عاد الحديث مجددا عن معاشات البرلمانيين بعد أن هدأ لبضعة أشهر، حينما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف المنابر الإعلامية باستنكار تصريحات وزيرة "جوج فرنك"(1)، قبل أن يتجدد الاستنكار ثانية مع النقاش العمومي الذي اسْتَعَر مع ضجة تعويضات البرلمانيين(2) عن العطالة بعد حادثة "البلوكاج" الحكومي، وتدخل أطراف برلمانية في مزايدات سياسوية غير مسبوقة، ل"إرضاء" الرأي العام الوطني المنتقض، وإلهائه بحلول ووصفات ما لبثت أن تبخرت مع الوقت، ليعود نواب الأمة إلى صمتهم المريب، ويستمر لهف عائدات الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين، قبل أن يعلن إفلاسه أكتوبر الماضي، وتوقفه عن أداء هذه المعاشات، مما استنفر جهات عديدة للدعوة لإنقاذه/ إنقاذ نفسها من هذه الكارثة. فكانت البداية مع فرق برلمانية، من المعارضة والأغلبية سواء، تحركت نحو رئاسة البرلمان، ثم رئاسة الحكومة تستعطف التدخل لإنقاذ هذه "البزولة" التي جفت أو أوشكت على الجفاف، وتدعو الحكومة لضخ اعتمادات في هذا الصندوق، بإيعاز من "الحيتان" و"السحليات" الضخمة التي ظلت، لعقود، تلهف من هذا الريع على بضع سنوات قضتها تحت القبة، واليوم توشك أن تفقد هذا "الامتياز"، وتتحول إلى مجرد رقم في شارع الوطن. في المقابل، تحركت فرق أخرى، فيما يشبه مزايدات سياسوية ضد خصومها، تدعو لإلغاء هذه المعاشات بالمرة، باعتبارها ريعا لا يصح، وأكلا للمال بالباطل (!!). و في نفس الآن واللحظة، يظهر على الشاشة كبير "المصلحين" لصندوق التقاعد ( تقاعد الطبقة المتوسطة)، ليواصل هجماته على الحكومة والأحزاب، بخطاب جديد؛ خطاب المعارضة سابقا، والذي بلعه، وبلع معه لسانه طيلة فترة رئاسته للحكومة، يوم كان يرافع عن الدولة المغربية، ويدعو المغاربة إلى الصبر الجميل على "إصلاحاته" التي ستنجي السفينة، قبل أن تغرق به السفينة في بحر سحيق، ويتنكر له القريب والبعيد.. وذلك يوم كان يصرح للصحافة بأن أقصى ما يرجو تحقيقه هو إصلاح صندوق التقاعد. وقد تم له ذلك، فعلا، بتواطؤ مع الدكاكين النقابية، وعلى حساب جيوب طبقة الموظفين. واليوم تكشف لنا أكثر من دراسة علمية أن المسار الذي سلكه السيد بنكيران، وأوْهَمَ الناس به، أو أُوهِمَ له به، أنه المسار الصحيح لإنقاذ الصندوق، لن ينقذه، بل سيزيد في تعميق جراحه، واستمرار نزيفه… واليوم ينبرى هذا "السياسي الكبير"، والعقل المدبر "لإصلاح" نظام التقاعد، بالأسلوب المؤلم إياه، والمتواطئ مع من ظلوا يرفعون عقيرتهم للدفاع عن طبقة الشغيلة، لينخرط، في محاولة للمشي على الرأس، في السجال البوليميكي الدائر حول طريقة إنقاذ معاشات نواب الأمة، ويقول ما لم يكن يستطيعه يوم كان يسيِّر دفة رئاسة الحكومة، ويهرول لإرضاء الأسياد، الذين لم "يعقلوا" عليه اليوم، بأنه:" لا يعقل، ولن نقبل أبدا (هكذا !!)، أن ننقذ تقاعد الموظفين من جيوبهم، وتتدخل الحكومة لإنقاذ تقاعد البرلمانيين !!..". كلام جميل، لو سمعناه من السيد بنكيران حينما كان رئيسا للحكومة، وأثناء إثارة الملف من طرف الرأي العام ؟ !!. أما الحزب الذي يقود الحكومة، ممثلا في فريقه البرلماني، والذي سبق له أن بارك "إصلاحات" "الزعيم"، وصفق لها، فيظهر أنه قد أحس بخطورة موقف المنزلة بين المنزلتين التي اختارها البعض، لذلك أعلن رفضه لأنصاف الحلول المقترحة، كسبا لود الشارع الناخب الغاضب، الذي يراهن عليه بقوة في تشريعيات 2021، "تحنيثا" لمن يشككون في تبوئه المرتبة الأولى؛ إذ رفض كل المقترحات الداعية إلى إنقاذ الصندوق، وأصر على إلغائه في محاولة للهروب إلى الأمام، وعدم ترك مجال لمناورة تعيد الملف إلى المربع الأول، وتحول السادة نواب الحزب المحترمين إلى "دراري" في زفة العميان !!، رغم محاولات رئيس الفريق المحتشمة لدعوته إلى أخذ العصا من الوسط حفاظا على صف الأغلبية من التفكك، والقبول بالإصلاح المقترح (الزيادة في المساهمات ب 300 درهم مع تأجيل الاستفادة منه إلى حين بلوغ سن 65 سنة) وهو ما تقول به بقية الأحزاب المتحالفة، وإن كانت أخرى تصر على تدخل الحكومة في الإنقاذ وتَحَمُّل المساهمة. والسيد رئيس الحكومة، بعد أن كان متشبتا بموقف الحزب، أصبح لا يمنع من مناقشة الملف للخروج برأي وسط يرضي الجميع(!!!)، قبل أن ينتهي هذا الجدال البوليميكي/"المزايداتي" إلى الباب المسدود !. وبين الشد والجذب، ومزايدات الفرق والأحزاب، والدهاقن، فيما يشبه تبادلا سَمجاً للأدوار، أضحى السيد النائب البرلماني الذي يحترم نفسه في موقف حرج لا يحسد عليه. فلا هو راغب في فقدان هذا الريع بشكله الحالي والقديم، بعد أن استأنس به، وأسس عليه مشاريعه الصغيرة، خصوصا من نقلتهم الصناديق من حضيض البطالة إلى سدة القبة، وإن أظهر عكس ذلك (فالمغاربة يقولون: "حَتَّى مُشْ مَكَيَهْرَبْ مَنْ دَارْ الْعَرْسْ" !)، ولا هو قادر أن يستمر في تلطيخ كرزمته التطوعية الخيرية الاجتماعية التي يتقدم بها بين يدي الناخبين كل ولاية تشريعية جديدة، إذا استمر في هذا الحلب المشبوه، وواصل معاكسة الشعب الذي قال له ذات يوم: كفى، كفى، كفى.. !. فكفى مزايدات.. وكفى حسابات.. وكفى نشر خُوَيْصَات على الملإ.. فالهوة تتسع، والسخط يزيد، والعزوف يمتد،… !! دمتم على وطن.. !! ———- (1) راجع مقالنا: ("اَلْحَقِيقَةُ" عَلَى لِسَانِ وَزٍيرَةِ "جُوجْ فْرَانْكْ" !!) المنشور بهذا الموقع. (2) راجع مقالنا: (تَعْوِيضَاتُ الْبَرْلَمَانِيِّينَ وَتَقَاعُدُهُمْ: رِيعٌ بِغِطَاءٍ قَانُونِيٍّ!) المنشور بهذا الموقع.