(1) لقد أجمع علماءُ الأمة المعتَبَرون من الفقهاء والمحَدّثِين والصوفية، رغم اختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم ومناهجهم، وكثرة خصوماتهم-أجمعوا على التصدّي للمُتفلْسِفَة والمبتدعة والزنادقة والغلاة ممّن تسموا باسم الصوفية، تحلّوا بحِلْيتهم في الظاهر والباطنُ منطَوٍ على المخالفة والجرأةِ على شرع الله. لقد كان العلماءُ على قلب رجل واحد في التشدد والإنكار على أهل الأهواء، عامة، من "نواب إبليس وشرطه"، كما ينعتهم ابن قيم الجوزية، رحمه الله، ومنهم طوائفُ التصوف الفلسفي الإلحادي. وعلى هذا، فإن المتصوفة نوعان: الأولُ متصوفة أقرّ علماء الإسلام طريقَهم وشهدوا لهم بالصلاح بما هم "مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرُهم من أهل طاعة الله"، كما عبر ابن تيمية في فتاويه المشهورة(الفتاوي:ج11/ص18). أما النوع الثاني فمتصوفة مدسوسون ومفضوحون بمقالاتهم وسلوكاتهم وأحوالهم، يرجع أمرُهم إلى الإلحاد في الدين، والطعن على الشريعة، فهم أهلُ كفر وضلال، لم تزلْ سهامُ علماء الأمة، على اختلاف طبقاتهم وتخصصاتهم، ترميهم من كل جانب، تفضحُهم وتردّ على ضلالاتهم وشبهاتهم، وتحذّر من شيطنتهم، وتحرض على مُزايلتهم، حتى تكشَّفت غوايتُهم وظهر للناس فسادُ عقائدهم، فأصبحوا في هامش المجتمع والتاريخ الإسلامي، مُفرَدين كالبعير المُعبَّد، كما عبّر الشاعر طرفة بن العبد. والبعير المعبّد هو المعزول عن الإبل لإصابته بداء العَبَد وهو الجَرَب الذي لا ينفعه دواء. هذا هو الرأي المشهور في مقالات العلماء ومصادر المتصوفة الموثوق بها. أما أدونيس، وعلى طريقتِه اللاعلمية واللاموضوعية في التعامل مع المصادر والمراجع، فيكتفي من فتاوي الإمام ابن تيمية بما يوافق نظريَّته ويسير وفق منظوره، أي الفتوى المتعلقة بمتصوفة النوع الثاني، متصوفة الزندقة والإلحاد و"الأحوال الشيطانية"[يُراجع كتاب أدونيس حول "الصوفية والسوريالية"، ص17 و18]، ولا ينتبه، بل يسكت سكوتا مطلقا عن كون مذهب ابن تيمية في هذا الباب هو التمييز بين متصوفة السلوك على طريق الشرع، الذين يقر مذهبهم ويعظم مشايخهم ويستشهد بأقوالهم، ومتصوفةِ الزندقة والإلحاد، الذين ينعَى عليهم ضلالَهم وابتداعَهم، ولا يني ينتقدهم، وينقُض مقالاتهم، ويفضح عوراتِهم، ويشنّع عليهم، ويعُدّهم في أهل الأهواء والنحل الضالة. والإمام ابن تيمية الذي رأى فيه أدونيس، حسب منظوره الخاص، ما أراد هو أن يرى فيه، لا كما هو في الحقيقة من كتاباته وفتاويه، ووصفَ فهمَه للصوفية-طبعا من خلال الفتوى التي انتقاها، والتي يطعن فيها ابن تيمية على المتصوفة الملاحدة- بأنه نموذج "للفهم التقليدي"(الصوفية والسوريالية،18)، أي "الفهم الظاهري التقليدي للنص القرآني"(نفسه)- الإمامُ ابن تيمية هذا هو الذي يقول مميزا الصوفيةَ الصادقين ممّن انتسب إليهم من أهل الأهواء: "وقد انتسب إليهم[أي الصوفية الذين يُقرّ مذهبهم] طوائفُ من أهل البدع والزندقة. ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم..."(الفتاوي: ج11/18.) لاحظ التقابلَ والتضاد، في عبارة الإمام ابن تيمية، بين "المحققين من الصوفية" وبين "المنتسبين إليهم" من أهل البدع والزندقة. وفي سياق آخر ينبه الإمامُ ابن تيمية المؤمنَ إلى ضرورة التفرقة بين الزنادقة "الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل "الحلول والاتحاد"...وبين العالمين بالله والمحبين له، أولياءِ الله...فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء...والله قد جعل آياتٍ وعلامات وبراهين، "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.""(نفسه: ج11/77.) وقبل الإمام ابن تيمية، ها هو الأستاذ عبد الكريم القشيري، الذي رجع إليه أدونيس كثيرا في بعض المسائل، التي تُعَضِّد دعاويه، في كتابه "الصوفية والسوريالية"، وليس لمعرفة حقيقةِ التصوف وحقيقة أهله الصادقين-ها هو هذا الفقيه الشافعيّ الأصوليّ الأديب، كما يصفه مترجموه، في مقدمة رسالته المشهورة، يذكر أنه لم يبق في زمانه -تُحدد بعض الروايات عمره بين 386ه و465ه-من الصوفية إلا أثرُهم، ثم ينشد متمثلا(الرسالة القشيرية، ص36): "أما الخيامُ فإنها كخيامهم***وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائها" ثم يصف الحالَ الذي آل إليه التصوف حيث فشا رفضُ التمييز بين الحلال والحرام، والاستخفافُ بأداء العبادات، والاستهانةُ بالصوم والصلاة، ومضى الناس "في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق[أي الاستعانة]بما يأخذونه من السُّوقَة والنساء وذوي السلطات..."(نفسه) وهذا الإمام ابن قيم الجوزية، الفقيه الحنبلي المشهور، نجده في أكثر من موضع من كتاباته، وخاصة في "مدارج السالكين" و"إغاثة اللهفان"، يسوق كلامَ الصوفية من أهل الصدق والاستقامة مساقَ الحجة والدليل على تهافت أمر الزنادقة المبتدعة. فهو يذكر، مثلا، أن من كيد الشيطان "أنه يُحسِّن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العملَ بهاجسهم وواقعهم دون تحكيم أمرِ الشارع، ويقولون: القلبُ إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسُه وخواطرُه معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيدِ العدو فيهم."(إغاثة اللهفان: 1/143.) ومما ردّ به ابن القيم على هؤلاء الجهال الذين يحكمون بهواجسهم وخواطرهم على الكتاب والسنة، ويزعمون أنهم إنما يأخذون بالحقائق، وغيرهم يتبع الرسوم-مما ردّ به على هؤلاء المدّعين: "أن أهل الاستقامة منهم[يريد الصوفية الصادقين]سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليه شاهدان."(نفسه،1/145) وقوله "حتى يقوم عليه شاهدان" يشير إلى قول أبي سليمان الداراني: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم، أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة." (2) ولا شك أن أدونيس، الذي رجع إلى رسالة الأستاذ القشيري أكثر من مرة، قد قرأ أن الأستاذ القشيري قد جعل المدخلَ إلى كتابه الحديثَ عن "أصول التوحيد عند الصوفية"، من معرفة الله، وصفاته، والإيمان، والأرزاق، والكفر، والعرش، والحق سبحانه.(تُراجع "الرسالة القشيرية"، ص39 وما بعدها.) ولعل كتابَ "التعرف لمذهب التصوف"، للإمام أبي بكر محمد ابن إسحق الكلاباذي، المتوفَّى سنة 380ه، من أشهر التصانيف الأولى التي تصدّت للدفاع عن التصوف والصوفية، وإظهارِ براءة طريق القوم مما دسّه المبتدعةُ والبطّالون من خرافات واعتقادات منحرفة وسلوكات باطلة، ومما شابها من جرّاء ضلالات الزنادقة والفلاسفة الملحدين من أفكار وتأويلات ومقالات لا تمتّ بسبب إلى أصول الشرع في كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم. ونظرا لأهمية مسألة الاعتقاد، وخاصة وأنها كانت على عهد زمان المؤلف مسألةً حساسة بين طوائف المسلمين وغيرهم من أهل الأهواء والزندقة، فقد خصص لها الإمام (الكلاباذي) في كتابه أبوابا كثيرة، بدأها في الباب الخامس بِ"شرح قولهم في التوحيد"، وفي الباب السادس بِ"شرح قولهم في الصفات"، إلى آخر مباحث ما اصطلح عليه بعلم الكلام، وما يتعلق به من موضوعات كانت دائما مدار خلاف واسع بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف، كاختلافهم في الأسماء والصفات، واختلافهم حول القرآن، أقديم هو أم مخلوق، واختلافهم حول الرؤية، والقدر، والوعد والوعيد، والشفاعة، والروح، والملائكة. وهذا الكتابُ، ومعه كتب أخرى، ألّفَها أصحابُها لجلاء حقيقة الاعتقاد في أصول التصوف، مُفحِمٌ لأدونيس وأمثاله الذين لا يرون في التصوف إلا نقيضَ الإسلام والإيمان "التقليدي"، وأنه تجربة قائمةٌ على مخالفة أصول العقيدة وأحكام الشريعة. وملخص الكلام في هذا الموضوع أن أصول عقيدة المتصوفة، وكذلك أدلتهم القطعية والظنية فيما ذهبوا إليه في مقالاتهم وسلوكاتهم، وكذلك احتجاجاتهم وتفسيراتهم لما اجتهدوا فيه من مسائل الخلاف، كلّ ذلك نجده مدونا ومبسوطا في مظانه الموثوقة المعتمدة لدى طلاب الحق والإنصاف، كالرسالة القشيرية، و"التعرف لمذهب التصوف"، و"إحياء علوم الدين"، و"اللمع في التصوف"، و"عوارف المعارف"، و"مدارج السالكين"... وكذلك رقائقهم ومواعظهم وما كانوا يتداولونه في مجالس النصيحة والتذكير التي كانوا يعقدونها، فهي محفوظة في كتب مثل "الفتح الرباني والفيض الرحماني"، للشيخ عبد القادر الجيلاني(توفي سنة 561ه)، و"البرهان المؤيد"، للعارف بالله الشيخ أحمد الرفاعي الحسيني(توفي سنة 578ه). هذه هي المصادر الموثوقة والمظان المطلوبة، فضلا عن كتب التراجم والوفيات والطبقات والتواريخ، للتعرف على حقيقة التصوف، وليس كتب المتفلسفة وأشباهها من مجمّعات الغث والسمين، المعتمدة لدى طلاّب المثالب والتجريح والتشنيع، أو طلاب التمويه والتلفيق والتلبيس والتنميس. (3) لقد كان المشايخُ من الصوفية الصادقين من أشد المسلمين حرصا على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تتلبّسَ بهما البدعُ، أو تنالهما تحريفاتُ الغالين الجهال، وعقائدُ الزنادقة الكفار. يقول ابنُ رجب الحنبلي في ترجمة الشيخ عبد القادر الجيلاني الصوفي المشهور: "ظهر الشيخُ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة، وحصل له القبولُ التام من الناس، واعتقدوا ديانتَه وصلاحَه، وانتفعوا به وبكلامه ووعظه، وانتصر أهلُ السنة بظهوره، واشتهرت أحوالُه وأقواله وكراماته ومكاشفاتُه، وهابه الملوكُ فمن دونهم."(كتاب الذيل على طبقات الحنابلة: 1/291-292.) السُّنّةُ تنتصر بالتصوف ! وكيف يتفق هذا إن لم تكن السنةُ هي لبّ هذا التصوف وعمادَه وقوامَه؟ هذه مقالةٌ مردودةٌ عند من ليس معه من الشواهد إلا ما شذَّ وكان استثناء، أو ما كان مدسوسا مفترىً، معدنُه الأهواءُ والزندقة والضلال، أو ما كان مُنتخَبا حسب المطلوب ولحاجة في نفس المُنتَخِبين. يكفينا في هذا الموضوع ما نقله ابنُ قيم الجوزية من إجماع الشيوخ العارفين على ضرورة ملازمة السالك للعلم. قال في مطلع حديثه عن منزلة "العلم": "وهذه المنزلة إن لم تصحب السالكَ من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكُه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريقُ الوصول، مسدودٌ عليه سبلُ الهدى والفلاح، مغلقةٌ عنه أبوابُها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين. ولم ينه عن العلم إلا قطّاعُ الطريق منهم، ونوابُ إبليس وشُرَطُه."(مدارج السالكين: 2/464) وهو يقصد بِ"قطّاع الطريق" و"نواب إبليس وشرطه" الأدعياءَ من أهل الزندقة والأهواء، المدسوسين على الصوفية زورا وبهتانا. ويَذكُر في مكان آخر وصيةَ القوم بالعلم، ثم يقول: "...وعامةُ من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيْره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب. فهذا فتنة، والفتنة به شديدة."(نفسه: 1/158) (4) وأختم تعليقاتي على المنظور الأدونيسي بأقوال مختارة لبعض المشايخ تناسب هذا المقام، راعيت فيها التمثيلَ والاختصار. "قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيدُ بن محمد، رحمه الله: الطرق كلُّها مسدودةٌ على الخلق إلا من اقتفى آثارَ الرسول، صلى الله عليه وسلم."(مدارج السالكين: 2/464) وزيد في رواية: "واتبع سنتَه ولزم طريقتَه، فإن طرقَ الخيرات كلها مفتوحة عليه."(طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، ص159) "وقال: من لم يحفظ القرآنَ ويكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمَنا مقيّدٌ بالكتاب والسنة. "وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة."(مدارج السالكين: 2/464) "وقال ابن عطاء: كل ما سألت عنه فاطلبْه في مفازة العلم، فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة. فإن لم تجده فزنْه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجهَ الشيطان."(نفسه: 2/466) "وقال أبو الحسن النوري: من رأيته يدّعي مع الله حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربْه. ومن رأيته يدعي حالةً لا يشهد لها حفظُ ظاهرِه فاتهمْه على دينه... "وقال أبو حفص الكبير الشان: من لم يزن أحوالَه وأفعاله بالكتاب والسنة، ولم يتهمْ خواطرَه فلا تعدوه في ديوان الرجال."(نفسه: 1/146) وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني في بعض مجالسه: "...الروح هو الإخلاص والتوحيدُ والثبات على كتاب الله وسنة رسوله. لا تغفلوا، اعكسوا تصيبوا، امتثلوا الأمرَ وانتهُوا عن النهي ووافقوا القدر..."(الفتح الرباني، ص71) "إنما أريدكم لكم، في حبالكم أفتل. تبتدعُ وتُحدث في دين الله، عز وجل، شيئا لم يكن. اتبع الشاهدين العدلين الكتابَ والسّنة، فإنهما يوصلانك إلى ربك، عز وجل. وأما إن كنت مبتدعا فشاهداك عقلُك وهواك."(نفسه، ص152) "إن الله، عز وجل، لا يقبل قولا بلا عمل، ولا عملا بلا إخلاص، ولا يقبل شيئا في الجملة غيرَ موافق لكتابه وسنّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم..."(نفسه، ص159) ويقول الشيخ أحمد الرفاعي: "أي سادة، إياكم والدّجّاليةَ، إياكم والشيطانيّةَ، إياكم والطرقَ التي تقود إلى كلا الوصفين. أخْجِلوا الشيطان بخالص الإيمان. خرّبوا بيْع الدّجل بيد الصدق. "الطريق واضح: صلاة، وصوم، وحج، وزكاة. والتوحيد والشهادة برسالة الرسول، عليه الصلاة والسلام، أول الأركان. واجتناب المحرّمات حال المؤمن مع الله، وهذا هو الطريق."(البرهان المؤيد، ص69-70) "أي سادة، كونوا مع الشرع في آدابكم كلِّها، ظاهرا وباطنا. فإن من كان مع الشرع ظاهرا وباطنا كان الله حظه ونصيبه. ومن كان الله حظه ونصيبه كان من أهل مقعد صدق عند مليك مقتدر."(نفسه، ص75) وبعد، فهل هناك، في شأن عقائد الصوفية الصادقين، بيانٌ بعد هذا البيان؟ في المقالة القادمة، إن شاء الله، ملمحٌ جديد من ملامح الوجه الآخر لأدونيس. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. مراكش: 12 غشت 2011