أثير، مؤخرا، نقاش حول أحقية نواب الأمة في التعويضات عن فترة "العطالة" التي دامت لأزيد من ثلاثة أشهر. بين من اعتبرها سُحْتا، وأكْلًا للمال بالباطل، وسخرية بأقدار المغاربة، وتلكؤا بالتزام الحكومة ب"قاعدة": "الأجر مقابل العمل" التي أصَّل لها السيد رئيس الحكومة من القرآن الكريم(!)، والتي بسببها اقتُطِعَت ملايين الدراهم من أجور العمال والموظفين الذين مارسوا حقهم الدستوري في الإضراب... حيث تساءل هذا الفريق عن حقيقة هذه التعويضات التي تقاضاها نواب الأمة (ما يناهز 14 مليون سنتيم): هل هي فعلا مقابل عمل قاموا به، ومن تم وجب حرمانهم منها بنص "القاعدة" الحكومية إياها؟ أم هي مقابل صفة يحملونها، أو "أصل تجاري" يتمتعون به، ومن تم يبقى حضورهم البرلمان، واشتغالهم فيه بكثرة "الناب"، و"البوليميك"،... مجرد "خضرة على طعام"؟ !! وبين من اعتبر هذه التعويضات حلالا زلالا، لا شبهة فيها ولا جدال، ما دامت "عطالة" السادة النواب غير متعمدة ولا مقصودة منهم، بل هي طارئة على انخراطهم في العمل، وناتجة عن "بلوكاج حكومي" لا يَدَ لهم فيه، ولم يسعوا إليه، ولم يقصدوا إلى خلقه، بل وجدوا أنفسهم ضحية له، وكان توقفهم في حُكْمِ "غير المقدور" الذي لا يحاسب عليه الشرع، ولا القانون. كما أن أغلب هؤلاء النواب من الموظفين في القطاع العمومي الذين توقفت أجرتهم الشهرية منذ السابع من أكتوبر، وظلوا طيلة هذه الفترة يعيشون على الديون. فليس يُعْقل أن يُمنعوا من هذه التعويضات، أو يطالبوا بالتنازل عنها، وهم رهينوا ديون. اللهم إلا أن يتنازلوا على ما تعدى أجرتهم الشهرية؛ فيكتفوا بما كانوا يتقاضونه قبل الدخول إلى البرلمان. ولئن كان في وِجْهَتَي النظر، الآنفتين، شيءٌ من الصواب؛ إلا أن الذي يثيرنا حقيقة في هذا الموضوع هو الحساسية المفرطة التي أصبحت تعالج بها القضايا الخاصة المتعلقة بنواب الأمة. إذ أصبح النائب البرلماني، الذي نقلته صناديق الاقتراع إلى القبة، مُتَّهما على طول، رغم أن المشكل، في مثل هذه الحالة، ليس في النائب البرلماني، ولكن في القوانين المنظمة لحقوق هذا النائب، بما فيها قانون التقاعد، وقانون التعويضات، والامتيازات،.. فحينما نتوقف عند جلد النائب البرلماني، واتهامه، والحط من كرامته، فقط لأنه يستفيد، بقوة القانون، من امتيازات، وإكراميات، وتقاعد، وتعويضات،... سنكون قد ظلمناه وأسأنا إليه، كما نكون قد ظلمنا كل موظفي الدولة، المنتمين لمختلف القطاعات، الذين يستفيدون من التعويضات بالملايين، بقوة القانون، ولا أحد يثير ملفاتهم، أو يحاسبهم، أو يسألهم: "من أين لكم هذا؟". نعم، على المغاربة أن يغاروا على المال العام الذي تدبر به حياتهم المعيشية في هذا البلد، وأن يسألوا عن مصير أموالهم التي يدفعونها عبر الضرائب، وأن يحرصوا على مساءلة من أؤتمن على الصناديق التي تستنزفها التعويضات، ويطالبوا المشرع بتغيير القوانين التي تسمح بكل هذا الهدر المالي الذي يستفيد منه الموظفون كما البرلمانيون كما الوزراء،.. نعم على المغاربة ان يطالبوا بتفعيل مطلبَيْ تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية في الاستفادة من خيرات الوطن، ومدخراته، وعدم جعل المال والامتيازات، دَوْلَة بين الأغنياء والكبار من الناس فقط .. فهذه كلها مطالب لا مراء في صحتها، ولا جدال في مشروعيتها. ولكن، في المقابل، على الذين يستنفرون غضب المغاربة ضد من يمثلونهم بقبة البرلمان، أن يُفْهِموهم أن هذه التعويضات التي يتقاضاها هؤلاء النواب والوزراء هي حقوق أقرها القانون، وليست اختلاسا للمال العام. لذلك وجب عليهم، بدَل نشر التهم كما اتفق، أن يطالبوا بتعديل هذه القوانين، و يدفعوا بهؤلاء النواب إلى تقديم مقترحات قوانين منصفة تجعل للاستفادة من أموال دافعي الضرائب منطقا معقولا، يربط الأجرة بالعمل الفعلي، وحق التقاعد بشروطه التي تطبق في كل القطاعات دون تمييز، ولا استثناء. فبدل مزايدة بعض نواب الأمة على الشعب المغربي في مسائل حسم فيها القانون (القانون الذي صادق عليه خلفهم أيام الغفلة !!)، واستغلال حملات المغاربة ضد هذا الريع أو ذاك، للظهور بوجه النائب البرلماني الطاهر الذي لا يقبل بالريع، ويرفض الامتيازات الزائدة، ثم يستمر، بعد خفوت الحملة، في لَهْفِها، والحرص عليها،... فبدل هذه المزايدة الشاذة؛ على هؤلاء البرلمانيين أن يتقدموا بمقترحات قوانين، أو تعديلات لهذه القوانين، بما يستجيب لجزء من المطالب الشعبية، في الحد من هذا الهدر المالي الفظيع الذي تعرفه الصناديق الممولة لهذه التعويضات. فلئن كان لنا شيء من اللوم، أو النقد نوجهه إلى نواب الأمة، فهو في تلكئهم عن الاستجابة لمطالب ملايين المغاربة الذين رفعوهم إلى مقعد البرلمان، حول ضرورة المبادرة بإدخال تعديلات جوهرية على القوانين المنظمة لامتيازاتهم، وتعويضاتهم، وتقاعدهم، مما يستنزف المال العام، ويطوق عنق مالية الدولة، ويزيد في توسيع الهوة بين طبقات المجتمع، وزيادة الخنق بينها، والحقد في صفوفها. أما المبادرات الفردية، وحتى الحزبية، التي تستغل الغضب الشعبي، وتعلن عن قرارات "رفضوية" ظرفية تتماشى، فيما يظهر للناس، مع انتظارات الشعب المغربي، ثم ما تلبث أن تعود إلى حالها السابقة، دون قرارات حازمة ونهائية، لتستفيدَ وتغتنيَ مما اعتبرته ريعا سياسيا، بعد أن تهدأ عاصفة الاحتجاجات الشعبية، ويغرق الشعب المغربي، كما دائما، في النسيان؛ فهذا، وأيْمُ الله، لمن المزايدات السياسوية المضحكة. فلقد ثار "شعب الفيسبوك" بعد واقعة "مولات جوج فرانك"(1)، و طالب بإلغاء تقاعد البرلمانيين والوزراء، باعتباره ريعا سياسيا يسيء لسمعة المغرب، وصورة حكامه، كما يعمق من الأزمة المالية التي تعاني منها مالية الدولة، ويضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص. وظل الاحتجاج يتصاعد في كل المنابر الرسمية وغير الرسمية، وانخرط فيه الكثير من البرلمانيين وبعض الوزراء، وظن الجميع أن تدخلاً مَا سيعرفه الملف وسينهي هذه المهزلة، لكن لا شيء حدث؛ بل انطفأت شعلة الاحتجاج، واستمر أصحابنا في لهف هذا الريع/ "الحق"، وظلت القوانين المنظمة تؤطره. إن غياب شجاعة حقيقية، تقفز على المصالح الخاصة الغارقة في الذاتية لدى أغلب من يمثلوننا تحت القبة، في اقتحام عقبة هذا الريع، ووضع هذا الملف، المثير للجدل، على طاولة المساءلة؛ سيُبقي الحال على حالها، وسيحول المبادرات الشعبية لإثارة الانتباه، إلى مجرد شرود طارئ ما يلبث أن ينقشع غباره لتستمر "الحياة"، ويستمر الريع...!. دمتم على وطن..!! (1) راجع مقالنا: "اَلْحَقِيقَةُ" عَلَى لِسَانٍ وَزٍيرَة "جُوجْ فْرَانْكْ" !!