صباح يوم السبت 8 أكتوبر 2016 أعلنت وزارة الداخلية فوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية للسنة الجارية، وزوال يوم الاثنين 10 أكتوبر 2016 عيّن عاهل البلاد، بمقتضى الفصل 47 من الدستور، السيد عبد الإله ابن كيران، الأمين العام للحزب الفائز، رئيسا للحكومة، وكلّفه بتشكيل الحكومة الجديدة. ونحن الآن على مشارف انتهاء شهرين من هذا الفوز الانتخابي والتعيين الملكي الدستوري، ما زال مشروع الحكومة الجديدة المنتظرة مستعصيا على الميلاد، تحت مسمّيات "البلوكاج"، والانقلاب على نتائج اقتراع 7 أكتوبر، والابتزاز السياسي، والتأويل الدستوري، إلخ، حتى إن الحراك الحزبي المضادّ شرع في الآونة الأخيرة في الأخذ بفكرة رفع مذكرة إلى ملك البلاد في شأن تطوير العملية الانتخابية، كما هو الحال لدى قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، أو في شأن تعديلات دستورية عاجلة تواجه أشكالا من الفراغ القانوني القائم، التي نادى بها المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة. فما الذي يقع اليوم في ميدان الحياة السياسية المغربية بعد المحطة الانتخابية التشريعية الثانية التي عرفها دستور 2011 ؟ بن كيران، الرجل السياسي العنيد، الذي يضع في جيبه بأمان وصولات استلام 125 مقعدا برلمانيا خاصا، معزّزة ب 58 مقعد آخر لحليفيه القديمين الجديدين : حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، لا يحتاج إلا إلى 19 مقعد برلماني بالتمام والكمال لإقفال الحساب، والوصول إلى الأغلبية الوثيرة المريحة ؛ أخنوش، الزعيم الأزرق الجديد، الذي فاز حزبه ب 37 مقعد قبل أن يكتسب صفة الزعامة السريعة، وتوصّل من الاتحاد الدستوري بتحويل برلماني بلغ 19 عشر مقعدا جديدا لم تخرج من صناديق الاقتراع، لا يمكن أن ينضمّ إلى التحالف الحكومي القادم إلا بإشراك "الحصان" وإسقاط "الميزان" ؛ العنصر، الشيخ المتردّد، الذي لم تتبقّى في جعبته البرلمانية سوى حزمة 27 مقعدا، يشترط مصاحبة حزب الأحرار للاستعانة به من هيمنة لوبي شبح الكتلة الديمقراطية القادم ؛ لشكر، القنّاص غير المحترف، ذو العشرين مقعدا المتبقّية، ينتظر من بن كيران أريحية العرض الكريم (منصب رئيس مجلس النواب !) المشروط بدخول التحالف الحكومي وإقفال الحساب ؛ شباط، الوافد المناور الجديد، الذي وهب، هو ولجنته التنفيذية ومجلسه الوطني، على طبق من ذهب، لعدو الأمس وحليف اليوم، 46 مقعدا برلمانيا مجّانيا تنكيلا بحزب الجرار ومن معه، يستعجل بن كيران في إعلان تشكيلة الحكومة المستعصية، ويتوعّد أخنوش بفتح ملفاته "السيادية" انطلاقا من حدث الحسيمة ؛ إلياس العماري، المعارض رقم واحد التائه بين ألغام ومنعرجات الخرائط السياسية الهشّة، والفائز حزبه بالمرتبة الثانية ب 102 مقعد برلماني، يلوّح تارة بعصا الريف الغليظة وتارة بجزرة المصالحة الطّرية ؛ بن عبد الله، شبه المنهار بالضربة القاضية للديوان الملكي قبيل تاريخ الانتخابات التي لم تترك لقيادته سوى 12 مقعدا برلمانيا، يحتمي اليوم بكتاب الرفاق، وبمصباح بن كيران، وبالمشاركة الحكومية اللامشروطة ؛ عرشان الأب والإبن، المستسلمان لعنفوان وجبروت "المصباح"، يدعوان، ببركة ثلاثة مقاعد برلمانية محصّل عليها، إلى بدعة شباط الشهيرة في المساندة النقدية ؛ نبيلة منيب، المناضلة اليسارية الجميلة التي ضاع منها لقب البرلمانية المدلّلة، والحائزة على مقعدين برلمانيين يتيمين لا يوجد اسمها ضمنهما، تبكي "محسن فكري" بحرقة، وتنعي برنامج المصباح والجرار ومن في فلكهما ؛ إخوان وأبناء وعشيرة بن كيران أصبحوا اليوم ينادون بحكومة أقلية ضدا في الحمامة والسنبلة وحتى في الوردة الذابلة ؛ المؤسسة البرلمانية، بغرفتها الأولى الجديدة وغرفتها الثانية القديمة، ومعها مشروع الميزانية العامة لسنة 2017، في حالة عطالة وصمت وانتظار رهيب، واستعداد آلي لتفعيل أو تقبّل المواد الدستورية الاستثنائية ؛ المؤسسات الدستورية الكبرى والمتوسطة والصغرى والصغرى جدا، تحوّلت إلى مجرد قنوات إدارية عمودية لتصريف الأعمال اليومية ؛ الخطاب الملكي، القادم عبر الأثير من دكار لأول مرة في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، يرفض تقسيم الحكومة المقبلة على أنها غنيمة انتخابية، مرتبطة بالمسألة الحسابية، وبرغبات أحزاب سياسية بعينها ؛ والشعب المغربي ذو الأربعين مليون نسمة، وفي انتظار إعلان ميلاد الحكومة الجديدة، منهم من مات، ومنهم من يحتضر أو ينتظر، ومنهم من ازداد بالأمس وقبل الأمس، ومنهم من يتسلّح بمزيد من الصبر والصلاة، وما بدّلوا تبديلا... ماذا يقع في عمق الحياة الراهنة للمجتمع السياسي المغربي بعد الانتخابات التشريعية الثانية لدستور 2011 الذي من المفروض أنه يحمل في روحه أجوبة الأسئلة الحارقة لحراك 20 فبراير ولموجة الربيع العربي ؟ وهل يمكن الحديث اليوم، بعد انصرام خمس سنوات كاملة من عمر تنزيل وثيقة مشروع الدستور الجديد، القانون الأسمى للبلاد، عن إمكانية إجراء تعديلات دستورية طارئة، للإجابة على كافة الأسئلة السياسية المسكوت عنها، والتي هي اليوم مثار عراك وتدافع سياسي، وجدال فقهي ودستوري بين كل الفرقاء ؟ وهل فعلا لم تكن لدى كتيبة الفقهاء والعلماء والساسة وأصحاب القانون، الذين أنيطت بهم مهمة إعداد فصول مشروع الدستور الجديد، نظرة استشرافية، ورؤية مستقبلية، وحدس استيباقي، تمكّن وثيقة المشروع الدستوري الجديد من العيش بسلام بين جيلين أو ثلاثة أجيال على الأقل من آباء وأبناء المجتمع المغربي الحديث ؟ الأكيد أن منطوق الدستور الحالي الذي صوتّ عليه الشعب وارتضاه، رغم كل ما قيل ويقال في مسلسل إعداده وتنزيله، يجب احترامه، ولو بالتدخّل المباشر لملك البلاد الذي أعطاه نفس هذا الدستور، كرئيس للدولة، صلاحيات "الحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وصيانة الاختيار الديمقراطي"، لإطلاق مشروع الحكومة الثانية تحت قيادة الحزب السياسي الذي تصدّر الانتخابات. والأكيد أيضا، شئنا أم أبينا، ورغم حداثة سن الدستور الحالي، أن هذا الأخير يحتاج فعلا إلى تعديلات دستورية استدراكية، وإلى عملية جراحية غير دقيقة لإزالة بعض التشوّهات، والقيام ببعض الترميمات والتحسينات، وملأ بعض الفراغات والثغرات الكفيلة بالحفاظ على دينامية الجهاز السياسي للمجتمع والأمة. وإذا كان مبرّر الرافضين لهذه التعديلات أن دستور 2011 ما زال لتوّه خارجا من غرفة عملية جراحية دقيقة، استغرقت قرابة خمسة أشهر من المشاورات والتشخيصات والتدخّلات، ويصعب إخضاعه لعملية جراحية ثانية قد لا تعرف نفس المصير المحمود للعملية الأولى، نقول ألا أحد من العقلاء والمسالمين ودعاة الحياة يرغب في هكذا عملية جراحية عميقة أو سطحية، لكن الخطر التدريجي المحتمل القادم لإرباك الحياة السياسية، وإرهاصات بداية تشتّت لحمة الكتلة الناخبة المتبقّية، ومؤشرات انحسار الثقة في عمليات المشاركة السياسية، تدعونا إلى المناداة الحتمية على هذا التعديل الدستوري حتى ولو كان في شكل عملية جراحية تجميلية لإزالة التشوّهات الخلقية أو المكتسبة، لأن الغرض الأسمى من ذلك هو الحفاظ على سير المؤسسات، وسيادة القانون، والعيش في مجتمع عادل وديمقراطي. وإننا نرى أنه، في مجال تدبير الشأن العام على الأقل، يجب إعادة النظر في المواد الدستورية، الموجزة أو المفصّلة، التي تعنى أساسا بقضايا تشكيل الحكومة، والتعيين في المناصب العليا، وربط المسؤولية بالمحاسبة ؛ فالفصل 47 من الدستور الحالي يتحدث فقط عن تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب ثم يسكت عن الباقي، وفي فصول أخرى، وأثناء الحديث عن قضايا حيوية لا تقلّ أهمية عن تشكيل الحكومة، يستعين الدستور بالقوانين التنظيمية الموازية، للإجابة على أهمّ الأسئلة العالقة، وتقليص هامش الاجتهاد أو التأويل أو العرف تبعا لذلك، غير أن هذا الأمر، في دولة سيادة القانون وزيادة الوعي بالقانون، لم يعد يكفي لإنشاء وتسيير وتدبير المؤسسات، لأن الوثيقة الدستورية المرجعية، التي هي بمثابة خارطة الطريق، ليست دقيقة، وليست شاملة، وليست مستوفية للعناصر الأساسية والثانوية ؛ فماذا يقول المكتفون بهيكلة الدستور الحالي عن حالة تعادل حزبين أو ثلاثة في نتائج الانتخابات التشريعية، وعن المدة الزمنية القصوى التي من المفترض أن تكون ممنوحة للحزب المتصدّر للانتخابات في سعيه لتشكيل الحكومة الجديدة ؟ وماذا عن إشكال إعفاء رئيس الحكومة، وليس استقالته، لسبب جسيم غير وارد الآن، وعدم تحديد تركيبة الحكومة من حيث حقائبها الوزارية ومسمّياتها، أو من حيث العدد الأقصى لأعضائها كما هو مضمّن في بعض الدساتير الدولية الرائدة ؟ وماذا عن نمط الاقتراع المناسب لدولة ديمقراطية حداثية تطمح إلى أن تكون قوة إقليمية، وعن نظام العتبة الانتخابية الذي لا يسمح بإفراز أحزاب قوية، في الأغلبية أو المعارضة، وعن موعد الانتخابات الذي لا يتزحزح عن يوم الجمعة رغم أنه ليس يوم عطلة وطنية ؟ وهل من الديمقراطية اليوم أن يتمّ تعيين رئيس أي حزب في منصب رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء لمجرد أن حزبه قد حاز على الأغلبية المطلقة أو النسبية عوض أن يخضع هذا المنصب الأسمى، في هرم الدولة، لمعركة انتخابية أخرى داخل القطب أو الحزب الفائز، ينتصر فيها المرشح(ة) المعني(ة) بقوة استعداده الجسدي والنفسي، وسلامة ونجاعة برنامجه الانتخابي التنفيذي، ومصداقية قيادة الشأن العام لشعب لا يميّز فيه بين المصوّتين والممتنعين ؟ وكيف يمكن لنا أن نستسيغ أن يمنح هذا المنصب الكبير على طبق من ذهب لشخص لا يعرف الشعب كيف تم اختياره في الأجهزة التداولية رئيسا للحزب، ولا ما هي ارتباطاته المباشرة وغير المباشرة مع الأجهزة والجماعات المؤثّرة ؟ أما بخصوص الفصول الدستورية 49 و91 و92 المتعلقة بالتعيين في المناصب العليا، سواء على مستوى المجلس الوزاري أو المجلس الحكومي، أي على مستوى صلاحيات رئيس الدولة ورئيس الحكومة، فإن أجل "البث التجريبي" لهذا المشهد السياسي الاستثنائي، في حكامة تدبير الشأن العام، قد انتهى مع نهاية الخمس سنوات من عمر الدستور الحالي، وأنه جاز لنا اليوم الحديث عن ضرورة الأخذ بمبدأ التعيين الإداري الديمقراطي بدل الانسياق وراء المفهوم المتداول للتعيين الإداري التقليدي، وطي صفحة القانون التنظيمي 02.12 الذي لم يفرز لمستعمليه والمنتفعين من بركاته إلا تكديس وإنعاش ثروات وامتيازات الريع السياسي ؛ فدسترة التعيين الإداري الديمقراطي، تعني في البداية أن المواطنين المغاربة سواسية أمام القانون، وأن الكفاءة العلمية والخبرة المهنية والميدانية تعلو على درجات الانتماء السياسي، وأن جهاز الاختبار العلمي والمهني الإلزامي يجب أن تسلّم مفاتيحه وصلاحياته وسلطاته لجهة علمية محايدة، تقبل في عضويتها الأجهزة الحكومية المعنية على سبيل الاستئناس والملاحظة ؛ وكل مسؤول حكومي، وحتى كلّ مسؤول إداري، اعتبر في هذا التعديل مسّا سافرا بسيادة المجال الإداري الخاص، وانتقاصا للأطر الحزبية المدعوة سياسيا ومهنيا إلى مرافقة وإنجاح برامج الأحزاب الحاكمة، نقول باختصار أن التدبير السياسي الاستراتيجي من حق الأحزاب الفائزة أو أحزاب الأغلبية الحاكمة، وأن التدبير الإداري والتقني العام مفتوح في وجه جميع المغاربة الأكفاء على حد سواء. وإذا انتقلنا أخيرا إلى الفصل الاستهلالي للدستور الذي يعرّف بنظام الحكم بالمغرب (ملكية دستورية، ديمقراطية، برلمانية واجتماعية)، وبمرتكزات النظام الدستوري القائم على مبادئ فصل السلط، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، والحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا نستشفّ أن المشرّع قد مرّ مرور الكرام على هذه المرتكزات الدستورية القوية دون تفصيل أو توضيح، بخلاف الفصل العاشر من الدستور الذي خصّه كاملا للمعارضة البرلمانية، واستعرض فيه بتدقيق 12 حقا من حقوقها الدستورية، بل ودعا إلى مزيد من تفصيل هذا الحقوق في القوانين التنظيمية والقوانين والنظام الداخلي لمجلسي البرلمان، أي بمعنى آخر أن مبدأ التوازن في الفصول الدستورية والقضايا الحيوية شبه منتفي، ويحتاج إلى استدراك أي إلى تعديل ؛ فقضية ربط المسؤولية بالمحاسبة في آخر جملة من الفصل المذكور مثلا ظلت مبهمة تشريعيا وتنظيميا، وتحتاج إلى مأسسة دستورية وقانونية، تبدأ دستوريا بتحديد الإطار العام، وقانونيا باعتماد وإقرار قانون تنظيمي يحدّد شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة. إن مسألة تعديل بعض فصول الدستور، وخاصة الفصول الخمسة التي ذكرناها سابقا، أصبحت بمثابة "الشرّ الذي لا بد منه" لتعزيز الحياة السياسية والمجتمعية للبلاد، لكن، وحفاظا على سير المؤسسات، فلا يجب مطلقا ربط هذا التعديل المطلوب بمشروع تشكيل الحكومة الجديدة لما بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016، التي يجب أن ترى النور قبل نهاية السنة الجارية، وبحكومة أغلبية وليس بحكومة أقلية ؛ ذلك أن التعديلات الدستورية المطلوبة ليومها وعلى عجل، لا يمكن أن تعيش عمرا أطولا، لأن ميلادها كان ظرفيا وكان موسميا وكان تحت ضغط الطلب، ولأننا نريد فعلا تعديلات دستورية حقيقية متّفق عليها، وبولادة تدريجية وطبيعية، وليست بولادة قيصرية غير محسوبة وغير مضمونة، قد تعيدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر.