نتجت عن الثورة الرقمية مجموعة من التحولات، جعلت البشرية تدخل عهدا جديدا من تطورها، مع بروز عالم جديد كل الجدة، ظهرت معه طلائع المجتمع ما بعد الصناعي، بظهور أنماط جديدة من العمل والإنتاج والتبادل والتفكير، تواكبها أنشطة اقتصادية جديدة، وأشكال من تنظيم العمل غير مسبوقة، ومهن جديدة، وبالتالي علاقات جديدة بالزمن والمجال وروابط اجتماعية جديدة. ويمثل النظام الرقمي أداة تمكن من إرسال عدد هائل من المعلومات المتنوعة إلى عدد كبير من الأشخاص الذين يتوصلون بها في حينها، أي في الزمن الحقيقي، من خلال مسعى بيداغوجي فعال وملائم وبكلفة محدودة. ويسمح هذا النظام بالتقاسم والتقليص من عدد التجهيزات التكنولوجية واختصار الوقت والجهد في تدبير الأعمال، ودمقرطة الولوج إلى المعلومات والمساهمة من منظور مواطن في محاربة كل أشكال الانزلاقات على مستوى الحكامة وإنجاز عملية التغيير. وهو بهذا المعنى يرسخ ممارسات الديمقراطية التشاركية المباشرة القائمة على مبدأ القرب، وإن كان افتراضيا. إضافة إلى ذلك، فالنظام الرقمي أحدث ثورة في اللغة والتواصل، وكسر مفهوم الزمن والحدود والمواطنة. ولئن كان الهاتف النقال والإنترنيت والتلفزة المرتبطة بالشبكة العنكبوتية والكتب والصحف الإلكترونية والأنماط الجديدة في إنتاج الثروة والخدمات الثقافية قد أسهمت كلها في ظهور أماكن عيش جديدة، فإنها أيضا أثرت في سلوكات الأفراد والجماعات، وبالتالي في الرابط الاجتماعي والعيش المشترك. لهذه الأسباب مجتمعة، يمكن الجزم أن الثورة الرقمية أعلنت عن اندثار عالم وولادة آخر جديد. هنا، يجد الباحث نفسه أمام ثلاثة أسئلة تكتسي أهمية بالغة في العالم العربي اليوم، اعتبارا للتأثير الذي يحدثه النظام الرقمي على الشباب، وتنتظم كلها حول وعي الشباب بانتمائهم إلى الهوية العربية وإيمانهم بالقيم المشتركة: - ماذا يعني بالنسبة إلى الشباب الانتماء إلى العالم العربي؟ - أين تكمن الهوية العربية اليوم في نظر الشباب؟ - من ينتج القيم ويصنع الهوية في عصرنا الحالي في المجتمعات العربية؟ وفي غياب دراسات ميدانية وعلمية دقيقة، لا يمكن توفير جواب موثوق عن هذه الأسئلة الجوهرية؛ إلا أن بعض المؤشرات العامة تدل على أن المجتمعات العربية تعيش اليوم في مفترق طرق، وتتعدد أمامها الخيارات المرتبطة بمرجعيات متنافرة، تجعلها في وضعية حيرة وتأرجح، لا تمنع مع ذلك من استجلاء ثلاثة اتجاهات كبرى: - الرغبة في العودة إلى الأصول الأولى للإسلام والانكفاء على الذات والهوية، كنتيجة لأزمة التعليم واستفحال التفاوتات الاجتماعية وانعدام الديمقراطية والحرية وأزمة الحكامة والشعور بالظلم ظنا أن المجتمع الدولي يتخذ مواقف معادية للقضايا العربية الكبرى؛ - الإيمان بالقيم الكونية من حرية وعدالة وكرامة وحكامة مسؤولة وإنصاف وتضامن، كما تنادي بها حركات عالمية يجمع بينها الإيمان بالحقوق الإنسانية الأساسية؛ - موقف ثالث يسعى إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة والديمقراطية. مهما يكن مآل هذه التوجهات، فإن مسار انتقال المجتمعات العربية طويل ولن يتحقق في الأمد القريب. ولا شك في أنه محفوف بمختلف الصعاب والأخطار التي تنذر بالعنف والمعاناة والخوف، إن لم يتم التحكم فيها والتعامل بها بتبصر وحكمة، مع ما ينتج عن ذلك من عواقب وخيمة على الأجيال المقبلة التي ستؤدي الثمن غاليا، وهي ترى نفسها متخلفة عن باقي بلدان العالم تاريخيا وتكنولوجيا وثقافيا وتنمويا. ومع ذلك، يتعين التزام نوع من التحرز المنهجي في مقاربة هذه المسألة؛ ذلك أن الثروة الرقمية لم تشمل المجتمعات العربية كلها. كما أن نسبة الانخراط فيها تتفاوت بين البلدان العربية. لماذا لم تشمل الثورة الرقمية كل المجتمعات العربية؟ وما هو السبب الذي يجعلها لا تتحقق بطريقة ميكانيكية؟ يعزى ذلك إلى عدة أسباب: - يتطور الرقمي في المجتمعات العربية التي تحتل فيها الثقافة مكانة متميزة ضمن اهتمامات المسؤولين، حيث يفردون لها حيزا مهما في سياساتهم العمومية، ويتعهدون بتمويل أنشطتها، ويتجلى ذلك في الميزانية المرصودة للثقافة عموما وللنهوض بالرقمي وأيضا في درجة تطور اقتصاد الثقافة والصناعات الثقافية؛ - تطور الرقمي رهين أيضا بنسبة التمدرس في بلد معين. وكلما انخفضت هذه النسبة، وارتفع معدل الأمية، كان حظ تطور الرقمي أضعف؛ - هناك علاقة جدلية بين درجة تطور الديمقراطية والحريات ودرجة تطور الرقمي؛ - ويتأثر الرقمي أيضا بتطور التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال ودرجة تغطيتها للتراب الوطني، وبدرجة ارتباط الساكنة بالإنترنيت؛ - عامل انفتاح البلد على العالم الخارجي له تأثيره أيضا على الرقمي؛ - وهناك أيضا عامل آخر لا يقل أهمية، ويتمثل في القدرة الشرائية للمواطنين. فكرتان مسبقتان يجب القطع معهما عند تقييم تأثيرات الرقمي: - تبين بعض الدراسات الرصينة حول تأثيرات الرقمي أن تطوره لا يؤدي حتما إلى انخفاض استهلاك بعض الخدمات الثقافية كالكتاب والصحيفة؛ بل على العكس من ذلك، تشير دراسة فرنسية إلى وجود علاقة سببية بين استعمال منتجات الرقمي وارتفاع مبيعات الخدمات الثقافية، وخاصة الكتب والصحف وارتفاع نسبة ارتياد المكتبات (المصدر:CREDOC, 2008, Pratiques culturelles des Français, Editions du CREDOC,Paris ) - لا يعني استعمال الرقمي، بالضرورة، وجود أو انعدام التطور الثقافي لبلد ما؛ ذلك أن تحليل مضامين الخطابات الرقمية يكشف الكثير من المفاجآت المخالف تماما للأفكار المسبقة الرائجة على هذا المستوى. .I وضعية الرقمي في المغرب وتأثيراته على الشباب قد يبدو من باب المفارقة أن المغرب انفتح بسرعة على كل مكونات الثورة الرقمية؛ وهو ما جعله يحرق الكثير من المراحل التكنولوجية في نقلة نوعية، بالرغم من التأخر الذي يعرفه في مجال تعميم التمدرس، ما يحرم الشباب من العدة اللازمة للانخراط في تلك الثورة. هكذا، اكتشف الشباب المغربي الثورة الرقمية واستعملوا أدواتها وتقنياتها في الوقت نفسه الذي تعرف فيه الشباب في البلدان الأخرى على هذا العالم؛ كاليابان والولايات المتحدةالأمريكية والدول الأوربية. ويكفي الرجوع إلى الإحصائيات المتوفرة في هذا الصدد للتأكد من هذا الواقع. وحسب دراسة لمكتب "ماك كنسي" في مارس 2012، فإن المغرب يأتي على رأس الدول من حيث نسبة الارتباط بالإنترنيت، متفوقا على كل من إسبانيا وإيطاليا، كما أن 4.5 ملايين مغربي يستعملون الفايسبوك؛ وهو ما يجعل المغرب في الرتبة ال39 عالميا. وتبين نتائج بحث من إنجاز الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، برسم سنة 2014، أن 94.1 في المائة من المغاربة يتوفرون على الأقل على هاتف نقال (98 في المائة في الوسط الحضري، و87.5 في المائة في الوسط القروي)، وأن 50.4 في المائة من الأسر مرتبطة بالإنترنيت (62 في المائة في الوسط الحضري، 24.4 في المائة في الوسط القروي)، و52.5 في المائة تتوفر على الأقل على حاسوب واحد، و84.4 في المائة ممن يرتبطون بالإنترنيت يكون هدفهم استعمال شبكات التواصل الاجتماعي، و77.6 في المائة يتصفحون شبكات التواصل الاجتماعي يوميا، و85.4 في المائة من المواقع المتصفَّحَة باللغة العربية، و79.4 في المائة باللغة الفرنسية، 85.5 في المائة من المواقع المتصفحة هي مواقع دولية. وفيما يخص وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، فالمغرب يتوفر على تسع قنوات تلفزيونية عامة وموضوعاتية وجهوية، والعديد من الإذاعات لها موقعها الخاص على الإنترنيت، وأكثر من 600 ألف شخص يتصفحون الجرائد الإلكترونية يوميا (...)، إضافة إلى مئات من المدونين. وقد مكن هذا النشاط الرقمي المتميز الشباب المغاربة من إتقان استعمال أدوات العالم الرقمي؛ وذلك على عدة مستويات: - تحرير طاقاتهم الإبداعية في كل المجالات؛ - تجاوز الحدود التي فرضتها أجهزة الدولة؛ - خلق سلطة مضادة عن طريق استكشاف فضاءات لا حدود لها لممارسة حرية التعبير والتنظيم وخلق شبكات للتفاعل والتعاون، مع الاستفادة من رياح الديمقراطية التي هبت على بلدنا، قبل ظهور ما يصطلح عليه باسم "الربيع العربي" بزمن طويل، بكل موضوعية وتجرد. ولا غرو أن يتراجع دور المؤسسات التي تنقل القيم وتصنع الهوية، وخاصة المدرسة والأسرة، حيث لم يعد لها سوى تأثير ضعيف على السلوكات والتمثلات لدى الشباب؛ وذلك نتيجة التطور المذهل للعالم الرقمي في المغرب، وعلى وجه الخصوص الإنترنيت والتلفزة المرتبطة بالشبكة. ويكفي أن نعرف أن نسبة 60 في المائة من المغاربة لا يشاهدون بتاتا القنوات الوطنية، ويفضلون عليها قنوات الدعوة والوعظ والإرشاد الديني، وأن 3 في المائة فقط هم الذين يتابعون برامج القنوات الفرانكفونية، كي نتبين تداعيات هذا التوجه المرتبط بالثورة الرقمية، على مستوى الأمن الثقافي والتماسك الاجتماعي والإنتاج المشترك للقيم الوطنية. من هنا، هذا السؤال الأساسي: من يضطلع اليوم بدور إنتاج القيم وبناء الهوية المشتركة؟، وبالتالي من يقوم بتربية الشباب في المجتمعات العربية؟ أهي المدرسة أم الأسرة أم المسجد أم الشارع أم الحزب أم النقابة أم مؤسسات المجتمع المدني؟ أهو الإنترنيت أم التلفزيون أم الفيديو أم الشبكات الاجتماعية أم أماكن العيش الجديدة التي أتت بها الثورة الرقمية الجديدة، من قبيل مقاهي الإنترنيت ومواقع الإنترنيت والشبكة العنكبوتية عموما؟ تبدو الحاجة ماسة إلى إجراء دراسات ميدانية علمية رصينة للإجابة عن هذه الأسئلة الأساسية. وفي انتظار ذلك، يمكن الاستعانة ببعض الدراسات حول المضامين الرقمية التي يقبل عليها الشباب المغاربة. ومن ذلك الدراسة التي أنجزها مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والتدبيرية، ونُشرت في مجلة "إيكونوميا" سنة 2011. وهي أول دراسة في المغرب تناولت هذا الموضوع، انطلاقا من عينة مكونة من 456 مغربيا من مستعملي الإنترنيت. ومن خلاصاتها أن 57 في المائة من زوار الشبكات الاجتماعية يسعون إما إلى التعرف على أشخاص آخرين، أو تبادل الحديث مع أشخاص لا يعرفونهم، أو إلى تناسي مشاكلهم، أو للترويح على النفس والفرار من الواقع. إضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 71 في المائة من الشباب المغاربة، حسب الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، ممن يستعلمون الإنترنيت، يستغلونه لتحميل الأفلام والموسيقى أو لمشاهدة الفيديوهات. .II دروس للمستقبل نستخلص مما سبق مجموعة من الدروس: أولها أن الثورة الرقمية بالنسبة إلى المجتمعات العربية خطت خطوة كبيرة إلى الأمام، وخاصة بالنسبة إلى الشباب. وهي حقيقة لا مراء فيها؛ غير أن الرقمي أداة ووسيلة، والعبرة في الطريقة التي سيستعملها بها الشباب العربي، مما سيحدد في المستقبل مصيرهم ومآل الفترة الانتقالية التي تمر بها هذه المجتمعات اليوم. وتُطرَح هنا أساسا قضايا الجريمة الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني، ولكن أيضا التضامن الاجتماعي الإلكتروني والإبداع الإلكتروني. في كل الأحوال، تتطلب الثورة الرقمية حكامة ديمقراطية تفضي إلى تحسين استعمال أدواتها فيما يخدم الإنسان العربي وتفتح شخصيته واتساع مداركه ومعارفه. لهذا، يجب أن نحسن قياس قدرة الثورة الرقمية على الإتيان بحلول للمشاكل والاختلالات التي تعرفها المجتمعات العربية وخاصة فئة الشباب؛ فلا نعمد إلى النفخ فيها ومنحها حجما أكبر من قدراتها، ولا نستهين أيضا بمؤهلاتها. علاوة على ذلك، فإن ما أتت به الثورة الرقمية من مكاسب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي يظل هشا؛ لأن الدول العربية عاجزة عن التنسيق بينها والعمل يدا بيد كي تضبط استعمال هذه الأداة باستحضار الانزلاقات المتعددة التي تصاحبها، سواء على مستوى الأمن الداخلي أو الهوية. وأخيرا، فالسلاح الرقمي، على غرار السلاح الغذائي، له أثره البعيد الحاسم على استقلالية قرار الدول العربية وقدرتها على حماية نفسها من التأثيرات الأجنبية على مستوى إنتاج القيم والهوية؛ ذلك أن الدول التي ستتمكن من تطوير بنياتها التحتية وبنياتها الرقمية ستتملك غدا أداة فتاكة للهيمنة الاقتصادية والثقافية والحضارية. يعني ذلك أن هناك اليوم تحديات عديدة تواجه المجتمعات العربية وشبابها، وهي: الأمن الغذائي، والأمن الثقافي، واليقظة الإستراتجية. كما أن هناك تساؤلات عديدة تتطلب الأجوبة المناسبة في مجال إنتاج القيم وصياغة الهوية المشتركة. * أستاذ بجامعة محمد الخامس في الرباط