التجاهل والتعتيم هي السياسة التي اختارتها الدولة، للتعامل مع عائلات ما يسمى بالسلفية الجهادية المضربة عن الطعام منذ 6 يونيو. وهي سياسة لا يمكن أن يفهم منها سوى رسالة واحدة، أن من يسمون بالسلفية الجهادية، ليسوا مواطنين ولن يتمتعوا بأي حق من حقوق المواطنة، وليسوا معنيين بأي إصلاحات أو وعود، ومن ثم فعليهم القبول بالعيش كلاجئين، أو كأسرى حرب لا تشملهم معاهدة جنيف، أو ليرحلوا وليتركوا الدولة المغربية الإسلامية، الديمقراطية، دولة الحق والقانون والعدل والمساواة، تمضي في مسيرتها التنموية والإصلاحية، ولا يفسدوا عليها علاقاتها مع الدول الصديقة ويحرجوها معها. من جهة أخرى، لإن كان موقف الدولة مفهوم، بل أقول مقبول بالنظر إلى تاريخها، لأننا تعودنا منها التجاهل التام والازدراء لشعب بأكمله، بل التعدي عليه وظلمه. إلا أن غير المفهوم، هو أن تسلك نفس المسلك، جهات تتشدق بالدفاع عن حقوق الإنسان، وجهات تدعي تأطير المواطنين، وأخرى تدعي خدمتهم، من جمعيات المجتمع المدني، وأحزاب سياسية ومنظمات حقوقية. رغم أن الأمر أيضا لا يدعو للاستغراب، لأن أحدا لا يثق بهذه الجهات الوصولية الانتهازية، ولا أدل على ذلك أن تنفي جهات وجود معتقل تمارة وقد كانت من قبل تثبته، بعد أن تبدل حالها غير الحال. لكن كلامنا هذا من باب، "من التزم شيئا لزمه". لقد تعودنا من الدولة ومن يأثث مشهدها ويدور في فلكها، نكث العهود ونقض المواثيق والكيل بمكاييل عدة، وإلا فما معنى أن يصرح ملك البلاد بحصول تجاوزات في ملف السلفية الجهادية، ولا يشكل هذا التصريح أي فارق، وما معنى أن يدعو الملك لضمان شروط المحاكمة العادلة، وتجريم التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، وكل أشكال التمييز والممارسات المهينة للكرامة الإنسانية، ونحن نرى ذلك في ازدياد وتصاعد، هل هي تصريحات من الدولة لذر الرماد في العيون، أم هناك من يعتبر نفسه فوق هذه التصريحات، وما معنى أن يوعد الأسرى بإطلاق سراحهم، ليفاجأ المغاربة بعد مدة باختطافهم وإخفائهم، وتتسرب الأخبار عن تعذيب بشع بحقهم، أهونه وأقله تقديم الطعام الرديء في سطل المرحاض ملطخا بالعذرة، وتعريتهم وضربهم وإهانتهم، وحقنهم بالمواد السامة، وصولا إلى منعهم من أداء الصلاة، وسب الدين والرب وتدنيس المصحف الكريم. لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان وعندما يسأل ابن هاشم عن كل هذا، يقول أنه تأديب وليس تعذيب، عجبي، فلتسمها تنشيط أو تكريم حتى، هل يغير من بشاعتها شيئا. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ". كان هذا غيض من فيض مما سمعته من أمهات وزوجات المعتقلين الإسلاميين، في زيارتي لهن ببيت أم آدم المجاطي، في اليوم الرابع عشر على انطلاق إضرابهن المفتوح، ورغم أن معنويات المضربات مرتفعة وعالية، وأملهن في الله وحده كبير. إلا أن ذلك لم يمنع من إحساسهن بالمرارة والحزن والضيق، لهذا الظلم والقهر والضيم، المسلط عليهن. إحساس ترجمته أم زارلي بقولها: إن كانوا يعتبروننا غير مغاربة، فليقتلونا ليرتاحوا ويريحونا، ليبيدوا الآلاف ممن لا يعجبهم فكرهم وتوجههم، وليحتفظوا فقط بمن يروه صالحا لهم، لمشاريعهم ومخططاتهم وصفقاتهم. وأضافت بمرارة والعبرات تخنق كلماتها، أنها ستكون مرتاحة وسعيدة إن أعدموا ولديها وسلموها جثتيهما، لتدفنهما وترتاح من هذا العذاب المقصود والمتعمد الذي تسلطه عليها الدولة. هذا الإحساس وهذا الشعور الذي عبرت عنه أم زارلي بهذه المرارة، هو السائد عند كل عائلات الأسرى، حيث عبرت أم آدم عن دهشتها من تعاطي وسائل الإعلام، والمنظمات الحقوقية، مع إضرابهن، مقارنة مع الاهتمام والمتابعة والضجة التي صاحبت إضراب آمنة حيدر. وطالبت إحدى المضربات بتطبيق القانون الذي تتشدق الجهات المسئولة باحترامه، وتساءلت أخرى، متى سنصبح أبناء لهذا الوطن؟ واستغربت إحدى المضربات، إعلان الدولة بدأ صفحة جديدة، وتدشين ورش الإصلاح الكبير، ودعوة المواطنين للانخراط في الإصلاح والتغيير، والدعوة للتصويت بنعم على الدستور، لتخلص في الأخير حسب قولها، أن الدولة لا تقصدنا ولا تعنينا بهذه المشاريع، إذ يبدو أن لها مواطنين بمواصفات أخرى تخاطبهم، ونبهت خديجة مساعد منسقة تنسيقية الحقيقة، من أن الدولة لا تنتقم فقط من السجناء، وأن سياسة الانتقام تطال العائلات بأكملها، بنسائها وأطفالها وشيوخها، وتساءلت لمصلحة من يتم هذا الانتقام. لهذه الدرجة بلغت مأساة هاته العائلات، التي لم يكن الإضراب عن الطعام وحده من ترك أثره على صحتهن وقواهن المنهكة، بل إن سياسة الدولة الانتقامية في حقهن وحق ذويهن، تركت الأثر البليغ والجرح الغائر، الذي لن ينسى ولن يندمل، أجساد منهكة وذكريات مرعبة ومستقبل مجهول، أحالهن إلى بقايا نساء، لم يكلف أحد من (رجال) البلد نفسه عناء زيارتهن ومواساتهن، إلا من رحم الله من الأحرار الشرفاء. في الأخير أهمس في أذن كل من يهمه الأمر، اتقوا دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، واتعظوا بما حصل لجيرانكم، فوالله إنها سهام الليل، ودموع الثكالى، وآهات المظلومين، وأرزاق الجوعى، وأعراض الحرائر. تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لا تنم أقول هذا وأنا متيقن أن لا خير ولا أمل يرجى من هؤلاء المسؤولين. ورسالة أخرى لأفاضل هذا البلد وأحراره ودعاته وعلمائه وقادة الحركات الإسلامية، وأخص بالذكر منهم الشيخ الفيزازي الذي ذاق الظلم وجربه وعرف المعاناة وخبرها، والأستاذ عبد السلام يسن والدكتور الريسوني والشيخ المغراوي والأستاذ عبد الإله بن كيران وأتباعهم ومريديهم وتلامذتهم، هل وصل بكم الأمر أنكم أصبحتم لا تكترثون لمظلوم ، أصبحتم تخافون وتتحرجون حتى من مواساته، هل هذا هو الإسلام الذي تبشرون به وتدعون إليه، إسلام يتبرأ من المظلوم، إسلام يفتقد للتضامن والتآزر والتكافل الاجتماعي، لا يعرف مواساة مؤمن مستضعف، ولا التخفيف عن مظلوم مبتلى، ولا الرحمة لامرأة مهيضة الجناح ضعيفة. طيب ها أنتم تختلفون مع هذه الشريحة من الناس، أيلغي هذا إسلامهم، أيلغي إنسانيتهم، أيلغي مغربيتهم، وماذا عن المظلومين منهم، ماذا عن أهاليهم ونسائهم وأطفالهم، التي تتفنن الدولة في تشريدهم وتضييعهم وإرهابهم. أختم بهذه الآية الكريمة لعلها تذكر و توقظ من كتب الله له الانتفاع بها، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).