منذ مطلع الثمانينيات، ومع سياسة التقويم الهيكلي التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية على المغرب نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عانى منها حينذاك، لعبت دول الخليج عبر صناديقها السيادية دورا أساسيا في دعم الاقتصاد الوطني، خاصة عبر توفير السيولة الكافية وضمان وفاء المغرب بالتزاماته تجاه البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، إلى جانب الاستثمار في البنيات التحتية وفي القطاعات السياحية والعقارية والخدماتية، دون أن يصل ذلك إلى مستوى الاستثمار في القطاع الصناعي، الذي يعتبر عصب الاقتصاد والمشغل الأول لليد العاملة. في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن حجم الاستثمارات الخليجية بالمغرب، واتجاهها نحو التضاعف، سنة بعد أخرى، نجد أن هذه الاستثمارات، برغم حجمها، تظل مترددة في الاستثمار في القطاع الصناعي بنفس وتيرة الاستثمار في قطاعات العقار والسياحة والطاقة. إذ لم يشهد المغرب مشاريع استثمارية ضخمة للرأسمال الخليجي في مجال الصناعة، ما يدفع إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء هذا العزوف الخليجي. تشير الأرقام التي ترصد حجم الاستثمارات الخليجية بدولة المغرب، والتي يكشف عنها مكتب الصرف بشكل دوري، إلى نمو هذه الاستثمارات بشكل مضطرد، حيث من المرتقب أن تتضاعف خلال السنوات العشر المقبلة، ذلك أن الصفقات التجارية مع دول الخليج حققت سنة 2013، قرابة 30 مليار درهم كرقم معاملات، مقارنة مع سنة 2003، التي لم تحقق فيها المبادلات التجارية المغربية الخليجية سوى ما يناهز 9 ملايير درهم. وحسب الأرقام المتوفرة، فقد تمت 80 في المائة من هذه المبادلات مع السعودية، كما هيمنت المنتجات الطاقية على حجم الواردات الخليجية على الدولة المغربية، حيث سجلت ما نسبته 65.6 في المائة. هذا في الوقت الذي تطمح الرباط إلى استقطاب 1042 مليار درهم من أموال الخليج، وذلك بحلول سنة 2024. وبالمقابل، بلغت الاستثمارات المباشرة القادمة من دول مجلس التعاون الخليجي، حسب مكتب الصرف، 6.2 مليار درهم سنة 2013، مقابل 9.9 مليارات درهم سنة 2012، و0.8 مليار درهم سنة 2004. وقد مثلت هذه الاستثمارات سنة 2013 ما معدله 15.7 في المائة من مجمل عائدات الاستثمارات الخارجية. لكن ما نصيب الصناعة المغربية في كل هذه الاستثمارات؟ السياحة والعقار أول اهتمامات الخليجيين لا تتضمن إحصائيات مكتب الصرف أرقاما مهمة حول الاستثمارات الخليجية في القطاع الصناعي بالمغرب، فبالعودة إلى المؤشرات المتعلقة بسنة 2013، نجد أن الاستثمارات تتركز في ثلاثة قطاعات أساسية، هي قطاع العقار، بحجم استثمار مباشر بلغ 41.3 في المائة، وقطاع الطاقة والمعادن بنسبة 22.5 في المائة، ثم قطاع السياحة ب 15.2 في المائة. وتحتل السعودية الرتبة الأولى في لائحة المستثمرين الخليجيين في قطاع العقار بنسبة تصل إلى 89.7 في المائة، في حين حققت الإمارات ما نسبته 41.1 في المائة من حجم الاستثمارات الخليجية في قطاع الطاقة والمعادن. غياب الاستثمارات الخليجية عن قطاع الصناعة حسب المحللين تتحمل الدولة المغربية نصيبا وافرا منه، لكونها لم تسن قوانين تشجع هذا القطاع وتحفزه بالقدر الكافي ليصبح أهلا للاستثمار. ويرى هؤلاء أن العلاقات السياسية القائمة بين المغرب ودول الخليج من شأنها أن ترفع من حجم الاستثمارات بشكل ملحوظ، خصوصا وأنها علاقات تميزت واتسمت على طول المشوار السياسي بنوع من الوصل الذي لم ينقطع. وبالتالي من الممكن، حسب المصدر نفسه، استثمار هذه العلاقات السياسية لجلب المزيد من الاستثمارات ولتشمل كافة القطاعات بما فيها القطاع الصناعي. ومقابل غياب شبه كلي للاستثمارات الخليجية عن قطاع الصناعة، تعرف قطاعات العقار والطاقة والمعادن والسياحة استثمارات مهمة إذ احتلت على التوالي، المرتبة الأولى والثانية والثالثة من نسبة حجم الاستثمارات الخليجية بالمملكة، ومن بين مشاريع الاستثمار في هذين القطاعين، مشروع «وصال الدارالبيضاء-الميناء»، الذي يعتبر أول مشروع أطلقه الصندوق السيادي للاستثمارات «وصال كابيتال»، الذي يروم كذلك المساهمة في مشاريع تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق، ومارينا طنجة. وهو الصندوق الذي يضم فاعلين اقتصاديين خليجيين آخرين، إذ تساهم فيه أربع دول خليجية (الإمارات العربية المتحدةوالكويت وقطر والمملكة العربية السعودية) إلى جانب المغرب، من أجل تمويل مشاريع كبرى للبنيات التحتية ورفع موارده السياحية، بقيمة مالية بلغت 27 مليار درهم (2.5 مليار أورو). استثمارات تشجع الثقافة الاستهلاكية لا الإنتاجية يطرح المتتبعون تساؤلات حول تركيز الرأسمال الخليجي على الاستثمار في قطاع العقار بشكل أساسي، وبغض النظر عن حجم الاستثمارات الموجهة لقطاع العقار التي تبقى في المحصلة ذات أهمية قصوى، هناك مسألة جوهرية تتعلق بمدى «شجاعة» الرأسمال الخليجي لاقتحام مجالات جديدة للاستثمار؟ يقول شقيري، في هذا الصدد إن «عدم وجود استثمارات قوية بالمملكة وتركيزها فقط على قطاعات ثلاثة أكثر من القطاعات الأخرى، يرجع إلى تخوف الخليجيين من الاستثمار نتيجة لمخاطر تشكلت لديهم انطلاقا من عوامل وهمية، لا توجد على أرض الواقع، إذ أكد أنه لا يوجد بالمملكة ما يعيق تطور حجم الاستثمارات ليبلغ أرقاما قياسية، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو غيرها، بل شدد على أن جل العوامل اللازمة لتوفر مناخ جيد وأساس متين للاستثمار متوفرة في المملكة». أزمة النفط.. هل تحرك الاستثمار الخليجي في الصناعة؟ يبقى مصير الاستثمارات الخليجية في المملكة رهينا بتغير أسعار البترول عالميا، ومرتبطا كذلك بالمناخ السياسي لتغير الأسر الحاكمة في الخليج. كان هذا تصور البعض، حيث اعتبروا أنه لن يصمد كثيرا في ظل هذا الثنائي الذي رأوا أنه سيؤثر سلبا على الاستثمار الخليجي بالمملكة. هذا التصور نفته السعودية، إذ خرجت في خطوة مطمئنة للمغرب واقتصاده، معلنة عبر مسؤول لها في مجلس الأعمال السعودي المغربي، حيث أكد هذا الأخير، أن الاستثمارات السعودية في المغرب لن تتأثر بالأزمة الخانقة التي تعيشها بلدان الخليج جراء هبوط أسعار البترول إلى أدنى مستوياتها منذ 6 سنوات. كما أعلن المسؤول ذاته أن قيمة الاستثمارات السعودية في المغرب ستفوق 38 مليار درهم، قبل نهاية 2016، ونافيا في الوقت نفسه، عدم تعثر أي مشروع سعودي بالمغرب نتيجة لأزمة البترودولار. بل توقع المسؤول ارتفاع قيمة الاستثمارات السعودية بالمغرب بفضل عوامل كثيرة تتمثل أساسا في الاستقرار السياسي الذي ينعم به المغرب. في المقابل توقع البنك الدولي، أن دول الخليج ستتكبد، في حالة إذا ما استمر تدني أسعار النفط، خسائر قدرها بنحو 215 مليار دولار من عائدات النفط، وهو ما يشكل 14 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي مجتمعة. كما أنه أورد في تقريره الأخير حول وضعية دول الخليج في ظل تدني أسعار النفط، أنه عندما يبلغ متوسط سعر البرميل 65 دولارا، فإن السعودية ستحقق عجزا في الميزانية في حدود 1.9 في المائة من الناتج المحلي، في حين ستسجل البحرين عجزا بنسبة 5.3 في المائة، وعمان 11.6 في المائة، وقطر 7.4 في المائة، والإمارات 3.7 في المائة، في حين ستحقق دولة الكويت فائضا قدره تقرير البنك الدولي في حدود 3.1 بالمائة. 3 أ سئلة ل: الشقيري عبد اللطيف* – لماذا لازلنا لحد الآن لا نلمس استثمارات خليجية قوية في المغرب؟ هناك مجموعة من العوامل التي تحد من تطور الاستثمارات الخليجية في المغرب، على رأسها العامل الجغرافي، حيث إن الدول الخليجية كانت منفتحة ولازالت على الدول القريبة منها كمصر والسودان والأردن. ثم هناك عامل اللغة، إذ أن اللغة الأجنبية الأولى المعتمدة في المغرب هي الفرنسية، في حين تعتمد الدولة الخليجية على اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية أولى، وهذا يشكل عائق تواصل أمام دولتين لا تعتمدان نفس سنن التواصل، وكما تعلمون فالاستثمارات في حاجة إلى لغة مشتركة كأرضية وأساس لقيامها. هذا إلى جانب عامل العادات والتقاليد والثقافة، ذلك أن الخليج لم يعرف الحضارة إلا في القرن العشرين، بعد اكتشاف البترول والطفرة الاقتصادية، وهذا جعلهم متقوقعين على أنفسهم برغم انفتاحهم اقتصاديا. كما أن الشركات الخليجية، التي تعودت على اليد العاملة الأسيوية الباحثة عن مورد عيش كيفما كان، تنظر إلى اليد العاملة المغربية نظرة خاطئة، وتعتبرها يدا عاملة متطلبة وترفض الخنوع، وهذا يمكن أن يكون أحد الأسباب التي تعزز مخاوف رجال الأعمال الخليجيين من الاستثمار في المغرب. – لماذا لا يستثمر الخليجيون في القطاع الصناعي على غرار باقي القطاعات؟ أعتقد أن السبب في توجه الاستثمارات الخليجية صوب القطاعات الخدماتية، يرجع إلى الدولة المغربية التي يجب عليها أن تضع قوانين مهمة لتحفيز وتشجيع الصناعات لأنها هي التي تخلق اليد العاملة، فالدولة يجب أن تكون هي النموذج من خلال تشجيع القطاعات الصناعية، ويجب أن تقوم بتوجيه المستثمرين الخليجيين نحو هذه القطاعات. – إلى أي حد يمكن أن تلعب العلاقات السياسية الجيدة دورها في طمأنة الرأسمال الخليجي لاقتحام مجالات استثمار جديدة؟ العلاقات السياسية بين المغرب والخليج متميزة جدا، غير أن ذلك لا يكفي لوحده لضمان جلب الاستثمارات، حيث إن هناك عاملا آخر له تأثير كبير في هذا المجال، هو عامل المخاطرة، ولكي نعرف إن كانت هناك مخاطر تهدد الاستثمار الخليجي ببلادنا، نطرح مجموعة من التساؤلات نجيب عليها تباعا، أولها هل هناك مخاطر اقتصادية، طبعا لا، فالاقتصاد المغربي محمي من الهزات الاقتصادية، وكمثال على ذلك ما موقع في 2008، أي الأزمة المالية الخانقة، التي ضربت القطاع المالي، ولم تؤثر على المغرب، الذي ظل اقتصاده محميا نتيجة تدخل الدولة. أما فيما يخص المخاطر السياسية، فما هو معروف، هو أن المغرب يعتبر البلد الوحيد الذي لم يتأثر بموجة الربيع العربي التي عصفت بأنظمة العديد من دول الجوار العربي، وهذا دليل على أن المغرب ينعم باستقرار سياسي يجعله في منأى عن كل تلك التقلبات التي من شأنها أن تعصف به. كما أن هناك مخاطر أخرى، لا تقل أهمية عن المخاطر الاقتصادية والسياسية، وتتمثل أساسا في المخاطر المناخية، وكما تعلمون كذلك، فالمغرب بعيد نوعا ما عنها، فمثلا المناخ الخليجي جد حار، وهو ما يؤثر على إنتاجية الفرد ومردوديته الاقتصادية، عكس المناخ المغربي الذي يساهم في الرفع من مردودية الفرد ويساعد على الإنتاجية. ومنه نخلص إلى أنه لا توجد مخاطر أو عوائق من شأنها أن تؤثرا سلبا على حجم الاستثمارات الخليجية، أو تجعل المستثمر الخليجي متخوفا من دخول ساحة الاستثمار المغربية. بل إن جميع العوامل المتوفرة تشجع على الاستثمار بقوة. * أستاذ قانون الهندسة المالية