدمة الرواد الذين تعهدوا تأسيس مدارس التعليم الحر، لإشاعة نور المعرفة بين مختلف فئات الشعب نساء ورجالا وقد كان بالخصوص حريصا على أن تنال الفتيات حظهن من العلم من أجل تأهيل المرأة المغربية للإسهام بجانب أخيها الرجل في تحرير الوطن وبنائه. وفي هذا الإطار أسس مدرسة الأميرة للاعائشة لتعليم الفتيات إلى جانب (مدرسة النهضة التي كانت أول ثانوية بمدينة سلا المجاهدة، وقد أسهمت هذه المؤسسة التعليمية بقسط وافر في تكوين العديد من الأطر الوطنية البارزة فتيانا وفتيات من مختلف طبقات الشعب، فكانت بذلك إحدى أبرز اللبنات الأساسية لبناء التعليم الحر الذي أدركت الحركة الوطنية في وقت مبكر أهميته في مجال صيانة اللغة العربية وتجذير التربية الوطنية في نفوس الأجيال الصاعدة ومواجهة المستعمر بالفكر والعلم إلى جانب المقاومة بالسياسة والسلاح، فتوجه اهتمام الرواد إلى تأسيس المدارس الحرة في العديد من المدن الكبيرة والصغيرة في مختلف أقاليم وجهات المملكة، لإنقاذ المواطنين من ظلمة الجهل، وذلك لرفع نسبة التمدرس المنخفض نظراً لسياسة المستعمر الهادفة إلى تهْمِيش وحرمان أبناء الشعب من التعليم، فتصدى الوطنيون لهذا المخطط بالعمل على تعليم الكبار والصغار من أجل تعريفهم بتاريخ المغرب الحقيقي وحضارته ودينه وثقافته ومقومات هويته وإنسيته حتى لا يقعوا ضحية الاستلاب الفكري والروحي الذي يخطط له المستعمر ويمهد له بكل الوسائل. وقد كان خريجو مدرسة النهضة وغيرها من مدارس التعليم الحر كمدارس محمد الخامس بالرباط يتوجهون لإتمام دراساتهم إلى الخارج وخاصة إلى المشرق العربي، ليشكلوا بذلك جسر تواصل فكري وإنساني مع الإخوة في الدول العربية الأخرى التي كان الوطنيون بالمغرب يتتبعون تطورات الأحداث بها. ولا يشغلهم الاهتمام بقضايا الوطن في كل أبعادها عن ما يعانيه باقي أقطار أمتنا وخاصة ما يكابده الشعب الفلسطيني من جراء الغزو الصهيوني. القضية الفلسطينية وفي هذا الصدد كان المجاهد أبو بكر القادري مشدود الفكر والوجدان بما تعرفه الساحات العربية والإسلامية من تطورات وما لأحداثها من تداعيات خصوصا على القضية الفلسطينية التي صدمته نكبتها وما يتهدد المسجد الأقصى من مخاطر، وتتبع ما يعانيه الشعب الفلسطيني من تهجير وتشريد وتقتيل بحرقة الوطني المؤمن الغيور الواعي بأبعاد المؤامرة . وتقديرا من جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله لاهتمام المجاهد الدائم بالقضية الفلسطينية أوفده على رأس وفد هام سنة 1967 إلى العديد من الدول الإفريقية الإسلامية ليشرح لهم طبيعة الصراع حول فلسطين وينبههم لمخاطر محاولات الاختراق الصهيوني للدول الإسلامية. وفي سنة 1968 انتخب المجاهد بإجماع قيادات أحزاب ونقابات الحركة الوطنية رئيسا للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني لمدة عشرين سنة ولم يتوقف عن تتبع ودعم نضال الشعب الفلسطيني والدعوة إلى وحدة صفه وتظافر جهود كل فصائله مؤكدا على ذلك في مختلف المنتديات والمؤتمرات التي يشارك فيها، وقد توثقت خلال هذا المسار النضالي الطويل أواصر الأخوة والصداقة بينه مع مختلف قيادات الكفاح الفلسطيني وخاصة المجاهدين الشهيدين أبو عمار وأبو جهاد ورئيس الدولة الفلسطينية المناضل محمود عباس وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني. وفي إطار إسهامه في الدفع بمستوى علاقات بلادنا مع الدول الصديقة والشقيقة، تجدر الإشارة إلى أن الفقيد كان راسخ القناعة بضرورة بناء المغرب العربي باعتباره حتمية حيوية لتعزيز مقومات بناء وصيانة استقلال أقطارنا المغاربية. هذا إلى جانب تأكيده الدائم على الاهتمام بتشجيع التعاون مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء باعتبارها عمقا استراتيجيا هاما لبلادنا. وقد أوفده جلالة الملك الحسن الثاني ليقوم بجولة لدى العديد من الدول الإفريقية ليشرح لقادتها وجهة نظر بلادنا من الصراع المفتعل حول الصحراء المحتلة آنذاك من طرف الاحتلال الإسباني والتي سيتم تحريرها بفضل المسيرة الخضراء والتي حرص الفقيد على أن يكون في مقدمة الوفد القيادي الذي مثل حزب الاستقلال ضمن المتطوعين الذين اقتحموا الحدود الوهمية ليتم استرجاع أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب إلى حوزة الوطن ليعيش لحظة تاريخية طالما تمناها. وكان يذكر هذا الإنجاز التاريخي باعتزاز كبير متأسفا على أن لا يكون رفيق مساره النضالي الطويل الزعيم علال الفاسي شاهدا على استرجاع الصحراء المغربية التي كرس لها جزءا كبيرا من نضاله ولقي ربه وهو يدافع عن استرجاعها للوطن الأب. الشغف بالعلم والبحث والتحصيل أيتها السيدات، أيها السادة، لقد عاش المرحوم طيلة حياته وفي غمرة أنشطته السياسية والنضالية والاجتماعية شغوفا بالعلم ومواصلة البحث والتحصيل وارتياد الأندية الثقافية والإسهام في الندوات الفكرية والكتابة في الصحف والمجلات والانكباب على التأليف حتى ناهزت إصداراته ستين مؤلفا أغنى بها المكتبة الوطنية والعربية والإسلامية وحصن بالعديد من مؤلفاته فترات هامة من الذاكرة الوطنية الجماعية وأسعف بها الطلبة والباحثين المهتمين بتاريخ بلادنا المعاصر كما عرف بالعديد من رجالات الحركة الوطنية وقضايا الأمة العربية والإسلامية، هذا إلى جانب المجهود الدعوي الذي كان يقوم به إذ كان رحمه الله داعيا إسلاميا متميزا بالقدرة على الحوار بفكر متفتح وصدر رحب ورؤيا واضحة مستوعبة لمتطلبات التفاعل مع مختلف التيارات والتعاطي مع وجهات النظر المتباينة بتواضع العالم وقدرة نادرة على التفنن في أساليب الحوار الهادف والهادي خصوصا مع الشباب الذي كان شديد الحرص على التواصل بمختلف فئاته وكان يقول إني أتعلم من خلال هذا التواصل الذي كان يعتبره من قبيل التكوين المستمر اللازم لمواكبة الأجيال الصاعدة في مسار حياة الإنسان سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وأتذكر في هذا الإطار أنني لما انتخبت عضوا في اللجنة التنفيذية للحزب سنة 1974 كنت دائما أصغى باهتمام إلى تدخلاته وتحليلاته الهادئة والعميقة والهادفة بأسلوبه الشيق الميال إلى البحث عن التوافقات في معظم الأحيان إلا أنه عندما يتعلق الأمر بقضايا تهم المبادئ والثوابت والقيم يكون حازما وصارما باعتبارها خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما وهبه الله من فضيلة القدرة على الحوار والإقناع جعلته يسهم بفعالية في إغناء وإثمار النقاش حول تأسيس الكتلة، كما كان له دور هام في جعل جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله يقتنع بضرورة تعديل الدستور مرتين 1992 و 1996. دور مهم في العمل الحزبي أيتها السيدات، أيها السادة، إن من أهم جوانب شخصية المجاهد أبو بكر القادري التي أود التذكير بها أيضا هو دوره في تأطير وتسيير العمل الحزبي إذ عرف باعتباره مناضلا حزبيا ملتزما بقدرته على إحكام التنظيم الحزبي منذ أن كان مسيرا في هياكل كتلة العمل الوطني إلى أن تولى مسؤولية المفتش العام غداة الاستقلال وأشرف على تأسيس وتنظيم فروع الحزب على امتداد التراب الوطني، كما تولى مهمة تنظيم القطاع النسائي داخل الحزب لعدة سنوات. وقد ظل قياديا بارزا بالقيادة في اللجنة التنفيذية ومجلس الرئاسة حريصا على تتبع ومواكبة الأنشطة الحزبية بمنظور القيادي المتبصر المتفتح على مختلف الأجيال المتواجدة في هياكل الحزب ومنظماته وهيئاته الموازية، وكان قلما يغيب عن الاجتماعات التنظيمية لمؤسسات الحزب، وكانت تدخلاته تستقطب اهتمام المناضلين نظرا لحمولتها الفكرية المعهودة خاصة عندما يستشعر أن الظروف تستدعي التذكير بضرورة الالتزام بأخلاقيات العمل النضالي المرتكز في حزب الاستقلال على التشبث بالقيم واحترام المؤسسات المشروعة، والدفاع عن وحدة الحزب، وصيانة المبادئ النبيلة التي ضمنت استمراره وأهلته لمواصلة رسالته على مسار إرساء دعائم الديمقراطية الحقة وتحقيق التنمية المستدامة المتعددة الأبعاد في إطار دولة الحق والقانون لتعزيز مكانة بلادنا بين الدول وصيانة كرامة مواطنينا بين الأمم والشعوب. أيتها السيدات، أيها السادة، أيتها السيدات ، أيها السادة، اسمحوا لي بأن أكتفي بهذه المقتطفات من جوانب شخصية مؤبننا شاهد العصر ومربي الأجيال المجاهد أبو بكر القادري الذي ستظل ذكراه حاضرة في الفكر والوجدان تلهم الأجيال معاني روح المواطنة والتضحية والثبات على المبدأ. وفي الختام أود أن أعرب عن خالص الشكر للجنة المشرفة على إعداد هذا المهرجان التأبيني الحاشد وكل الذين أسهموا في توفير ظروف إنجاحه مجددا صادق مشاعر المواساة والتعازي لأرملة الفقيد وأبنائه وبناته وأحفاده وأصهاره ورفاق دربه وإلى كافة أعضاء حزب الاستقلال وكل عارفي فضل الفقيد الجليل راجين له من العلي القدير الرحمة والغفران وأن يسكنه فسيح جنانه مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وإنا لله وإنا إليه راجعون.