بعيدا عن النقاشات المتكررة داخل قاعات الندوات والفنادق المصنفة حول واقع المرأة المغربية، والأدوار التي تقوم بها، وما تعانيه من مشاكل جمة، خاصة في علاقتها بالرجل، تكشف طبيعة جماعة تباروشت، التي تفصلها عن مدينة أزيلال حوالي 60 كيلومترا، عن وجه آخر للمرأة التي تمكنت أن تنتزع لنفسها مطلب المناصفة مع الرجل بمنأى عن شعارات الجمعيات التي لم يتجاوز صداها الحواضر الكبرى. ومحاولة بسيطة للاضطلاع على أوضاع نساء القمم المنسية كفيلة بتأكيد ذلك. شبح المخاض "بزاف ديال العيالات ماتو غير بالوجع ديال لولادة"، جملة رددها رجال الدوار قبل نسائه. فغياب طبيب مختص في التوليد، واقتصار المستوصف على بعض المعدات البسيطة، وممرضتان فقط بالمداومة، عوامل تحتم على النساء اللواتي يفاجئهن ألم المخاض التنقل إلى مدينة بني ملال أو أزيلال، مع إلزامية أداء مبلغ 150 درهما لسيارة الإسعاف التابعة للجماعة، أو البحث عن وسيلة نقل أخرى، والتي لن تكون في أفضل اختيار سوى سيارة للنقل المزدوج، بحكم أن البغل لن يكون وسيلة ناجعة في مثل هذه الحالات لقطع كل هاته المسافة، وهو المعطى الذي أزهق أرواح العديد من النساء، اختلط عليهن ألم المخاض بمعاناة التنقل نحو مدن تبعد بعشرات الكيلومترات، أكثر من نصفها طرق وعرة. لقمة عيش مُر شبح الموت جوعا أو بردا جعل مقولة "امرأة بألف رجل" تنطبق تماما على نساء القمم المنسية. بلخيري زهرة، ستينية من دوار أومغار، حمّلتها وفاة زوجها مسؤولية تربية أبنائها السبعة وهي لا تمتلك ما تعيش به؛ "فاليوم كان السوق الأسبوعي بالدوار، ولم أجد ما أشتري به شيئا لنقتات به". ورغم ملامحها الأمازيغية الحادة، إلا أن شيئنا من الحزن تسرب إلى عينيها بعد حديثها عن مرض ابنها البكر، الذي اضطر للقيام بعملية جراحية بمدينة فاس دون أن تستطيع رؤيته أو الاطمئنان على حالته الصحية. وقبل أن تكمل طريقها نحو إحدى القمم لجلب حطب التدفئة وبعض العشب لرأسين من المعز هما كل رأس مالها، التقطت ابنتها خيط الكلام لتجدد التأكيد على "أننا عايشيين مكرفسين، معندنا لا ضو لا بوطة وكولشي غالي.. ولا واحد قدم لينا المساعدة". تعويض أب "هارب" وإذا كان زوج زهرة قد غيبه الموت عن أبنائه، فإن زوج "معنا إيطو" غيبه "الجبن" عن أولاده السبعة بعد أن اختار مغادرة الدوار قبل حوالي 15 عاما نحو وجهة مجهولة، لتنقطع أخباره نهائيا حتى كتابة هاته الأسطر؛ "فلم يكن لدينا ما نطعم به أبناءنا ولا الإمكانات لتعليمهم قبل أن أتفاجأ بهروبه، ولا علم لي بأخباره إلى اليوم". تحمُّل تبعات اختيار زوجها الذي ترك كل شيء وراءه ورحل، جعل من إيطو الأب والأم؛ "فقد اضطررت للقيام بجمع الحطب والتسوق والتسول كذلك لرعاية أبنائي حتى يكبروا". سنوات كدها ومعاناتها لأجل أبنائها أنستها عدد سنوات عمرها، التي قدّرتها ب 45 أو 46 سنة، وما من طلب لها إلا بعض المساعدة من الجهات المسؤولة تخفف عنها عبئ الحياة الذي تحملته وحدها وهي في سن صغيرة ولا يزال بالثقل والوزن نفسه، وقد رسم الزمن خطوطه الأبدية على ملامحها. معاناة واحدة التجاوب التلقائي الذي أبدته كل من زهرة وايطو خلال حديثهما لجريدة هسبريس الإلكترونية عن حال ينطبق على العديد من نساء القمم المنسية، لم يسر على جميع نساء الجماعة القروية، إلا أن المعاناة واحدة؛ حيث عاينت الجريدة نساء يقمن برعي الغنم وأخريات بجمع الحطب، فيما الباقيات أوكلت لهن مهمة قطع أزيد من ثمانية كيلومترات لأجل جلب الماء الصالح للشرب. أما سيدة أخرى فاضطرت للقيام بمهامها المنزلية على جانب مجرى مائي لغسل بعض الخضر بماء تقترب درجة حرارته من الصفر، وهي تحمل ابنا صغيرا لها يتقاسم معها نظرات المعاناة والأسى والألم نفسها، على أمل أن يكبر على واقع أفضل يرأف بحاله وحال العديد من الأطفال أمثاله الذين يواجهون شبح الموت جوعا وبردا بين قمم النسيان.