عندما يقرأ المواطن هذه السطور تكون الثلوج التي تساقطت خلال اليومين السابقين، قد غطت الطرقات التي تربط مغاربة كان قدرهم أن يولدوا في الجبل، هنا آيت محمد بوابة مغرب آخر تسقط معه كل الشعارات، وتتبدى الحقيقة كاشفة عن عريها، على بعد 20 كيلومترا من مدينة أزيلال تبدأ حكاية مغرب منسي لمواطنين اختار أجدادهم مقاومة المستعمر، وكانوا آخر من رمى السلاح، وأول من سارع للمقاومة من أجل الاستقلال، ليقاوم الأبناء والأحفاد الموت الأبيض الذي يهددهم كل سنة، ويقتل مواشيهم ونساءهم، "المساء" انتقلت لدواوير محاصرة لتنقل جانبا من صورة معاناة استثنائية لمواطنين، بعيدا عن أعين الكاميرات. آيت محمد / أزيلال المصطفى أبوالخير كان الجو صحوا عندما تبدت جبال بيضاء مكسوة بالثلوج، منظر جميل يغري كل سائح، إنه يوم مناسب لالتقاط الصور، ترى كيف يتحدث الناس عن المعاناة وسط هذه المناظر الجميلة، كانت أسئلة بليدة تراود من يشاهد صورا جميلة يختفي خلفها الموت والمأساة. استقبلنا حميد الناشط الحقوقي والجمعوي الذي تلخص قصته منطقا آخر، في مغرب لا يعترف بما توافق عليه المغاربة من دستور يوليوز من سنة 2011، حميد الكيلاني الذي كان معتصما بمقر الجماعة القروية لآيت محمد، موظف بالجماعة ذاتها، ارتبط اسمه بوسائل إعلام حلت سابقا بمنطقة آيت محمد وأنجزت استطلاعات عن معاناة السكان، أمر لم يرق عامل الإقليم الذي نزل خبر رحيله في يوم حلولنا بالجماعة على المهتمين من أبناء الإقليم بكثير من الارتياح، مارس عامل الإقليم ضغوطه على رئيس الجماعة الذي اعتبر حميد الكيلاني موظفا يجلب الشر المبين للإقليم، والذي ينشر غسيل الدار لدى مسؤولي الرباط، مورست كل الضغوط على حميد وحرم من إجازته السنوية أربع سنوات وصدرت في حقه قرارات بالاقتطاع لأسباب واهية، ولم يستفد كبقية الموظفين من أية حوافز أو مكافآت، منذ أن سخط عليه سيادة العامل المبجل وكلف بذلك رئيس المجلس القروي، «يمكنك أن تصرخ في الليل والنهار، وتعتصم هنا أشهرا دون أن يلتفت إليك أحد، بل يمكنهم الاعتداء عليك جسديا «يقول حميد، كيف يمكن أن تطالب بحقوق الإنسان، والناس يلزمهم الحق في الحياة دون أن يلتفت إليهم أحد، قصة حميد تلخص رغبة المسؤولين عن الشأن الإقليمي هنا أن تبقى أزيلال صورة جميلة للسياحة، بعيدا عن موت يهدد السكان كل سنة.
بوابة قرى المغرب المنسي انطلقنا رفقة حميد الكيلاني الذي خبر معاناة سكان قرى آيت محمد، من هنا الطريق إلى دواوير جماعة آيت عباس إحدى أفقر الجماعات وأكثرها عزلة بالمغرب، حيث تصل الصرخات فقط، ينتظر المواطنون أن تذوب الثلوج قبل أن يحصوا أفراد القبائل ومن رحل خلال الثلج، لا يتطلب الأمر تشريحا طبيا لمعرفة أسباب الوفاة، ولا تحقيقا أمنيا لكشف ملابسات الحادث، الموت هنا قضاء وقدر. من هنا أيضا الطريق إلى آيت بوكماز المنطقة التي يعرفها المغاربة بكونها أجمل المناطق السياحية، التي يحج إليها سياح من المثقفين الأجانب بعيدا عن الضوضاء، مناظر جميلة وغطاء أخضر، في أشد أوقات الحرارة بالمدن المغربية تكون آيت بوكماز في حرارة لا تتعدى درجتها 18 درجة، لكن قليل من يعرف أن آيت بوكماز تغرق في الثلوج وراء جبل «مكون»، الذي يبدو كلوحة رسمها فنان بديع، استعمل فيها اللون الأبيض فقط. من هنا أيضا الطريق لجماعة زاوية أحنصال، هناك حيث المآسي الكثيرة، وحيث قبائل آيت عبدي التي قدمت أبناءها قرابين للثلوج، واضطرت الدولة أمام هول ما عاشته تلك القرى، وأمام ما نشره الإعلام أن ترمي مساعدات من الجو للمنكوبين، لم تصل سوى لفجاج وأودية عميقة. كان حميد ينطق بحكايات قد تبدو غريبة لكل من سمعها، لكن الحقيقة المرة « هذه الأمتار من الإسفلت الذي بدأ يجثث من الأرض، وضع قبل أسبوعين عندما علم العامل أن طاقما لقناة تلفزية سيحل بالمنطقة، لتصوير مأساة سيدة توفيت من آيت محمد بسبب الإهمال، بعدما قطعت مثل مئات السيدات مشوارا مشابها، بالانتقال إلى المستشفى الإقليمي بأزيلال، محطة العبور، قبل وصولها لبني ملال ووفاتها هناك رفقة وليدها». حكايات من مغرب آخر جماعة آيت محمد التي يبلغ عدد سكانها حسب إحصاء سنة 2004 حوالي 12 ألف نسمة، يوجد من بينهم أكثر من سبعة آلاف نسمة بدواوير معزولة بالجبل وسط الثلوج. تودة نيمديان سيدة تبدو ملامح وجهها سيدة طاعنة في السن، قبل أن نصدم بأنها في بداية الأربعينات من عمرها، كانت تودة تستقبلنا وتخاطبنا من فوق سطح المنزل، بعدما غاصت سيقاننا في الثلوج قبل الوصول إلى المنزل المحاصر، أخرجت تودة فراشا عبارة عن أسمال ليستفيد من أشعة الشمس، فيما كانت ابنتها تحمل فوق ظهرها طفلا صغيرا حافي القدمين، وبملابس خفيفة جدا « إنها الحاجة والفقر هنا، الممزوجة بالتحدي ومواجهة الطبيعة والثلج القاتل «، قالت تودة « تحاصرنا الثلوج وأحيانا يغطى باب المنزل بالكامل، وكم مرة تدخل مواطنون يعلمون بحالنا ليفتحوا عنا الباب، ونعاني من أجل جلب الحطب القليل، مواشينا يقتلها البرد والثلج والجوع «، كان المنزل الذي يقع في ارتفاع يصل إلى أكثر من 2000 متر عن سطح البحر، حسب حميد، منزلا يتوفر على شروط دنيا للإقامة، أما ما تمنعنا الثلوج عن الوصول إليه فمنازل أشبه بالكهوف، لا تتوفر فيها أدنى شروط الإنسانية، هم قاطنيها الاستمرار في الحياة وتخطي شبح الموت تحت الثلوج، بجانب تودة كانت ابنتها فاطمة فاضل طفلة تدرس بالسنة السادسة من التعليم الابتدائي، وهي آخر سنوات دراستها لأن مصيرها معروف كباقي أطفال هذه الدواوير، « يستحيل أن نمضي إلى آيت محمد، أين سنستقر وكيف سندرس بعيدا عن منازل أهلنا بعشرات الكيلمترات دون وجود مأوى»، يقول المهدي، أحد التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة بمجرد وصولهم إلى مستوى السادس ابتدائي بدواوير تينلفت وتسويت وغيرها من الدواوير المنسية هنا. دوار تينلفت الذي يضم أكثر من 80 أسرة يبعد عن الطريق المعبدة بأكثر من ثلاث ساعات، دوار سويت آيت حماد الذي يضم 75 عائلة يبعد كذلك عن الطريق المعبدة بأكثر من ثلاث ساعات، حاله مثل حال دوار أفوزار ويبعد عن الطريق المعبدة بحوالي أربع ساعات ويضم أكثر من 110 عائلة، هنا أيضا دوار أوتهرا الذي يضم أكثر من 80 عائلة تقبع وسط قساوة الجو والثلوج، تصل درجة الحرارة ليلا إلى أقل من 15 درجة تحت الصفر، دواوير لم يسمع بها المسؤولون كما هو الحال بدوار تبرغنت، ودوار تمديغوت، دواوير تقع ما بين 1900 متر عن سطح البحر وأكثر من 2200 متر، ودواوير أخرى يحرسها جبل أزوركي المغطى بالثلوج، تشترك هذه الدواوير في معاناة واحدة ويحرم أبناؤها من مواصلة دراستهم في الأوقات العادية، أو يحرمون منها كليا بسبب الثلوج أو بأسباب أخرى، كما هو الحال هذه السنة حيث يضرب الأساتذة المجازون الذين غادروا الدواوير في انتظار أن تحل وزارات الرباط مشاكلهم. محمد أوبها، رجل في بداية الأربعينات، كان يحمل على ظهر دابته مواد غذائية بسيطة قوامها زيت زيتون وسكر وشاي وكيس دقيق، وأكياس من أعلاف المواشي» خرجت منذ الساعات الأولى من صباح اليوم لألتقي هنا سيارة النقل السري المحملة بما يسد حاجتنا لأسبوع، حاصرتنا الثلوج في الأيام الماضية، الحمد لله كنا نتوفر على مؤونة أسبوع، وبعد انفراج الجو قليلا خرجت لجلب ما نواجه به ما سيأتي من أيام»، كان محمد يتحدث لغة بسيطة لكنها تلخص كل المعاناة،» نواجه الموت يوميا في موسم الثلوج، إن حاصرتنا الثلوج أكثر من أسبوع لن نتمكن من إيجاد ما نسد به رمقنا»، يمط محمد شفتيه ويتحدث إلى رفاقه بالأمازيغية مستغربا من سؤال حول مساعدات الدولة لهم، وعن معرفته بصندوق المقاصة ودعم الفقراء، كنت كمن يسأل عن شيء غرائبي لم تعرفه البشرية بعد.
عندما تنوب الجمعيات عن الدولة يعول سكان الجبل على قوافل المساعدات التي تنظمها الجمعيات الإحسانية اليوم رغم قرار سابق صدر السنة الماضية من وزارة الداخلية، ظاهره تنظيم تلك القوافل وباطنه صراع سياسي يؤدي فيه المواطن المحاصر بالثلوج الثمن جوعا وبردا قارسا وحرمانا، تدخل قوافل المساعدات البسمة على السكان كما حدث نهاية الأسبوع الماضي عندما نظمت جمعية «التفاتة للأعمال الاجتماعية» ببني ملال بشراكة مع جمعية «ارسم بسمة» الرباطسلا قافلة تضامنية إلى دوار تبرغنت الذي يبعد بحوالي 15 كلم عن جماعة ايت امحمد، حيث شارك أكثر من 20 متطوعا، تنقلوا في أربع سيارات، قبل أن ينقلوا فوق ظهور الدواب وسط الثلوج التي تسد الطريق الجبلية المؤدية إلى الدوار، وزعوا خلالها أغطية وملابس ومواد غذائية على المواطنين، حيث استفادت أكثر من حوالي 40 عائلة من مساعدات رمزية، لكنها مهمة في نظر مواطنين محرومين من عناية الدولة، ومحاصرين تحت تهديد الموت الأبيض. حصار الثلوج وحكاية الهاتف المحمول ينبغي أن تكون عالما بالممرات والمسالك وسط الثلوج، لا وجود هنا لعلامات تدلك على الطريق، ومجرد التفكير في المغامرة قد يكلفك حياتك هنا، وأحيانا لن ينفعك علمك بالمسالك والطرقات عندما تهاجمك عاصفة ثلجية كما وقع قبل ثلاثة أيام لطاقم قناة الثانية المرفقين بالمندوب الجهوي للغابات، حيث وقف القدر بجانبهم بعدما تمكن هذا الأخير من إجراء مكالمة هاتفية عجلت بإنقاذ طاقم القناة الثانية والمسؤول الغابوي، الذين كانوا بصدد إنجاز استطلاع مصور لينقلوا خبر المحاصرين، فكادوا أن يكونوا مادة خبرية هم الآخرين. عندما كشف وزير الداخلية محمد حصاد، لأول مرة في البرلمان، في دجنبر الماضي، أن حوالي 500 قرية تعيش حالة من العزلة شتاء، مؤكدا أن الهاتف المحمول هو وسيلة التواصل الوحيدة الممكنة مع السكان، كان الوزير يتحدث لغة التقارير المعدة في مكاتب مكيفة، لم يسبق لمن كتبها أن حاصرته الثلوج، ولم يعرف معنى أن تبقى أياما بدون أكل تحت عرضة الموت الأبيض، حاولنا وسط دواوير معزولة الاتصال بالعالم الخارجي، فكنا كمن يصطاد في الهواء بحثا عن الأسماك؟