هل للربيع العربي صلة بتطور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بالعالم العربي، بانعكاساته على الإعلام وتعابير الرأي العام؟ الفكرة المحورية لهذا الكتاب هي أنه وثيق الصلة بنماء ثقافات إلكترونية جديدة يمكن النظر إليها على أنها الأصول الحقيقية للانتفاضة العربية. هذا ما يجيب عنه كتاب إيف غونزاليس كيخانو، العروبات الرقمية. ربيع الويب العربي.» الصادر عن منشورات سندباد/ آكت سود. في سياق ما أصبح مكرسا تحت تسمية «الربيع العربي»، تركز النقاش، ضمن محاور عديدة ومتباينة، على انبثاق تكنولوجية الاتصالات والمعلومات وكذلك دورها في تثوير المجتمعات، وبالأخص منها المجتمعات الواقعة تحت نفوذ الأنظمة الاستبدادية واللاديمقراطية. وقد تدخلت هذه الأساليب من قبيل «فايسبوك» و«تويتر» والمدونات في مجال المطالبات و«النضال الرقمي» لتوصيل الخبر وبث الصور وتوثيق لحظة المناهضة. وقد انكب الباحثون والخبراء على هذا الشكل الجديد من أشكال التواصل والاتصال بغاية الوقوف على تكويناته الداخلية ونظام اشتغاله. للحقيقة، أظهرت الانتفاضات العربية لعام 2011 جسامة التحولات التي تعرفها هذه المنطقة من العالم. يبقى السؤال: هل نحن فعلا بصدد ثورة حقيقية بما تقتضيه أو تتطلبه هذه الأخيرة من إعادة نظر جذرية في مقومات المجتمع؟ أم يتعلق الأمر بمجرد تمرد خبت شعلته؟ يبقى أن تاريخ هذه الحقبة لم يكتب بعد، غير أننا نعرف جيدا بأن هذا التاريخ من دون الأنترنت، ومن دون المدونات والشبكات الاجتماعية، لن يكون على ما هو عليه ولن تكون له نفس التقاسيم. تأثير الصحافة الإلكترونية تتمحور مواضيع الكتاب حول هذا الموضوع الذي يرافق تساؤلا شرع فيه المؤلف منذ عقد من الزمن يوم اكتشف في بيروت أن المشهد الإعلامي خلخله في العمق نمو وتحول الصحافة الإلكترونية. والكاتب ليس غريبا عن الموضوع بل إن له دراية وتمكن المحترفين بالميدان. كما أن ألفته بالعالم العربي أهلته للإمساك بالخيوط الرفيعة واللامرئية أحيانا لهذا المشهد، مزاوجا بين المعرفة التكنولوجية والفكر الإعلامي، علاوة على ذلك فقد ترجم إيف غونزاليس كيخانو عدة روايات، وهو أستاذ الأدب العربي المعاصر ب«جامعة لوميير» ليون الثانية، ومنذ 2005 أصبحت مقالاته الأسبوعية على المدونة التي ينشطها في عنوان «الثقافة والسياسة العربية»، مرجعا أساسيا في القضايا الاجتماعية بهذه المنطقة من العالم. وقد أشرف رفقة ثريا غويباص على المؤلف الجماعي «العرب يخاطبون العرب» الصادر عام 2009 عن منشورات سندباد. وسبق له أن أصدر سنة 1998 دراسة بعنوان: «أهل الكتاب. النشر والحقل الثقافي في جمهورية مصر». صادر عن المركز الوطني للبحث العلمي». بعد كلمة التحية الموجهة إلى طلبة جامعة القديس جوزيف في بيروت، الذين يرجع لهم الفضل في تأليف هذا الكتاب، يأتي إيف غونزاليس كيخانو على ذكر رامي العصامي الذي لم يسمع به أحد قبل انطلاقة الربيع العربي، والذي يعتبره بطريقته الساخرة ومحكياته الفكاهية أحد الممهدين للدمى التلفزيونية التي طلت مؤخرا على الشاشة، والتي تعد إحدى محصلات الربيع العربي. يحكي رامي بطريقة فكاهية مغامرات شرذمة من صغار البورجوازية القاهرية التائهين والحيارى، من أنصار الحشيشة والحاسوب، مستلقين على مخدات أطلقوا مجموعات فايسبوك بأسماء غريبة: «لا للحشيش! لا للرياضة! لا للبنات ! أخيرا نعم للحشيش!». لكن في يوم ما اقترح رامي تشكيل مجموعة باسم «لنغير النشيد الوطني»، لأنه يصعب عليه أداؤه لوحده على قيتارته الخاصة، فتشكلت بسرعة على الشبكة العنكبوتية مجموعة ناهزت 200 ألف عضو أو «صديق». قادت هذه الشعبية رامي إلى المشاركة في حلقة «تولك شو» على إحدى الفضائيات المحلية. وبالرغم من النوايا الطيبة لأحد وزراء حسني مبارك، فإنه أعرب عن كون هذا النوع من الكوميديا ليس له مكانه ولا يمكن التسامح مع توجهاته الانتقادية. المهم أن «عازف القيتارة» وجد نفسه رغم أنفه على رأس حركة احتجاج عريضة، إذ ضربت تحت نوافذ مجلس الوزراء خيام جمعت قدامى المناضلين المحسوبين على المعارضة التقدمية و«متوحشي» الضواحي الفقيرة وأنصار الإسلام السياسي. لم يكن هذا الحكي سوى مجرد فيلم لكن الحكاية انتهت بسلام. الربيع العربي والتكنولوجيا بعد أن فاجأ الشباب العربي العالم بنزوله إلى الشارع لوضع حد لشلل سياسي مستدام، كثرت التعاليق في موضوع تزاوج محتمل للربيع العربي والتكنولوجيات «الجديدة» للمعلومات والاتصالات، فبالنسبة إلى أغلبية المراقبين، فهذه الثورة غير المرتقبة هي جد مثيرة باعتبار أن شبابا متذمرا وغير راض هو الذي وقف خلفها، وأنه من ناحية أخرى قادر على إفشال جميع التكهنات، بفعل تمكنه واستخدامه للموارد الرقمية الأكثر حداثة. وقد شكل ذلك مفاجأة حقيقية في عالم كانت تقدم عنه صورة مجال يحفل بالعنف ويهيمن عليه ملتحون متشبعون بالدين. لم يكن، إذن، من يطلق عليهم خبراء الشأن العربي، الذين كانوا يهتمون بهذه المسألة قبل الانتفاضات الشعبية التونسية، يتوقعون بالمرة وقوع هذه الانتفاضات. المفارقة هي أن الملاحظين الذين كانوا بمنأى عن العالم العربي هم الذين استشرفوا أكثر من غيرهم جسامة التحولات الجارية بل قرب وقوع هذه الأحداث. في شهر ماي من عام 2008 وخلال المنتدى الاقتصادي الذي عقد بشرم الشيخ على ضفاف البحر الأحمر، صرح جيمي وولس، المؤسس المساعد لموسوعة ويكيبيديا قائلا: «إننا سناشهد المنطقة، عما قريب، انطلاقا من رؤية جديدة وتصور جديد». وهو يقصد بذلك كيانا لا يتقدم كحزمة من المشاكل يصعب فكها، بل كمجال يشبه بقية الأمكنة بقوته وضعفه وملايين الأشخاص الذين يسعون إلى العيش اللائق». سيساعد النمو الحتمي لشبكات التواصل وللثقافة الرقمية عموما على إسماع صوت الناس العاديين. وقد عزز التاريخ الرأي الذي أعرب عنه جيمي والس من قبل خلال القمة الاقتصادية لشرم الشيخ. لم يكن العالم العربي، إذن، فضاء رقميا قاحلا، بل على العكس من ذلك كان بنية رقمية منذ «انفجار فقاعة» الأنترنت عام 2000. غير أنها كانت تخضع للرقابة وتستحوذ عليها الدولة المركزية.. فالدول الناشئة على العموم، والدول العربية بوجه خاص، وفرت أسواقا بديلة فسحت المجال لانبثاق صناعات إعلامية. وفي الوقت الذي واصل الفاعلون الكبار تدشين قطاعات محلية، تعامل البعض الآخر مع هذه الاستثمارات الهائلة في مجال التكنولوجيات وكأنها بلا فائدة، كما أن الأنترنت نفسه كان يتطور في اتجاه تطبيقات تمنح للمستعملين سلطة أكبر. لكن لم يخمن أحد يوما بأن العالم العربي قد يستفيد من هذه التطورات ويستغلها لأغراض أخرى، لكن هذه الثورة ورغم أهميتها بقيت بعيدة عن الأنظار وغير مرئية. هل للربيع العربي صلة بتطور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بالعالم العربي، بانعكاساته على الإعلام وتعابير الرأي العام؟ الفكرة المحورية لهذا الكتاب هي أنه وثيق الصلة بنماء ثقافات إلكترونية جديدة يمكن النظر إليها على أنها الأصول الحقيقية للانتفاضة العربية. في قلب الانتفاضات العربية نجد «جيلا رقميا» ليس بالضرورة محصلة جيل عفوي، بل هو جيل يتمتع بتاريخ لو وضعناه في أفقه الخاص لأظهر لنا تعاقب المعطيات التي أحدثت تراكمها القطائع الراهنة. التفكير في هذا الربيع العربي الذي قاده وحمله انبثاق الشبكات الاجتماعية على الساحة العامة يبقى في مرحلة أولى ممارسة أركيولوجية لهذا الترسب التكنولوجي، وهو الذي يساعدنا على استيعاب أن تطبيقات الويب اليوم تندرج في منطق مفتوح منذ أربعة أو خمسة عقود، وذلك بفضل التطورات الرقمية. فقد وقع العالم العربي، مثله مثل بقية البلدان، تحت تأثير هذا التلاقي الذي سمح بتداخل الأدوات اللغات والشبكات. نعرف جيدا الفوائد التي يجنيها الناشطون من تحويلهم لأجهزة تستعمل يوميا مع تسخيرها في سبيل معركة سياسية، وتحويل حاسوب ما أو هاتف خلوي إلى أداة مهيبة وخطيرة بل وأداة معركة. بهذا المعنى ثمة قرابة مباشرة بين الأجهزة المستخدمة أو المبتكرة من طرف المعارضين اليوم وأولى الاستعمالات للتقنية الرقمية قبل قرن ونصف ضمن أشكال بالية مثل الناسخات أو أنظمة الويب المعربة. لم تنزل نعمة الربيع العربي بمحض الصدفة على الشباب العربي، إذ يتضح، على العكس من ذلك، أن الشباب يستفيد اليوم من سلسلة ابتكارات تبدأ من الإرهاصات الرقمية الأولى لتصل إلى أرقى وأعقد التطبيقات الحالية. دور الإنترنيت يتفق الجميع، اليوم، أو يكاد يتفق على التهليل للفضائل الديمقراطية التي فرضها الأنترنت أوالسلطة التحررة للشبكات الاجتماعية القادرة على إسقاط أبشع الطغاة! لكن لا حاجة إلى العودة إلى الوراء للوقوف عند حقيقة تشدد عليها أغلب الدراسات التي تتناول مستقبل الانترنت في هذه المنطقة عندما تركز على الخوف الذي يثيره انتشار الإسلام السياسي في أشكاله الراديكالية. لم تكن الشبكة العنكبوتية ذاك النهج الملكي للثورة، بل كان ينظر إليها كمجال مخيف قد يسخره الإرهاب العالمي، بتنشيط من متآمرين قادرين في عتمة مغاراتهم على مراوغة أنظمة المراقبة الإلكترونية الأكثر تعقيدا، كما لو كان هذا الخوف الهلوسي الناشئ عن «ويب أخضر» بلون الإسلام قد أرخى ألوانه على البقية. وغالبا ما قدمت تفاسير سلبية للانعكاسات الاجتماعية بل وأكثر من ذلك السياسية، لدخول العالم العربي في مجتمع الإعلاميات. وكان لانبثاق الجزيرة في المشهد الإعلامي أثر واضح على تغيير صورة الغرب للعرب، لكن المسألة الدينية بقيت بمثابة نقطة سوداء تركزت عليها دوما نظرة الغرب، إلى أن تلقت القناة قبل الاحتفال بعيدها الخامس عشر، وفي عز أحداث 2011، تهاني لا أحد كان يتوقعها من طرف هيلاري كلينتون وزيرة الدولة في الخارجية الأمريكية، والتي أثنت على قدرتها على نشر ما أسمته real news. مصير هذه المغامرة الإعلامية الاستثنائية يعبر في الحقيقة عن حقيقة ما يجري بشكل عام في مجال الانترنت العربي: فردود الأفعال الأولى التي كانت عدائية تركت مكانها للحذر. على أي فانتشار استعمالات الأنترنت في العالم العربي أدى إلى تضخيم الفانتزم حول احتمالية أسلمة الشبكة العنكبوتية. ولتجنب أن تتحول هزائم الغد بدرجة ما هو عليه حماس اليوم من اللازم اقتراح قراءة أخرى، ليس قراءة سياسية لما هو رقمي، بل قراءة للسياسي الرقمي في العالم العربي. من أجل هذا الغرض لا يكفي تقييم الحصيلة السوداء للمناهج السلطوية بالمنطقة التي تقدم بعض الدول على رأس قائمة الممارسات المشينة. الواضح أن الأوضاع تتغير بحسب الدول، وينطبق نفس الشيء على طلبات الفاعلين الذين «استولوا» على فضاء التعبير هذا، لكن عند العودة إلى العشرين سنة الماضية تظهر نفس الدينامية، ومن دونها لن نقدر على تفسير ما تدين به الانتفاضات الحالية للطباعة والتمكن من التكنولوجيات الإعلامية الجديدة عن طريق فاعلين سواء كانوا معارضين أو في قلب النظام، سواء كانوا داخل مؤسسات أو يقعون خارج المنافسة التقليدية على شاكلة شباب عربي يقال عنه إنه غير مهتم بالسياسة. بالنظر إلى نوعيتها، تدفعنا انتفاضات 2011 إلى الوقوف عند ملاحظة أساسية هي أن ما نسميه هنا العروبات الرقمية تعرف أساسا بما هو سياسي. ثورات من دون زعيم، احتجاجات من دون شعارات أيديولوجية، تعبئة ظاهريا عفوية ومنفصلة عن الأجهزة، تهميش للنخب التقليدية، وبالأخص النخب الثقافية، ويمكننا تمديد المنجزات التي قام بها الشباب المتظاهرين العرب مع التشديد على المظاهر الإيجابية لنشاطهم: أصالة في الشعارات، قدرة على التأقلم مع الظروف، سهولة في كسر الحدود التقليدية مع إدماج فصائل من المواطنين، حذاقة في استخدام مختلف سجلات الإعلام لكسب الدعم الخ... الخارج تم استيعاب رموز الربيع العربي حتى وإن كان هناك خطر من «بهدلة» الأيقونات الثورية في سوق العولمة، على طريقة الكوفية الفلسطينية، التي كانت فيما مضى رمزا لصراع تحرري ثم أصبحت فيما بعد من كماليات الموضة تصنع في الصين! غير أن انهيار النظام التونسي والمصري عقد الصلة مجددا مع القصص البطولية للحكايات الثورية العظمى. هكذا يدرك الجميع أن الأمر يتعلق بفصل جديد له أسلوبه الخاص بطابعه التقني لزمانه. هل تعتبر وقائع 2011 دخولا للعالم العربي في حقبة جديدة من تاريخه؟ إن ملاحظة المجتمعات العربية إلى اليوم، وبالأخص في القطاعات التي تهم الشباب والقطاعات التي لها حساسية بالحقائق الرقمية، تعطي الانطباع بأن التكنولوجيات الجديدة أصبحت تعبر عن قدرتها الحيوية. في الحقيقة ليست السلطة السياسية هي التي يطالب بإعادة النظر في مقوماتها، فالعالم الرقمي العربي الناشئ يوفر متابعة للعديد من المواقع الالكترونية، بالإكثار من التحركات الأفقية داخل الشبكات الانتقائية. كما أن الممارسات الرقمية الجديدة تنقل من مكان إلى آخر المحددات الأساسية، وأول هذه المحددات هي اللغة بكل ما تحمله المنطقة من قيم إستيتيقية ودينية. لكن ينطبق الأمر أيضا على المعتقدات الدينية حيث يجب على أنظمة الحفظ والتبليغ أن تتأقلم مع الأشكال الجديدة للإعلام، بل أكثر من ذلك، يلاحظ أن الممارسات الرقمية قد أثرت حتى في العلاقات العائلية الأكثر تجذرا في الزمن، فالهويات العربية تديم بنوع ما مسلسلا انطلق ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذه المرحلة التي تعرف في العالم العربي باسم النهضة هي مرحلة صياغة لسياسة جديدة. ويذكر المؤلف بالدور الريادي الذي لعبه دخول المطبعة في العالم العربي، «بطبيعة الحال ليس الدور الذي لعبته المطبعة في تحديث المجتمعات العربية في نهاية القرن التاسع عشر هو نفسه الذي قامت به التكنولوجيات الرقمية اليوم، لا لشيء إلا لأن فاعلي المطبعة كانوا يشكلون تعاضدية من الأخصائيين قليلة العدد، فيما التدفق الرقمي يهم اليوم جميع الطبقات الاجتماعية. على أي تبقى المقارنة بين هذين الثورتين الإعلاميتين، والتي يفرق بينهما مائة عام جد مفيدة : بالأمس انبثقت كيفية جديدة «للكائن العربي» مع انبثاق المطبعة وانتشار وساطات تقنية جديدة بالعالم العربي. اليوم من خلال الثورة الإعلامية بدأت تتأسس عروبات رقمية جديدة هي التي تغذي انتفاضات الشباب الذي يبحث عن نهضة عربية ثانية.