إن التناقض الحاصل بين النفس الإنسانية و العقل و العاطفة ، يجب أن يحوّل إلى طاقة بنّاءة عن طريق استغلال إمكانياته و توجيهها إلى ما فيه خير الإنسانية . فالعقل جاف و بارد ، و العاطفة ملتهبة و مندفعة ، و لكن عند مزجهما فإن التناغم بينهما يجعل الإنسان أكثر نضجا و إقبالا على الحياة ، و أعمق فهما و إدراكا لها . إن العمل الأدبي يوضح جليا هذا المزيج بين العقل و العاطفة ؛ فإذا كان الأديب يستغل كل إمكانياته العقلية في تشكيل عمل أدبي ، فإنه يتحتم عليه في نفس الوقت أن يترك عواطفه تجيش بذاك الإنتاج و تقولبه في شكل جمالي تضج حناياه بالحياة و الجمال . و إلا تحول العمل الأدبي إلى قوالب تشبه المعادلات الرياضية في رتابتها و جفافها. فعلاقة الأدب بالإنسان علاقة وثيقة من حيث أنه يجسد الصراع الذي جبلت عليه الحياة الإنسانية، و بدون هذا الصراع فإن العمل الأدبي يبقى عملا وصفيا تقريريا عن حالة ما أو وضع معين. لذلك فضرورة الأدب قائمة على تحقيق التناغم و الاكتمال عن طريق تقديم صورة للإنسانية في غاية المثالية ،إذ أن الإنتاج الأدبي يخلق معادلا موضوعيا للطبيعة الإنسانية كما يجب أن تكون . لأن الإنسانية مهما حاولت أن تبلغ الكمال تبقى ناقصة ، و يبقى العمل الأدبي هو الذي يحقق لها كمالها كما استقرأ ذلك كل من أرسطو و طوماس إليوت Thomas Stearns Eliot–رغم الفارق الزمني بينهما- فيما أسموه بالهارمونية البديعة . قد حاول الروائي الإنجليزي Daniel Defoe في رواية الشهيرة "روبنسون كروزو" أن يوضح علاقة الإنسان بالأدب أو علاقة الذات بالموضوع . إذ نجد فيها البطل يحترق شوقا للقاء بني جنسه بعد أن تحطمت سفينته و ألقى به الموج إلى جزيرة مهجورة . فكما أن الإنسان يحب ذاته و يحافظ عليها من أي مكروه فإنه يدرك أن تحقيق هذه الذات لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الموضوع الذي يتجسد في الآخرين فهو يشعر بإنسانيته حينما يجد صداها عند الآخرين . و معظم هذه الأعمال الأدبية الشبيهة بعمل دانييل ديفو تبلور لنا صراع البشر من أجل البقاء و من أجل إنسانية أفضل و عيش مشترك . إن تذوق الأدب خاصة و الفن عامة، شرط أساسي لنمو الإنسان الناضج الذي يستطيع أن يستخدم عقله و أن يوظف إحساسه في استيعاب الظروف المحيطة به ، و في فهم البشر الذين يعيش معهم ، فالأدب ليس مجرد هروب من الواقع أو تسلية ، و لكنه وسيلة للمحافظة على توازن الإنسان سواء الفكري أو الروحي . لأنه يرسي عمق البصيرة و النظر و رحابة الصدر و سعة الأفق ، كما ينمي القدرات العقلية لدى المتذوق للتجربة الأدبية بكل نواحيها و أبعادها الفكرية و الوجدانية. و من المؤكد أن الشخص الذي يتذوق الأدب و يستشعر تلك الدفقة الشعورية في النصوص الأدبية أكثر أخلاقية من الذي لا يبالي بالأدب. ومثال ذلك الطبيب الذي يتذوق الشعر مثلا و زميله الذي ينظر للفن على أساس أنه مضيعة للوقت. فالأول ينظر إلى المريض المخدر بين يديه في غرفة العمليات على أنه إنسان له آمال و طموحات و حب للجمال و الإنسانية ، و من الواجب عليه كطبيب أن يبذل كل جهده كي تستمر تلك القيم في ذاك المريض ولا تنطفئ شمعة الإنسان المقدسة و تستمر حياته بكل جمالها و عبقها . أما الطبيب الثاني العملي فهو لا يعير أي اهتمام للتذوق الفني لمهنته وينظر إلى مريضه نظرة الزبون ، لأن بينه و بين المريض حاجزا و لا يجمع بينهما الشعور بالإنسانية. فالطبيب يؤدي عمله و المريض مريضا بسبب ظروف سيئة .ّ و من هنا ؛ كانت و لا زالت ضرورة الأدب و الأخلاق الإنسانية إرساء و تكريس الحب و العطف و الحنان و الرقة و الذوق . و بدون هذه القيم سينتفي مفهوم الإنسانية من حياة البشر التي ستتحول إلى غابة مليئة بالوحوش الضارية. إن الأدب هو الوسيلة الوحيدة و الواحدة التي بإمكانها الجمع و الربط بين الناس في وحدة وجدانية ، رغم اختلاف مشاربهم و أعراقهم و توجهاتهم الإيديولوجية . لأنه الوحيد القادر على توضيح سمو الإنسان و جمال الحياة و معنى الوجود . و بالتالي فإنه يضاعف من إدراكهم لمعنى العيش المشترك بالحب و الأخوة و التعاون من أجل خلق عالم يعيش فيه إنسان أفضل . إن الأدب هو تجربة نفسية فعالة لبلوغ النضج الإنساني .