يمضي في صمت، يتسلل مخترقا جدران بُييتات صغيرة بُنيت من تراب وحجر، لا التضاريس القاسية تمنعه، ولا نُباح الكلاب يفزعه، ولا حتى استغاثات الرُضع تجعل قلبه يحن. إنه وحش لا يفرق بين ماشية أو راعي، ولا يختار بين عجوز أو شاب ولا حتى طفل أو امرأة حامل… يحط ضيفا ثقيل الظل على دواوير منطقة "تيمزكاديوين" نواحي مدينة مراكش وسط المغرب، يحاصر سكانها لشهور، قاطعا عليهم الطريق، يعزلهم عن العالم، ولا يرحل إلا وآخذا معه أرواح العديدين من بشر وماشية، وتاركا في أفئدة البقية ذكريات قاسية جعلت أهل المنطقة يرتجفون لمجرد ذكره، أما في حضرته فالكل يردد "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه"… وعلى الرغم من كونه وحش لا أنياب له ولا مخالب، بكل بساطة، إنه البرد القارس، أو كما اللغة الأمازيغية المتداولة لدى سكان تيمزكاديوين ب"أصميد"... أول المعاناة مسلك.. الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا، علامة تظهر نهاية الطريق السيار، وأخرى كتب عليها عبارة "مرحبا بكم في مدينة إيمينتانوت"، ومحرار السيارة يشير إلى أن الحرارة تتأرجح بين الدرجتين والثلاث درجات مئوية على الرغم من كون الشمس ساطعة والسماء صافية ولا آثار لغيوم أو عواصف ثلجية قريبة.. ونحن في الطريق بدأت الجبال البعيدة تترائى لنا أكبر فأكبر، وأقرب فأقرب حتى دلفنا إلى طريق ترابية شبه معبدة تمتد نحو الجبال ذات اللون البني المزركشة جنباتها بأشجار الأركان الخضراء، وأشجار اللوز ذات الورود البيضاء المائلة نحو البنفسجية، هناك حيث تتناثر دواوير يخال الناظر إليها أنها آثار تعود إلى العصر الحجري.. أكواخ صغيرة بُنيت من الطوب، وغطيت بالقزدير والقش، لكنها رُتبت بشكل يوحي أنها طفيليات تنمو على منحدرات الجبال أو سفوحها، لا يربطها بالعالم الخارجي سوى أسلاك كهربائية حديثة الربط، و"بارابولات" قديمة لا يملكها إلا علية القوم هناك، أما الهواتف النقالة فلا حاجة لهم بها لأن شبكة الهاتف لا تعرف طريقها إلى هذا المكان.. وعورة التضاريس، وضيق المسالك الطرقية التي بالكاد تسع سيارة وحيدة، وتزداد خطورتها مع هطول الثلوج والأمطار، أما الطريق المعبدة فتتطلب قطع عدة كيلومترات قبل الوصول إليها، وهو الشيء الذي تسبب غير ما مرة في وفاة نساء حوامل أثناء نقلهن على الأكتاف نحو المستشفى الذي يبعد عن أقرب دوار بحوالي 25 كيلومترا، أما الأمطار، فهطولها يدل على أن الطريق ستظل مغلقة إلى عشرات الأيام مما يعزل عددا من الدواوير عن العالم الخارجي.. "حينما تهطل الأمطار والثلوج، نبقى محاصرين هنا لعشرات الأيام"، تقول إحدى عواجيز دوار "إيميالولي" الطاعنات في السن والمسماة "إيطو"."بمجرد قدوم أصميد، نهرع إلى منازلنا ولا نخرج لأن الجو يكون باردا كثيرا، وفي غالب الأحيان تموت مواشينا بسببه"، تردف الحاجة التي رسم الزمان على وجهها تقاسيم المعاناة والآلام على مر سنوات ما عادت تسعفها ذاكرتها لعدها أو حتى لتذكر سنها.. إيطو قالت ل"اليوم24″ إن معظم النساء تضطرهن الظروف للإنجاب في الدوار، في حين أن عددا منهن يقضين نحبهن في الطريق نحو المستشفى، موضحة أن آخر هذه الحالات كانت قبل ثلاث سنوات حينما كان رجال الدوار يهمون بنقل امرأة تلقب ب"أوحمو" إلى المستشفى حاملينها فوق أكتافهم على نعش قبل أن تسلم الروح لباريها بعد تعرضها لنزيف دموي حاد.. أنوثة مُسترجلة، وطفولة ضائعة.. ما إن تقترب من دوار "إيميالولي" حتى تتراءى لك جماعة من الأطفال تلاحق سيارتك وما إن تترجل منها يفرون نحو أمهاتهم اللائي لا يكشفن عن وجوههن أمام غريب سوى العواجيز منهن، إذ يحرصن على الانزواء في واحدة من زوايا الدوار أو على سطح أحد الأكواخ، يخجلن إن اقترب من مجمعهن غريب، ويهربن إن حملت عدستك لتلتقط لهن صورا .. أثناء جولة "اليوم24″ بدوار "إيميالولي"، رافقنا طفل في الثانية عشر من عمره، بدا نشيطا يجري تارة ويعبث رفقة أحد الزملاء بكُرته تارة أخرى، قبل أن ينتهي إلى زاوية رُميت بها علبة فارغة للسرديل المصبر حملها بعناية فائقة، تفحصها، ثم وضعها في جيبيه.. تصرف الطفل أثار استغرابنا، ليُوضح لنا بأمازيغيته التي ترجمها لنا أحد المرافقين بأن أطفال الدوار لا يملكون لعبا يتسلون بها مما يضطرهم إلى صناعتها من بعض النفايات، مضيفا في نشوة بريئة، وهو يحرك العلبة الحديدية بين يديه الصغيرتين "غادي نصيب بهاد البواطة كاميو، غندير ليها الروايد بالغلاقة ديال قرعة د الزيت"، ما معناه أن الطفل سيُحول تلك العلبة إلى سيارة بعد استعانته بأغطية قنينات زيت من البلاستيك. قساوة العيش هنا تعمل مبدأ بالعدل والمساواة، فالجميع سواسية أمام الفقر والتهميش البادية ملامحهما على أهل الدوار وخصوصا الأطفال منهم، يرتدون ملابس بالية وقلة قليلة منهم من تملك أحذية تقيهم شر البرد، أما الأغلبية الساحقة فجواربهم ممزقة وخيرهم من يرتدي أحذية بلاستيكية بالية، على حد تعبير البيضاويين، أما الدراسة الإعدادية أو الثانوية فلا يحلم بها إلا من لهم أفراد العائلة بمراكش أو أكادير، ليبقى السادس ابتدائي أعلى مستوى يمكن أن يصله أبناء وبنات الدوار.. أما النساء فهن رجال المنزل، يشرفن على أعمال المنزل، يجمعن حطب التدفئة، يسهرن على رعاية الأطفال، كما أنهن يتكلفن برعي الغنم، أما الرجال فنادرا ما تصادف أحدهم بالدوار إلا شيخا طاعنا في السن أو شابا أقعده المرض.. زيجات مع وقف التنفيذ.. اول ما يلاحظه المار على هكذا دواوير أن عدد الرجال مقارنة مع النساء ضئيل جدا، لدرجة يخيل لك فيها أن حربا دموية قادت الذكور إلى لحودهم، لكن السبب بعيد كل البعد عن ذلك، فضُعف الموارد الطبيعية، وقلة فرص الشغل هناك دفعت بالأزواج لمغادرة الدوار نحو كبريات المدن بحثا عن عمل، عن لقمة مضمونة لأفواه جائعة يكبر عددها باضطراد، وعن فرصة لتعبر الحياة عبر المدينة إلى رتابة يوميات الدوار وعزلته وسط الجبال، بعيدا عن كل مصلحة أو مؤسسة، اما النساء فيتكلفن بكل شيء في انتظار عودة الزوج بعد أشهر حاملا معه دُريهمات تسد الرمق وتقتني الأساسيات الملحة.. من جهة أخرى، أوضح حميد مرافق "اليوم24″ في هذه الرحلة وترجمانها، ان "معظم الرجال يقصدون المدن لامتهان أشغال البناء، أو بيع الخضار" في حين أن المئات يمتهنون التسول أمام المساجد يردف حميد.. "الحياة هنا رتيبة، ما نفعله اليوم نعيده في الغد، لا شغل لنا إلا الكنس والغسل وجمع الحطب"، تقول ربيعة ذات العينين الزرقاوتين والشعر الرث ذي اللون الأشقر طبيعيا دون تدخل للمواد التجميلية، إنها واحدة من بنات دوار يبعد حوالي 60 كلومترا عن مدينة إيمينتانوت، عمرها 20 سنة قضت منها ست سنوات بمدرسة الدوار قبل أن تنتقل إلى أكادير حيث يُقيم عمها على أساس أنها ستكمل دراستها الإعدادية هناك.. فقر أسرتها وحاجتهم المُلحة للمال حالا دون إتمام ربيعة لدراستها هناك، لتُحول مسارها من تلميذة مجدة إلى خادمة في بيوت الأثرياء، لكن الأمر لم يقف هنا فجمالها الأمازيغي لم يجلب لها سوى المشاكل، تارة يُثير عليها غيرة ربات البيوت، وأخرى يجعلها عرضة لتحرشات جنسية من طرف المشغلين.. ودعنا ربيعة ورفيقاتها، لنعود أدراجنا من حيث أتينا بعد أن استحال تقدمنا إلى الأمام بسبب وعورة التضاريس، خصوصا وأن مرافقنا قال إن في التقدم مجازفة كبيرة يمكنها أن تهدد حياتنا خصوصا وأن السيارة التي نمتطيها ليست معدة لهكذا مسالك..