انقطاع الكهرباء يشل حركة القطارات في إسبانيا ويحدث فوضى في النقل    يوم انهيار الخدمات .. شل كهربائي ومائي واتصالاتي يضرب إسبانيا ودول مجاورة    انقطاع كهربائي غير مسبوق يضرب إسبانيا والبرتغال    مزور يؤكد على التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين في إطار المنتدى الصيني العربي    هشام مبشور يفوز بلقب النسخة الثامنة لكأس الغولف للصحافيين الرياضيين بأكادير    انطلاق بطولة خالد بن حمد الثالثة للبولينج بمشاركة 104 لاعب من 13 دولة    انطلاق الدورة ال3 للمؤتمر الإفريقي لوكلاء اللاعبين بالعاصمة الرباط    لماذا لا يغطي صندوق الضمان الاجتماعي بعض الأدوية المضادة لسرطان المعدة؟    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    بنسعيد يمثل المغرب في الحوار الوزاري لقمة أبوظبي للثقافة وفي الاجتماع الثاني للمشاورات الإقليمية للمؤتمر العالمي للسياسات الثقافية 2025    403 ألف زاروا المعرض الدولي للكتاب بمشاركة 775 عارضا ينتمون إلى 51 بلدا    الحرب في أوكرانيا.. بوتين يعلن هدنة لمدة ثلاثة أيام    مصر تفتتح "الكان" بفوز مهم على جنوب إفريقيا    ترايل أمزميز.. العداؤون المغاربة يتألقون في النسخة السابعة    الأداء الإيجابي يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    تكريم سعيد بودرا المدير الإقليمي السابق لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالمضيق الفنيدق    حمودي: "العدالة والتنمية" نجح في الخروج من أزمة غير مسبوقة ومؤتمره الوطني تتويج لمسار التعافي    العلمي: احترام الوحدة الترابية للدول يتطلب عقدا سياسيا وأخلاقيا ملزمًا    مزور يؤكد التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين    ندوة توعوية بوجدة تفتح النقاش حول التحرش الجنسي بالمدارس    منظمات حقوقية تنتقد حملة إعلامية "مسيئة" للأشخاص في وضعية إعاقة    هيئة حقوقية تدين حملات التشهير ضد ساكنة بن أحمد    انتشال جثة فتى من وادي ملوية بعد اختفائه    الأمن الوطني يوقف مروّج وشاية كاذبة حول جريمة قتل وهمية بابن أحمد    "البيجيدي" يحسم أسماء أعضاء الأمانة العامة والمعتصم رئيسا للمجلس الوطني    خط جوي مباشر يربط الدار البيضاء بكاتانيا الإيطالية    الذهب يهبط وسط انحسار التوتر بين أمريكا والصين    انطلاق جلسات استماع في محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية    أسعار النفط تستقر مع بداية الأسبوع    كيم جونغ يقر بإرسال قوات إلى روسيا    متصرفو قطاع التربية الوطنية يطالبون بتدخل عاجل من أخنوش    نزهة بدوان رئيسة لمنطقة شمال إفريقيا بالاتحاد الإفريقي للرياضة للجميع    عبد الله البقالي يترأس أشغال المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بالحسيمة    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    بنكيران وحزب العدالة والتنمية.. زعامة تتآكل وسط عزوف القيادات وهروب إلى المجهول    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    كيوسك الاثنين | قرار وزاري يضع حدا لتعقيدات إدارية دامت لسنوات    تيزنيت : الوقاية المدنية و الهلال الاحمر درعا السلامة و الأمان ب"سباق النصر النسوي"    رد حكيم من بوريطة.. إسكات استفزازات العالم الاخر ومسه بسيادة العراق    المرزوقي يدعو التونسيين لإسقاط نظام قيس سعيد واستعادة مسار الثورة    المشتبه به في قتل مصلّ بمسجد في جنوب فرنسا يسلم نفسه للشرطة الإيطالية    ثروة معدنية هائلة ترى النور بسيروا بورزازات: اكتشاف ضخم يعزز آفاق الاقتصاد الوطني    فريق نهضة بركان يتأهل لنهائي كأس الكونفدرالية الإفريقية    شهادات تبسط مسار الناقدة رشيدة بنمسعود بين الكتابة والنضالات الحقوقية    مي حريري تطلق " لا تغلط " بالتعاون مع وتري    "جرح صعيب".. صوت عماد التطواني يلامس وجدان عشاق الطرب الشعبي    العرائش: عزفٌ جنائزي على أوتار الخراب !    التنسيقية الصحراوية للوديان الثلاث وادنون الساقية الحمراء واد الذهب للدفاع عن الارض والعرض تستنكر… ارض الصحراويين خط أحمر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    بعد ارتفاع حالات الإصابة به .. السل القادم عبر «حليب لعبار» وباقي المشتقات غير المبسترة يقلق الأطباء    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الصّوفيّةُ" في ميزان العلماء الأثْبَات
نشر في هسبريس يوم 07 - 12 - 2016

لقد أجمع علماءُ الأمة المعتَبَرون من الفقهاء والمحَدّثِين والصوفية، رغم اختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم ومناهجهم، وكثرة خصوماتهم-أجمعوا على التصدّي للمُتفلْسِفَة والمبتدعة والزنادقة والغلاة ممّن تسموا باسم الصوفية، تحلّوا بحِلْيتهم في الظاهر والباطنُ منطَوٍ على المخالفة والجرأةِ على شرع الله.
لقد كان العلماءُ على قلب رجل واحد في التشدد والإنكار على أهل الأهواء، عامة، من "نواب إبليس وشرطه"، كما ينعتهم ابن قيم الجوزية، رحمه الله، ومنهم طوائفُ التصوف الفلسفي الإلحادي.
وعلى هذا، فإن المتصوفة نوعان: الأولُ متصوفة أقرّ علماء الإسلام طريقَهم وشهدوا لهم بالصلاح بما هم "مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرُهم من أهل طاعة الله"1، كما عبر ابن تيمية في فتاويه المشهورة.
أما النوع الثاني فمتصوفة مدسوسون ومفضوحون بمقالاتهم وسلوكاتهم وأحوالهم، يرجع أمرُهم إلى الإلحاد في الدين، والطعن على الشريعة، فهم أهلُ كفر وضلال، لم تزلْ سهامُ علماء الأمة، على اختلاف طبقاتهم وتخصصاتهم، ترميهم من كل جانب، تفضحُهم وتردّ على ضلالاتهم وشبهاتهم، وتحذّر من شيطنتهم، وتحرض على مُزايلتهم، حتى تكشَّفت غوايتُهم وظهر للناس فسادُ عقائدهم، فأصبحوا في هامش المجتمع والتاريخ الإسلامي، مُفرَدين كالبعير المُعبَّد، كما عبّر الشاعر طرفة بن العبد. والبعير المعبّد هو المعزول عن الإبل لإصابته بداء العَبَد وهو الجَرَب الذي لا ينفعه دواء.
هذا هو الرأي المشهور في مقالات العلماء ومصادر المتصوفة الموثوق بها.
أدونيس وابن تيمية والصوفية
أما أدونيس، وعلى طريقتِه اللاعلمية واللاموضوعية في التعامل مع المصادر والمراجع، فيكتفي من فتاوي الإمام ابن تيمية بما يوافق نظريَّته ويسير وفق منظوره، أي الفتوى المتعلقة بمتصوفة النوع الثاني، متصوفة الزندقة والإلحاد و"الأحوال الشيطانية"2، ولا ينتبه، بل يسكت سكوتا مطلقا عن كون مذهب ابن تيمية في هذا الباب هو التمييز بين متصوفة السلوك على طريق الشرع، الذين يقر مذهبهم ويعظم مشايخهم ويستشهد بأقوالهم، ومتصوفةِ الزندقة والإلحاد، الذين ينعَى عليهم ضلالَهم وابتداعَهم، ولا يني ينتقدهم، وينقُض مقالاتهم، ويفضح عوراتِهم، ويشنّع عليهم، ويعُدّهم في أهل الأهواء والنحل الضالة.
والإمام ابن تيمية الذي رأى فيه أدونيس، حسب منظوره الخاص، ما أراد هو أن يرى فيه، لا كما هو في الحقيقة من كتاباته وفتاويه، ووصفَ فهمَه للصوفية-طبعا من خلال الفتوى التي انتقاها، والتي يطعن فيها ابن تيمية على المتصوفة الملاحدة-بأنه نموذج "للفهم التقليدي"3، أي "الفهم الظاهري التقليدي للنص القرآني"4-
الإمامُ ابن تيمية هذا هو الذي يقول مميزا الصوفيةَ الصادقين ممّن انتسب إليهم من أهل الأهواء: "وقد انتسب إليهم[أي الصوفية الذين يُقرّ مذهبهم] طوائفُ من أهل البدع والزندقة. ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم…"5
لاحظ التقابلَ والتضاد، في عبارة الإمام ابن تيمية، بين "المحققين من الصوفية" وبين "المنتسبين إليهم" من أهل البدع والزندقة.
وفي سياق آخر ينبه الإمامُ ابن تيمية المؤمنَ إلى ضرورة التفرقة بين الزنادقة "الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل "الحلول والاتحاد"…وبين العالمين بالله والمحبين له، أولياءِ الله…فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء…والله قد جعل آياتٍ وعلامات وبراهين، "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.""6
أدونيس والقشيري والصوفية
وقبل الإمام ابن تيمية، ها هو الأستاذ عبد الكريم القشيري، الذي رجع إليه أدونيس كثيرا في بعض المسائل، التي تُعَضِّد دعاويه، في كتابه "الصوفية والسوريالية"، وليس لمعرفة حقيقةِ التصوف وحقيقة أهله الصادقين-ها هو هذا الفقيه الشافعيّ الأصوليّ الأديب، كما يصفه مترجموه، في مقدمة رسالته المشهورة، يذكر أنه لم يبق في زمانه -تُحدد بعض الروايات عمره بين 386ه و465ه-من الصوفية إلا أثرُهم، ثم ينشد متمثلا7:
أما الخيامُ فإنها كخيامهم
وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائها
ثم يصف الحالَ الذي آل إليه التصوف حيث فشا رفضُ التمييز بين الحلال والحرام، والاستخفافُ بأداء العبادات، والاستهانةُ بالصوم والصلاة، ومضى الناس "في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق[أي الاستعانة]بما يأخذونه من السُّوقَة والنساء وذوي السلطات…"8.
أدونيس وابن القيم والصوفية
وهذا الإمام ابن قيم الجوزية، الفقيه الحنبلي المشهور، نجده في أكثر من موضع من كتاباته، وخاصة في "مدارج السالكين" و"إغاثة اللهفان"، يسوق كلامَ الصوفية من أهل الصدق والاستقامة مساقَ الحجة والدليل على تهافت أمر الزنادقة المبتدعة.
فهو يذكر، مثلا، أن من كيد الشيطان "أنه يُحسِّن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العملَ بهاجسهم وواقعهم دون تحكيم أمرِ الشارع، ويقولون: القلبُ إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسُه وخواطرُه معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيدِ العدو فيهم."9
ومما ردّ به ابن القيم على هؤلاء الجهال الذين يحكمون بهواجسهم وخواطرهم على الكتاب والسنة، ويزعمون أنهم إنما يأخذون بالحقائق، وغيرهم يتبع الرسوم-مما ردّ به على هؤلاء المدّعين: "أن أهل الاستقامة منهم[يريد الصوفية الصادقين]سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليه شاهدان."10
وقوله "حتى يقوم عليه شاهدان" يشير إلى قول أبي سليمان الداراني: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم، أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة."
أصول التوحيد عند الصوفية
ولا شك أن أدونيس، الذي رجع، فيما كتبه عن مُتَصوِّفَته، إلى رسالة الأستاذ القشيري أكثر من مرة، قد قرأ أن الأستاذ القشيري قد جعل المدخلَ إلى كتابه الحديثَ عن "أصول التوحيد عند الصوفية"، من معرفة الله، وصفاته، والإيمان، والأرزاق، والكفر، والعرش، والحق سبحانه.11
ولعل كتابَ "التعرف لمذهب التصوف"، للإمام أبي بكر محمد ابن إسحق الكلاباذي، المتوفَّى سنة 380ه، من أشهر التصانيف الأولى التي تصدّت للدفاع عن التصوف والصوفية، وإظهارِ براءة طريق القوم مما دسّه المبتدعةُ والبطّالون من خرافات واعتقادات منحرفة وسلوكات باطلة، ومما شابها من جرّاء ضلالات الزنادقة والفلاسفة الملحدين من أفكار وتأويلات ومقالات لا تمتّ بسبب إلى أصول الشرع في كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.
ونظرا لأهمية مسألة الاعتقاد، وخاصة وأنها كانت على عهد زمان المؤلف مسألةً حساسة بين طوائف المسلمين وغيرهم من أهل الأهواء والزندقة، فقد خصص لها الإمام (الكلاباذي) في كتابه أبوابا كثيرة، بدأها في الباب الخامس بِ"شرح قولهم في التوحيد"، وفي الباب السادس بِ"شرح قولهم في الصفات"، إلى آخر مباحث ما اصطلح عليه بعلم الكلام، وما يتعلق به من موضوعات كانت دائما مدار خلاف واسع بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف، كاختلافهم في الأسماء والصفات، واختلافهم حول القرآن، أقديم هو أم مخلوق، واختلافهم حول الرؤية، والقدر، والوعد والوعيد، والشفاعة، والروح، والملائكة.
وهذا الكتابُ، ومعه كتب أخرى، ألّفَها أصحابُها لجلاء حقيقة الاعتقاد في أصول التصوف، مُفحِمٌ لأدونيس وأمثاله الذين لا يرون في التصوف إلا نقيضَ الإسلام والإيمان "التقليدي"، وأنه تجربة قائمةٌ على مخالفة أصول العقيدة وأحكام الشريعة.
وملخص الكلام في هذا الموضوع أن أصول عقيدة المتصوفة، وكذلك أدلتهم القطعية والظنية فيما ذهبوا إليه في مقالاتهم وسلوكاتهم، وكذلك احتجاجاتهم وتفسيراتهم لما اجتهدوا فيه من مسائل الخلاف، كلّ ذلك نجده مدونا ومبسوطا في مظانه الموثوقة المعتمدة لدى طلاب الحق والإنصاف، كالرسالة القشيرية، و"التعرف لمذهب التصوف"، و"إحياء علوم الدين"، و"اللمع في التصوف"، و"عوارف المعارف"، و"مدارج السالكين"…
وكذلك رقائقهم ومواعظهم وما كانوا يتداولونه في مجالس النصيحة والتذكير التي كانوا يعقدونها، فهي محفوظة في كتب مثل "الفتح الرباني والفيض الرحماني"، للشيخ عبد القادر الجيلاني(توفي سنة 561ه)، و"البرهان المؤيد"، للعارف بالله الشيخ أحمد الرفاعي الحسيني(توفي سنة 578ه).
هذه هي المصادر الموثوقة والمظان المطلوبة، فضلا عن كتب التراجم والوفيات والطبقات والتواريخ، للتعرف على حقيقة التصوف، وليس كتب المتفلسفة وأشباهها من مجمّعات الغث والسمين، المعتمدة لدى طلاّب المثالب والتجريح والتشنيع، أو طلاب التمويه والتلفيق والتلبيس والتنميس.
السنةُ تنتصر بالتصوف
لقد كان المشايخُ من الصوفية الصادقين من أشد المسلمين حرصا على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تتلبّسَ بهما البدعُ، أو تنالهما تحريفاتُ الغالين الجهال، وعقائدُ الزنادقة الكفار.
يقول ابنُ رجب الحنبلي في ترجمة الشيخ عبد القادر الجيلاني الصوفي المشهور: "ظهر الشيخُ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة، وحصل له القبولُ التام من الناس، واعتقدوا ديانتَه وصلاحَه، وانتفعوا به وبكلامه ووعظه، وانتصر أهلُ السنة بظهوره، واشتهرت أحوالُه وأقواله وكراماته ومكاشفاتُه، وهابه الملوكُ فمن دونهم."12
السُّنّةُ تنتصر بالتصوف! وكيف يتفق هذا إن لم تكن السنةُ هي لبّ هذا التصوف وعمادَه وقوامَه؟
هذه مقالةٌ مردودةٌ عند من ليس معه من الشواهد إلا ما شذَّ وكان استثناء، أو ما كان مدسوسا مفترىً، معدنُه الأهواءُ والزندقة والضلال، أو ما كان مُنتخَبا حسب المطلوب ولحاجة في نفس المُنتَخِبين.
يكفينا في هذا الموضوع ما نقله ابنُ قيم الجوزية من إجماع الشيوخ العارفين على ضرورة ملازمة السالك للعلم.
قال في مطلع حديثه عن منزلة "العلم": "وهذه المنزلة إن لم تصحب السالكَ من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكُه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريقُ الوصول، مسدودٌ عليه سبلُ الهدى والفلاح، مغلقةٌ عنه أبوابُها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين. ولم ينه عن العلم إلا قطّاعُ الطريق منهم، ونوابُ إبليس وشُرَطُه."13 وهو يقصد بِ"قطّاع الطريق" و"نواب إبليس وشرطه" الأدعياءَ من أهل الزندقة والأهواء، المدسوسين على الصوفية زورا وبهتانا.
ويَذكُر في مكان آخر وصيةَ القوم بالعلم، ثم يقول: "…وعامةُ من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيْره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب. فهذا فتنة، والفتنة به شديدة."14
أقوال مختارة لبعض مشايخ التصوف
وأختم تعليقاتي على المنظور الأدونيسي بأقوال مختارة لبعض المشايخ تناسب هذا المقام، راعيت فيها التمثيلَ والاختصار.
"قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيدُ بن محمد، رحمه الله: الطرق كلُّها مسدودةٌ على الخلق إلا من اقتفى آثارَ الرسول، صلى الله عليه وسلم."15 وزيد في رواية: "واتبع سنتَه ولزم طريقتَه، فإن طرقَ الخيرات كلها مفتوحة عليه."16
"وقال: من لم يحفظ القرآنَ ويكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمَنا مقيّدٌ بالكتاب والسنة.
"وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة."17
"وقال ابن عطاء: كل ما سألت عنه فاطلبْه في مفازة العلم، فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة. فإن لم تجده فزنْه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجهَ الشيطان."18
"وقال أبو الحسن النوري: من رأيته يدّعي مع الله حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربْه. ومن رأيته يدعي حالةً لا يشهد لها حفظُ ظاهرِه فاتهمْه على دينه…
"وقال أبو حفص الكبير الشان: من لم يزن أحوالَه وأفعاله بالكتاب والسنة، ولم يتهمْ خواطرَه فلا تعدوه في ديوان الرجال."19
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني في بعض مجالسه: "…الروح هو الإخلاص والتوحيدُ والثبات على كتاب الله وسنة رسوله. لا تغفلوا، اعكسوا تصيبوا، امتثلوا الأمرَ وانتهُوا عن النهي ووافقوا القدر…"20
"إنما أريدكم لكم، في حبالكم أفتل. تبتدعُ وتُحدث في دين الله، عز وجل، شيئا لم يكن. اتبع الشاهدين العدلين الكتابَ والسّنة، فإنهما يوصلانك إلى ربك، عز وجل. وأما إن كنت مبتدعا فشاهداك عقلُك وهواك."21
"إن الله، عز وجل، لا يقبل قولا بلا عمل، ولا عملا بلا إخلاص، ولا يقبل شيئا في الجملة غيرَ موافق لكتابه وسنّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم…"22
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي: "أي سادة، إياكم والدّجّاليةَ، إياكم والشيطانيّةَ، إياكم والطرقَ التي تقود إلى كلا الوصفين. أخْجِلوا الشيطان بخالص الإيمان. خرّبوا بيْع الدّجل بيد الصدق.
"الطريق واضح: صلاة، وصوم، وحج، وزكاة. والتوحيد والشهادة برسالة الرسول، عليه الصلاة والسلام، أول الأركان. واجتناب المحرّمات حال المؤمن مع الله، وهذا هو الطريق."23
"أي سادة، كونوا مع الشرع في آدابكم كلِّها، ظاهرا وباطنا. فإن من كان مع الشرع ظاهرا وباطنا كان الله حظه ونصيبه. ومن كان الله حظه ونصيبه كان من أهل مقعد صدق عند مليك مقتدر."24
وبعد، فهل هناك، في شأن عقائد الصوفية الصادقين، بيانٌ بعد هذا البيان؟
وللحديث تتمة.
هوامش:
1- الفتاوي: ج11/ص18.
2 -يُراجع كتاب أدونيس حول "الصوفية والسوريالية"، ص17 و18.
3 -الصوفية والسوريالية، ص18.
4- نفسه.
5- الفتاوي: ج11/ص18.
6- نفسه: ج11/ص77.
7-الرسالة القشيرية، ص36.
8 -نفسه.
9 -إغاثة اللهفان: 1/ص143.
10- نفسه،1/ص145.
11- تُراجع "الرسالة القشيرية"، ص39 وما بعدها.
12- كتاب الذيل على طبقات الحنابلة: ج1/ص291-292.
13- مدارج السالكين: ج2/ص464.
14- نفسه: 1/158.
15- نفسه: 2/464.
16- طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، ص159.
17- مدارج السالكين: 2/464.
18 -نفسه: 2/466.
19- نفسه: 1/146.
20 -الفتح الرباني، ص71.
21- نفسه، ص152.
22- نفسه، ص159.
23 -البرهان المؤيد، ص69-70.
24- نفسه، ص75.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.