استنادا إلى الدراسة التي قام بها بسيوني حمادة (2008) في مصر متسائلا عن مدى تأثير تكنولوجيا الاتصالات في المجال العام، نستقرئ المجال الرقمي بالمغرب على ضوء النتائج التي توصل إليها الباحث، مع مراعاة الاختلاف في النوع والسياق الاجتماعي للدراسة. وبالرغم من التقدم الحاصل في الأبحاث الأكاديمية في هذا المجال بالغرب، لا زالت الدراسات الإعلامية في الجامعات العربية تعاني أزمة الموضوع والمقاربة، إذ يواجه الباحث فراغا نظريا، وبالتالي يلتجأ فقط للنتائج التي توصل إليها الدارسون الأجانب في سياقات اجتماعية متباينة، والأهم من هذا هو أن العلوم السياسية و علوم الإعلام و الإنسانيات لم تنكب على دراسة العلاقة بين الخطابات الإلكترونية والمجال العام، وحتى لا نكون جازمين في هذا الطرح، ربما قد تتواجد بعض الأطروحات والأبحاث الأكاديمية حول مواضيع مرتبطة بالفضاء الرقمي، لكن المسح "الجوجولي" لهذا النوع من الأبحاث يفضي إلى شح المعلومات في هذا المجال. و يزكي بسيوني القناعة نفسها مؤكدا بأن حقل دراسة الإنترنت والبث الإلكتروني جديد على المنطقة العربية، وبالتالي لا تتوفر مشاريع أبحاث تهتم بالتأثير المحتمل لتكنولوجيات الاتصال في المجال العام. و قد يعتقد البعض منا أن الانترنيت أحدثت ثورة في التواصل الإنساني و عملت على تطوير مجتمعاتنا إلى الأفضل. في الحقيقة، تعتبر هذه القراءة وردية، إن لم نقل طوباوية، لأنه لا ينبغي لنا أن ننظر إلى ثورة الإنترنت بعدسات ملونة تصنف التغيير الاجتماعي بصفته عملية تطور خطية متصاعدة أفضت إلى استقلالية مستعملي الإنترنت في المجتمعات العربية المعاصرة و انعتاقهم من هيمنة الدولة ورقابتها على حرية التعبير. لقد ميزت الجينيالوجيا الفوكوية بين التاريخ والتأريخ الذي يدون الأحداث حسب تسلسل زمني معين، معتمدا قوالب سردية نمطية موروثة من الأساطير البدائية القديمة، فالتاريخ لا بداية له و لانهاية، ولا يخضع لمنطق التطور الأسطوري المقدس الذي تفرضه الكتابة التاريخية. و في هذا الباب، نطرح أسئلة مبدئية حول مجموعة من الابتكارات الثقافية المستحدثة في عالمنا العربي، نذكر منها ثورة الانترنيت، والتي يظن الكثير منا أنها من بديهيات التطور التصاعدي لهذه المجتمعات، إذن هل ظهور القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية التجارية و وسائل الإعلام الإلكترونية هي بمثابة نتيجة حتمية للتطور العلمي والصناعي الحاصل في مجتمعاتنا؟ وهل هذا التطور سيفرز حتما تعددية سياسية و تنوعا في المجتمعات العربية بالرغم من هيمنة أنظمة سياسية استبدادية على مفاصل أجهزة الدولة؟ لابد أن نذكر هنا بأن معظم ما كتب حول المجال العام يستند إلى كتابات هابرماس، وبالتالي يعكس في الغالب وجهة نظر غربية في هذا المجال. ولقد تم تصنيف وسائل الإعلام في كتابات هابرماس والعديد من علماء الاجتماع و السياسة بأنها مجرد آليات، وليست بقوى اجتماعية ذات مشروعية تساهم في تحديد هوية الرأي العام و نمذجته، باستثناء وينفيلد شولتز (2001) الناقد البارز في هذا المجال الذي تبنى في مقالته "التغييرات في وسائل الإعلام والحياة العامة" فكرة رئيسية تعتبر وسائل الإعلام مؤسسا رئيساً للمجال العام، وليست فقط بمثابة تكنولوجيا جديدة للتعبير والتواصل الاجتماعيين. و إذا حاولنا استقراء المشهد الثقافي المغربي على ضوء القضايا المطروحة للنقاش في مقالة بسيوني، نلاحظ أن الإعلام الاجتماعي يوفر مجالا عاما جديدا يمكن المغاربة من الانخراط في نقاش سياسي جماهيري مختلف تماما عن النقاش النخبوي الإقصائي المعروض على شاشات التلفزيون و المحطات الإذاعية، والخاضع لرقابة أجهزة الدولة؛ لكن يبدو أن تأثير هذا الفضاء العام الجديد شبه الليبرالي، لا يستطيع من حيث قدرته أن يرقى إلى تشكيل مجال عام مؤثر في السياسات والقرارات الحكومية، باستثناء بعض القضايا الاجتماعية الشائكة مثل فيلم نبيل عيوش، و موت محسن فكري وغيرها من الأحداث. لقد ارتبط المجال العام بالثورة عبر التاريخ، إذ أن تجمهر الأعضاء الاجتماعيين، واتخاذهم لقرارات تحظى بموافقة و تأييد جماعي، تظل الإستراتجية الناجعة والفعالة في عمل الحركات الإصلاحية، لهذا، حدد هابرماس المجال العام بكونه مسرحا لتحرير الذات وتخليصها سيكولوجيا، مما يماثل التحرر السياسي والاقتصادي. وفي السياق نفسه، يذكرنا هابرماس (1962) بأن المجال العام هو سياق مادي ظهر لأول مرة في المقاهي في انكلترا و في صالونات فرنسا في القرنين 17 و 18 إبان صعود البرجوازية الرأسمالية والدولة الحديثة. ويصف هابرماس المجال العام بأنه مكان واقعي اجتمع فيه ملاّكون متعلمون ينتمون للطبقة البرجوازية، ثم انخرطوا في خطاب نقدي عقلاني يهتم بالشؤون العامة، ويناقش القضايا السياسية التي تتعلق بالتدبير اليومي للحياة الاجتماعية. و هكذا بدأ المجال العام يتشكل عبر هذه المحادثات الجماعية، ثم توسعت قواعد هذا المجال عن طريق تقنية الصحف والمجلات التي مكنت من إنشاء شبكة للتواصل بين القراء في المنتديات و المقاهي والصالونات، لتخلق تدريجيا مجالا عاما فسيحا للنقاش. وفقا لهابرماس ، شكل المجال العام مكان تجمهر الأعضاء الاجتماعيين من أجل مناقشة عقلانية للقضايا الاجتماعية اليومية، دون الأخذ بعين الاعتبار الانتماءات الطبقية، إذ انصب الاهتمام حول بلورة الأفكار النقدية المؤثرة في المشهد السياسي، و ترى إليزابيث ايسنشتاين (1979) بأن المجال العام أُنشئ 100 سنة في دكاكين للطباعة قبل الفترة التي أشار إليها هابرماس و قبل أن توجد مقاهي و صالونات تحتضن النقاش العمومي، كما أنها ميزت بين التاجر المتعلم و البورجوازي المثقف الذي شكل فيلسوف الطبقات الاجتماعية الوسطى الصاعدة و مُنظِّرها، هذا و تحدث ألكسيس دو توكفيل (1835) عن دور الجمعيات الطوعية في بناء المجال العام في الولاياتالمتحدة منذ 1793 حين بدأت الجمعيات في مناقشات عمومية و انتقاد القرارات الحكومية، فضلا عن التأثير في رسم السياسات العمومية الكبرى والمحلية. و لعبت الصحف بعدئذ دورا رئيسيا في الحياة العامة من خلال توفير المعلومات، وخلق الاهتمام بالسياسة، ومساعدة المنخرطين في هذا المجال بوضع جدول أعمال لمناقشة قضايا مجتمعاتهم. و نستنتج من هذا التعريف للمجال العام بأن التواصل بين الأعضاء الاجتماعيين هو الرابط المؤسس لهذا المجال، و يعتبر الدور الذي تقوم به وسائل الاتصال بالغ الأهمية في هذا السياق، سواء كان هذا التواصل ذا طابع واقعي أم افتراضي في الصحف و على الفضائيات و في المجال الرقمي ، لأن التواصل في نهاية المطاف آلية تأسيسية فريدة لا مناص منها من أجل خلق مجال عام على حد تعبير فرنكو(2005). و ما فائدة خلق مجال عام ؟ ذلك لأن مفهوم المجال العام ينطبق على السلوك السياسي الطوعي الهادئ والمسالم الخالي من العنف، إذ عوض الاقتتال والفتن التي لوح بها مؤخراً مجموعة من أنصار "العام زين" عند خروج جماهير محتجة على "طحن" مواطن، ينخرط الأعضاء الاجتماعيون في المجال العام ببيئة ديمقراطية سليمة تضمن السلم والاستقرار والاحتجاج المسؤول والحوار بين جميع أطياف المجتمع و مؤسساته. و لهذا السبب، يرى هابرماس بأن المجال العام يحتاج ضمانات مؤسساتية دستورية من جهة، و ثقافة سياسية من جهة أخرى تستقطب الجماهير التي تقبع في أسفل الهرم الاجتماعي، والتي لم تستنشق بعد نسيم الحرية. و من أجل تحقيق هذه الأهداف المجتمعية ، تطفو أهمية وجود دستور ديمقراطي وسيادة القانون، لتتيح سياقا مناسبا للإعلام تمكنه من لعب دور ديمقراطي حقيقي. لكن، كما يعلم الجميع في العالم العربي ، هناك هيمنة بنيوية على وسائل الإعلام، خاصة على الإذاعة والتلفزيون، من طرف أجهزة الدولة، وذلك لمنع تكوين مجال عام حر مؤثر في السياسات الحكومية، و المقصود هنا، هو عرقلة تشكل رأي عام يمكن تلخيصه ببساطة في غياب إرادة سياسية لهذه الدول في خلق التحول الديمقراطي الحقيقي في المنطقة. و لماذا يا ترى هذه الصلابة في التمسك بالسيطرة على وسائل الإعلام في العالم العربي؟ يجيبنا روف (2004) عن هذا السؤال قائلا:" إن الحكومة لديها مصلحة في السيطرة على وسائل الإعلام قصد التحكم في المعارضة، و إسكات الخطابات المعادية،" وذلك لأن دمقرطة الإعلام و نظام الاتصالات يمثل تهديدا حقيقيا لأي نظام غير ديمقراطي . ومنذ متى أبدت هذه الحكومات العربية رغبتها في الاهتمام بخلق بيئة تواصل ديمقراطي، تؤطر المواطن، و تفسح له المجال في إبداء أرائه بشأن القضايا العامة التي تحدد مسار حياته اليومية، بل على العكس من ذلك، نصادف حكومات تقوم بإنشاء وكالات إعلامية تابعة لها لكي تزود العضو الاجتماعي بالمعلومة "المطبوخة"، و توفر له منتجا رديئا منحازا سياسيا لموقف الحاكم يهدف إلى تسلية المشاهد وترفيهه، إن لم نقل "تضبيعه" ، مما يقصي فرضية قيام توعية أو تسييس جماعي من أي نوع. وأضف إلى هذا، تنامي نسبة الفقر والأمية و العطالة في المجتمعات العربية، مما يعرقل إنشاء مجال عام، لأن هذه المعوقات تعتبر سدا منيعا في وجه انخراط فئات اجتماعية من القواعد الشعبية لتناقش قضايا مجتمعية، بينما هي تحترق يوميا في صراعها من أجل البقاء، فكيف يمكن تحفيزها في المشاركة "بالمجال العام"؟ لقد أكدنا أعلاه على أطروحة مفادها أن عمل وسائل الإعلام مرتبط بالبيئة الديمقراطية و السياق السياسي الاجتماعي الاقتصادي الشامل الذي تشتغل من خلاله، كما أبرزنا أن التكنولوجيا وحدها ليست كفيلة بخلق ثقافة ديمقراطية تشاركية، بل تنشأ هذه الثقافة في إطار منظومة مرجعية قيمية حاضنة متأصلة في البنى الاجتماعية، لهذا يجب أن نبتعد عن تنميط العلاقة بين التكنولوجيا المعلوماتية والديمقراطية. و عند هذه النقطة بالذات، يتبادر إلى أذهاننا سؤال جوهري حول تأثير الشابكة العنكبوتية، و الإعلام الاجتماعي في عملية التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية عامة والمغرب على الخصوص؟ هل هناك تأثير نمطي يمكن استقراؤه في جميع السياقات الثقافية على اختلافها وتنوع قومياتها في المجتمعات العربية؟ إن جميع الأطروحات سالفة الذكر تشير إلى أن شبكة الإنترنت، قد تختلف في تأثيرها على المجتمع، وأحيانا قد تتمخض عن تجاربها نتائج متناقضة التأثير في عملية التحول الديمقراطي ، وذلك وفقا لخصوصيات السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة. و استنادا إلى أطروحة هابرماس دائما، يبدو أن الحكومة المغربية لا تستجيب للرأي العام بالرغم من حضور قوى مجتمع مدني تحاول فرض وجهة نظر غير حكومية، و تعبر أحيانا عن مطالب المجال العام. و في هذا الجو السياسي الغامض المختنق الذي يقل فيه الحوار والاستماع لمطالب الشعب، نجد من الصعب العثور على صلة واضحة المعالم بين المجال العام والتحولات الديمقراطية في المجتمع المغربي. ماذا يحدث يا ترى في المغرب الرقمي اليوم؟ كيف تتعامل أجهزة الدولة مع هذا الفضاء؟ ما هي نوع العلاقة التي تطبع الإعلام الاجتماعي والمجال العام؟ هل يشن المخزن حربا باردة على الثورة الرقمية، ويحاول تدجينها كما فعل سابقا مع الوسائل الإعلامية الرسمية؟ ما هي الآليات التي يعتمدها المخزن للتحكم في الفضاء الرقمي ؟ هذه جميعها أسئلة محورية تحتاج أبحاثا ميدانية معمقة للخروج ببلورة تصورات حول مدى استطاعة أجهزة الدولة النفاذ إلى الفضاء الرقمي والتحكم فيه. و لإبداء بعض الملاحظات حول ما نتابعه من محاولات ملحوظة لبلقنة الفضاء الرقمي وتفتيته، نستطيع القول بوجود سياسة ممنهجة لتفتيت المواقع الالكترونية قصد تشتيت انتباه المشاهد، وشرذمته في هذا العالم الافتراضي، حتى لا يتكون مجال عام مؤثر في المشهد السياسي المغربي. تكمن هذه السياسة في تشجيع التكاثر العشوائي للمواقع الالكترونية، وتداول الأخبار بشكل مرتجل، وظهور أقلام صحافية زائفة، إذ قد يدير اليوم موقعا إلكترونيا شخص يدّعي انتمائه لمجتمع الصحافة ، وهو لا يستطيع تكوين جملة مفيدة باللغة العربية، و هذه من المفارقات الغريبة في هذا المجتمع الذي يهمش و يقصي مثقفيه، و يضع الرويبضة في صفوف الزعامة لقيادته. أليست هذه إرادة مخزنية تبحث عن تسفيه العمل الصحافي الجاد و تمعييه؟ نحن نشيد بعمل المواقع الالكترونية الجادة، ولسنا ضد أبناء الشعب من جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية أن تنخرط في إثراء المجال العام، لكن لما تسند مهمة إدارة موقع صحافي لشخص بدون مؤهلات تذكر، فهذا سلوك عبثي، المراد منه توريط المواقع الجادة وتبخيس عطائها، وتفتيت الجماهير وتشتيت اهتماماتهم حتى تتشرذم الآراء، وتتيه بين المواقع الالكترونية والحسابات الفايسبوكية المقنعة تارة والزائفة تارة أخرى، و ينشطر المجال العام إلى ثقافات جزئية متنافرة، و عندما يحدث هذا ، تختفي تماما إرهاصات التجربة المشتركة لأفراد المجتمع، وتستحيل تعبئة الرأي العام نحو تغيير واقع الأشياء وتشكيل فضاء اسمه "المجال العام". * أستاذ بجامعة شعيب الدكالي