لا يمكن أن يبقى المتابع محايدا أمام التغيرات الاقتصادية والعمرانية والبشرية الهائلة التي شهدتها دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تحتفل في الثاني من دجنبر الجاري بالذكرى الخامسة والأربعين من تأسيسها؛ فإمارات الأمس ليست بكل تأكيد إمارات اليوم، بل هي أزهى وأرقى. قصة الإمارات، طيلة مسار 45 عاما خلت، تستحق أن تروى لكل "من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"؛ فهي قصة نجاحات تتلو نجاحات، وابتكارات تتبع ابتكارات، حتى أن البلاد استطاعت في فترة زمنية قصيرة في عمر الدول والأمم أن تحقق أرقاما مذهلة في مؤشرات سعادة شعبها وأداء حكومتها. ومن قصص تلك النجاحات، التي يمكن أن تتخذها بلدان أخرى عبرة ودرسا مفيدا في الحياة العامة، مواجهة دولة الإمارات للعاصفة التي هبت على أسواق النفط العالمية منذ منتصف عام 2014، حيث وضع الكثيرون في الإمارات أياديهم على قلوبهم خشية أن تتأثر البلاد بهذه التقلبات المخيفة. الإمارات تقهر تقلبات النفط ومرّت العاصفة أو تكاد تمر بسلام على الإمارات ليس اعتباطا ولا بالصدفة، وإنما بالتخطيط والابتكار والاستباق إلى المبادرة الاقتصادية الذكية، حيث لم تحدث مشكلات في المالية العامة، ولا فسدت خطط التنمية الاقتصادية، ولا ضاعت فرص توظيف الشباب، بل بخلاف ذلك اجتازت الإمارات عاصفة تقلبات أسعار النفط بتفوق باهر. وتسعى الإمارات إلى أن تكون نموذجا لدولة نجحت في تحويل اقتصادها من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى الصناعات المتقدمة والبحث العلمي، بفضل مهارات وعقول أبنائها. وهذا ما أكده الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، خلال مشاركته في أعمال "خلوة الإمارات ما بعد النفط" في نهاية يناير 2016. ولمواجهة تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، وما يتبع ذلك من تداعيات خطيرة على الموازنات المالية، وعلى تطور مؤشرات الاقتصاد بالنسبة إلى البلدان المصدرة للنفط خاصة، عمدت الإمارات إلى التعاطي مع الآثار السلبية المحتملة لتقلبات عوائد النفط بطريقة مُبكرة وسبَّاقة. وأمام مشكلة تراجع أسعار النفط في العالم، واحتمال نضوبه في المستقبل البعيد، ركزت الإمارات على محورين أساسيين، وهما: التنويع الاقتصادي، ورفع كفاءة المالية العامة، حيث عملت الدولة على تطوير الاقتصاد والنظم التعليمية المؤهلة للمنضمين لسوق العمل بالدولة، بصورة تأخذ في الاعتبار هذه الآثار المحتملة. وتبنت الإمارات عددا من إستراتيجيات التنويع الاقتصادي، التي استهدفت تقليص دور قطاع النفط في النشاط الاقتصادي، وزيادة دور قطاعات تتميز فيها الدولة بمزايا تنافسية؛ مثل: السفر والسياحة، والخدمات المالية، والتجارة الخارجية، وتقنية المعلومات، وصناعات مكونات الطائرات. وعمل هذا البلد الخليجي على توفير البيئة الملائمة والمثالية المشجعة للاستثمار الخاص والاستثمارات الخليجية والأجنبية في الدولة، سواء بتيسير وتحديث الإجراءات، والاعتماد على مبدأ الحكومة الذكية، وتوفير شبكات للخدمات الأساسية، سواء للطرق أو الاتصالات، أو المطارات والموانئ، أو المناطق الحرّة. حلول مبتكرة وليس هذا فحسب، بل عمدت الإمارات إلى التعامل مع الفوائض المالية المتحققة من النفط بصورة تسمح بتجنب سلبيات تراجع أسعاره وتحقيق العدالة في توزيع هذه العائدات بين الأجيال، من خلال استثمارات صناديق الثروة السيادية، التي تعتبر الأكبر عالمياً، والتي تسمح بتنويع مصادر الدخل وتحمي الدولة من تقلبات أسعار النفط، وتحافظ على الثروة وتنميها للأجيال المستقبلية. وبذلت الدولة جهودًا ملموسة ورائدة في تنمية بدائل الطاقة للاستخدام المحلي، بحيث لا تواجه اختناقات في إمدادات الطاقة بنمو الطلب عليها مع تنامي الاقتصاد الإماراتي، وتحقق في الوقت نفسه الريادة في حماية البيئة. كما انخرطت في الاستثمار في تطوير تقنيات الطاقة المتجددة والنظيفة، من خلال مشروعات مثل مدينة "مصدر"، ومحطة "شمس 1" للطاقة الشمسية. ولم يفت مسؤولي الإمارات اتخاذ خطوات لتحرير أسعار الوقود بالدولة، ليتم تحديدها بصورة مرنة شهرياً، وتعكس تطورات الأسعار العالمية، وبما يسهم في ترشيد استهلاك الطاقة وتقليص الآثار الضارة لاستهلاكها الزائد على البيئة، وتقليص الاختناقات المرورية والضغوط على الطرق. كما تم تعزيز مصادر الإيرادات الحكومية وتوفير الموارد اللازمة لتطوير وصيانة البنية التحتية من خلال انتهاج نظم حديثة لتحصيل رسوم لخدمات حكومية أساسية، سواء في استخدام الطرق المرورية المتطورة أو المواقف، إضافة إلى تطوير شبكات متميزة من المواصلات العامة، والعمل على تطوير خطوط السكك الحديدية. وفي الخلاصة، يتوقع الخبراء أن تستمر دولة الإمارات العربية المتحدة في العمل على تطوير اقتصادها بالتنويع الاقتصادي بعيداً عن قطاع النفط، وبالعمل على تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والخليجي والأجنبي، وأن تعمل الدولة على دعم مزاياها التنافسية الجاذبة لهذه الاستثمارات. وفي قراءة لبعض الإحصائيات الرسمية للإمارات، يتبين تحرر الدولة من شرنقة النفط؛ حتى أن تجارتها الخارجية غير النفطية شهدت مؤخرا ارتفاعا ملحوظا، إذ إن قيمتها ارتفعت إلى 553.4 مليار درهم خلال النصف الأول من عام 2016، مقارنة مع 535.7 مليار درهم في الفترة نفسها من العام الماضي، وذلك بنسبة نمو 3 في المائة.