في البداية لا بد أن أشير إلى أن مصطلح الإنسانية قيل فيه الشيء الكثير،لا من جانب المبدعين،ولا من جانب الدارسين والباحثين على طول التاريخ الأدبي والفني والفكري ،الأمر الذي جعل نظرية الإنسانية من النظريات الأدبية والفكرية التي يصعب تحديدها بزمن معين ،أو تتبعها في منطقة معينة، أو ربطها برواد يعود إليهم الفضل في تحديدها وبلورتها .»فقد اعتنق النظرية الإنسانية أدباء ومفكرون لا حصر لهم في جميع أقطار المسكونة وفي قرون مختلفة.»(1)، بيد أن المتفق عليه في باب الاصطلاح، هو أن الإنسانية لا تعرف لونا ولا جنسا، ولا قوما،ولا وطنا وهي عالمة،مدركة،فإن حلت في قلب الإنسان رفعته إلى الدرجة العليا المؤسسة على المحبة والعدل والمساواة والمعرفة،وإن فقدها نزلت به إلى الدرك اللاأخلاقي، حيث البغض والظلم والحقد والوحشية والجهل. وهي روح المدنية الصحيحة عمادها العلم والمعرفة والرقي المستمر لكل فرد من أفرادها. وهي مطلقة، لا تقف عند حد. ومما لاشك فيه أن الإنسانية تبرز ذروتها بعد الخيبات والنكسات خاصة بعد الحروب، ولعل هيمنة التيارات الإنسانية بعد الحربين العالميتين خير دليل على هذه الظاهرة،حيث مباشرة بعد نهاية الحربين ، قامت الأمم عبر مثقفيها ومفكريها وفنانيها وأدبائها في جميع أنحاء المعمورة بالحث على نشر الإنسانية ،عبر المناداة بالتخلي عن ثقافة الهدم والدمار، والتشبث بثقافة البناء المنبنية على حقوق الإنسان الكونية ،أينما كان،والعمل على نشرها بين الناس وإعطاء الشرعية لِحَقِّ الإنسان في التعايش والانفتاح بسلام وأمان وجوديين.وقد تغلغت هذه الأمور جميعها في العلوم الإنسانية والآداب والفنون عامة وفي الإبداع الشعري خاصة،لأنها لقيت صدى عميقا في قلوب الشعراء الواعية،فهبوا يطلبون العدل والمساواة والحرية،يحثون قومهم على الإخاء والتعاون،والتجرد من كل تقليد يضع ستارا بينهم وبين أبناء وطنهم من جهة،والعالم كله من جهة أخرى،ذلك بأن الإنسانية مطلقة تدعو إلى الإخاء والعدل والمساواة والتعاون،إذ لا تعرف حدا ولا فاصلا،كما أشرنا سابقا. علاقة الإنسانية بالشعر تأسيسا على ذلك ،تمت معالجة علاقة الإنسانية بالشعر،التي تكمن في سعي الشعراء إلى رسم ملامحها طوال تاريخ الشعر العريق،فإن كانت العلاقة تتسم بالصراع في غالب الأحيان،فإن الغاية الكبرى المنشودة من لدن الشعراء هي تحقيق خصائص الإنسانية،فكل الأعمال الشعرية تقريبا التي أبدعها الشعراء من هوميروس إلى الآن،ظلت تعمل على تشكيل هذه الخصائص ،التي كانت تجسد صراع البشر من أجل إنسانية أفضل.هنا تكمن وظيفة الشعر الحيوية والضرورية في مفهوم النظرية الإنسانية،فالشعر هو الوسيلة التي تسخر الإمكانات المؤدية إلى وجود أفضل وعالم أجمل. ولذلك اصطلح النقاد وعلماء الجمال والأخلاق على أن الإنسان الذي يتذوق الشعر خير من ذلك الذي لا يهتم به.لأن الشعر تجربة نفسية وجمالية فعالة وضرورية لبلوغ الإنسانية درجات أعلى من النضج والرقي. وتتمظهر علاقة الشعر بالإنسانية من خلال انتماء الشعر إلى الحياة ،إذ يسهم في خلقها،وفي خلق الحياة الإنسانية،وهو دوما يبحث عن السبيل الذي يؤدي إلى التواصل مع الجميع.فالناس يتواصلون في الشعر،كل واحد من موقعه،والشعر يمجد الحياة معهم.فمشاركة الشعر في نشر الإنسانية تبتدئ مما قاله المبدع الفرنسي جان كوكتو»الشعر ضرورة»،ومما قاله الشاعر المكسيكي أوكتافيوباث ذات يوم»إن شعبا دون شعر هو شعب دون روح،وإن أمة دون نقد هي أمة عمياء»،فلولا الشعر لانطمس الحس الإنساني تحت ركام المتغيرات المادية اللامتناهية، ولخمدت مصابيح الوجدان،وخَبَا وَمِيضُ التواصل البشري.فبدون النزعة الإنسانية في الشعر يبقى الإنسان غير قادر على الإبداع والعطاء،إذ يغدو كل منا بغير الشعر خاصة والفن عامة جزيرة نائية منعزلة عن الآخرين. فمن بؤس الثقافة العربية اليوم، وانعزالها ، أنها لا تنصت جيدا لنداءات الشعراء وأمثالهم بصفة عامة. ولا تعرف جواهر القصيدة ، وعلى رأسها القصيدة الإنسانية التي تشكل رسالة خالدة في تنقية العالم، وتوحيد حطامه المبعثر وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال ،من خلال دعوتها الأزلية إلى تحرير الإنسان من ذنوبه، التي اقترفها على مدار التاريخ، في حق الطبيعة والحياة،مع تذكيره دائما بعالم المُثُل، وبأصله الإنساني النبيل. فالقصيدة الإنسانية هي التي تُنَبٍه العقل ،وتَرْتفع بالنفس ،وتُهَذِّب الضمير، وتُغَيِّر العالم بالموضوع الشريف والحكمة السامية،وهي صديقة الشعراء العظام مثل هوميروس وأبي العلاء المعري وابن عربي ودانتي أليجيري ووليام شكسبير... ومحمود درويش في مرحلته الأخيرة وأدونيس .. وعبد الكريم الطبال ومحمد بنيس وآخرين،الذين علموا وسحروا،وأفادوا العقل بقدر ما أسعدوا القلب.فأعظم ما حققته القصيدة الإنسانية وما تزال تحققه في كبار أعلامها وروادها أنها وصلت العالم المنظور بعالم آخر غير منظور ،واحتفت بتجربة الخلق أيما احتفاء،جعلها أقرب إلى التجربة الروحية والصوفية،وأكدت قدرة الروح المبدعة وانتصارها وموهبتها إزاء أسرار الخلق،وقدمت الحجج والبراهين على أن الفن وبالأخص الشعر-هو طريق النجاة من قسوة الموت،وظلم السلطة،وتخبط السياسة،وغرور العلم الهدام،وتعنت الفكر المتطرف،وجشع البورجوازية العشوائية ،وضياع أنقى وأبقى ما في الإنسان-وهو حياته الباطنة وقدرته على الخلق والتجدد والإبداع-تحت عجلات الآلية والنفعية والوضعية وزحام الفضاءات المدينية الملوثة. فالقصيدة الإنسانية يناصرها الشعراء الذين يقولون:إن الإنسان ليس هو الحيوان السياسي ولا القديس المتدين.ولا هو المتصوف أو الفيلسوف. بل هو الفنان القادر على أن يجعل من الحياة نفسها فنا تستحق من أجله أن تعاش، ويعمل على إيصال الكنوز الخافية في أعماقه الفردية بكنوز الإنسانية وأسرارها ورموزها القديمة، ويثبت جدارته بهذه الإنسانية من خلال جدارته بالخلق والإبداع.ولعل هذا ما أشار إليه الشاعر الفرنسي شارل بودلير في إحدى قصائده،عندما قال»لا يوجد غير ثلاثة أشخاص جديرين بالاحترام: الراهب والمحارب والشاعر،أن تعرف وأن تقاتل وأن تبدع.أما الآخرون فإنهم صالحون للاستغلال والسخرة.مخلوقون للإسطبل،أي لممارسة ما يسمى المهن.»(2)،فالإبداع وسيلة ناجعة لبناء الإنسان المعرفي والفني والقيمي والجمالي،وهو الذي ينشر رسائل الاستقرار والسلام بين الشعوب والامم .فشعر الإنسانية في صميمه غناء ووجدان،لَحْنٌ يعيد للعالم انسجامه وتوازنه.فهو صياغة جديدة لمصيره ومعناه، لأخلاقه وقوانينه، لشريعته وسياسته.هذا هو المثل الذي جاهد الشعراء في كل العصور لتحقيقه.والأسطورة الإغريقية القديمة التي تُرْوى في هذا المعنى غير بعيدة عن الأذهان.فقد قيل إن شاعرا ركب مع جماعة من البحارة الغلاظ في سفينتهم. وتَوَهَّم البحارة من هيئته وصمته انه يحمل كنزا ثمينا فعزموا على قتله.وأعلنوه بالحكم فَرَضِي َبه.ولكنه طلب منهم أن يمهلوه ريثما ينشد أغنيته.وتناول قيثارته وأخذ يوقع عليها لحنا رائعا جذب الدلفين –صديق الغناء والإنسان-فطفا على وجه الماء ليستمع إليه-ولم يكد الشاعر ينتهي من أغنيته حتى ألقى بنفسه على ظهر الحيوان الصديق.ليست الأغنية هي سبيل الإنقاذ وإعطاء معنى جديد للعالم الذي فقد معناه،أو إعادته إلى المعنى المفقود فحسب،بل هي كذلك تعبير عن مغامرة الحقيقة وسط محيط التجربة الإنسانية المضطرب غير المتناهي.هنالك يصبح الخلق الجديد هو الهدف الذي يحلم الشاعر ببلوغ شاطئه البعيد. ففي هذا السياق، قَدَّم النقاد والشعراء معا مجموعة من التعاريف للشعر تقترب في عمقها من هذه العلاقة الموجودة بين الشعر والإنسانية ،المتمحورة أساسا حول تضمين الشعر للمشترك بينه وبين الإنسانية،فعلى سبيل التمثيل لا الحصر،نذكر ما قاله أرشيبالد ماكليش «إن فن الشعر هو في جوهره واحد في جميع اللغات مهما اختلفت المظاهر السطحية.» (3)،وهذا ينسجم مع أحد عناصر مفهوم الحداثة التي تركز على الإنسان بوصفه بؤرة الشعر ومبتغاه، فالحداثة والإنسان، على المستوى الغربي والعربي معا،كما نَظَّرَ لها بودلير وأمثاله وفهمها يوسف الخال وأمثاله وكما عبروا عنها في مجمل تصوراتهم النظرية والإبداعية،تركز هدفها على الإنسان قبل أي شيء آخر.فكل تغيير لا يخدم الإنسان لا ينتمي إلى الحداثة في شيء.لا في العلوم ولا في الفنون. والإنسان هو المحور،والباقي،بما فيه الشعر،تفاصيل ،فحتى حين نتمرد لا نتمرد من أجل الشعر،بل من أجل الإنسان في الوجود.لأن الشعر وسيلة، أما الإنسان فوحده الغاية، وحتى عندما تطرح الحداثة نفسها على أنها تمرد على القوالب والأفكار الجامدة، فإن الإنسان يكون ماثلا في خلفية قرار التمرد هذا.لذلك فإنه يحتل الأولوية في قائمة أهداف الحداثة. فكل تمرد لا يقيم وزنا إلا للنظرية الشعرية ليس هو من الحداثة في شيء،كما يقرر يوسف الخال،ذلك»بأن الحركة الحديثة ،في الشعر العربي المعاصر، تقوم على موقف شعرائها من الإنسان والوجود، وعلى مفهومهم المعاصر،لا القرن التاسع عشر-لماهية الشعر.» (4) أكثر من هذا.فإن حركة الحداثة الفكرية عموما،والشعرية خصوصا،ما كانت لتقوم،في نظر هؤلاء،لو لم تحدث قطيعة جذرية بين المفهوم القديم للعلاقة بالإنسان،والمفهوم الجديد،فبعدما كان الإنسان مقيدا بسلطة الوصايا المجتمعية والإبداعية التقليدية في أي تعريف له،أصبح في التعريف الجديد متحررا من هذه السلطة عبر تمرده عن السائد المنغلق،وتغيير مفهومه على المستوى الانطولوجي والأنثروبولوجي والإستيطيقي المنفتح على العوالم والأكوان المتعددة المشارب والتصورات والجماليات. الإنسانية والعالمية وترتبط الإنسانية في جوهرها بالعالمية،حيث يصبح الإنسان هو مركز الكون،بصفته يحمل المشترك بين الجغرافيات المتعددة والثقافات المختلفة والحضارات المتباينة ،ويكون هذا المشترك سبيلا للتفاهم والتعايش والتسامح والحوار والائتلاف في الحياة والجمال والقيم،عبر إبداع الأسئلة المسهمة في كشف هذا المشترك. وإذا أردنا أن نعرج قليلا في مفهوم الإنسانية في الشعر العالمي ،نجد ، دانتي أليغري في الكوميديا الإلهية الذي قال عنه ت،س،إليوت:إن دانتي وشكسبير اقتسما العالم بينهما،ولا ثالث لهما». حيث أَثَرُ الكوميديا يقدم أعظم مخيلة تَوَصل إليها الجنس البشري.فما قدمه دانتي هو الكون الأدبي الواسع الذي لا يمكن أن نتوسع فيه،أو نقلص منه.إنه تراث البشرية،وآخر حدود الخيال البشري ،إذ لا يمكن أن نضيف إلى العالم العلوي عالما آخر،ولا أن نجعل تحت العالم السفلي عالما آخر.ولذلك فإن قراءة الكوميديا هي قراءة تراث الإنسانية ،وخلاصة مخيلتها.على حد تعبير مترجم الكوميديا في مقدمة الكتاب «(5) ،وما أبدعه الشاعر الفيلسوف العربي جبران خليل جبران الذي قال: ،»أحبك ساجدا في مسجدك،وراكعا في هيكلك ومصليا في كنيستك أنا وأنت أبناء دين واحد،هو الحب .» والشاعر الهندي رابندرانت طاغور من خلال ديوانه»قفة الثمار»،الذي يتضمن حِكَما وأشعارا نثرية تَحُثُّ على رسائل قيمية كونية ذات صوت مفرد بصيغة جمع،حيث يقول في إحدى نثرياته «أيها الليل،الليل الذي أرخى سدوله،اجعل مني شاعرك.لقد جلس البعض، بكما، في ظلمتك، طوال عصور وعصور، فدعني أذيع اليوم أناشيدهم.»(6). والشاعر الألماني يوهان فولفغانغ غوته صاحب نظرية عالمية الأدب أو الأدب العالمي، حيث أثار هذه القضية وتخيل أن الآداب المختلفة ستجتمع كلها في أدب واحد كبير تقوم فيه الشعوب بدور الروافد التي تصب إنتاجها في هذا النهر الكبير أو الأدب العالمي.حيث كان غوته يؤمن بالإنسانية الواحدة ،كالبنيان يشد بعضه بعضا،تتعاون أفرادا وجماعات على طريق الحكمة ،وتسعى إلى الحق والخير والجمال،تنأى بنفسها عن الهمجية،وتستمسك بالقيم السامية ،بالتسامح والمحبة والسلام.فالفن الحقيقي حسب الشاعر الكوني غوته هو الشيء الذي يستطيع أن يوحد بين البشر، ويجمعهم على التفاهم والمحبة والاحترام والإنصاف، ويعد ديوانه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي»(7)، الذي أشاد فيه بطبيعة الإنسان وقواها،حيث يحمل طابع التفاؤل والإقبال على الحياة، ويدعو إلى المؤاخاة بين الأمم والشعوب. كما نجد الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث الذي كان ينطلق من هاجس الاتصال بالآخرين الذي كان يتآكله، مكتشفا أن الحب هو الوسيلة الوحيدة للتغلب على الوحدة،أو حسب تعبيره «القفز عن جدار العزلة». والشاعرة البولندية، فيسوافا شيمبوريسكا التي قالت:»أتعلم الصمت في كل اللغات».، والشاعر العربي أد ونيس الذي قال في كتابه «رأس اللغة ،جسم الصحراء،»الشعر حب يجعل الليل أقل ظلاما،والنهار أكثر شفافية» ،والشاعر الأرجنتيني روبرتو خواروث الذي قال «مصير الشاعر الحديث هو توحيد الفكر، المشاعر، المخيلة، الحب، الإبداع . وهذا كشكل حياتي وكطريق موصل إلى القصيدة.»(8). وآخرين. وفي الثقافة العربية الإسلامية، فإننا نستخلص،بأن الإنسانية تلتقي بالعالمية، ويتمثل ذلك في مناقشتها للإنسانية المستنبطة من الروح تارة، ومن الروح والجسد تارة أخرى، ومن القلب النوراني ومن السر الرباني وما شاكل ذلك في الوجدان والفكر والمادة والحياة، ويمكن أن نورد –على سبيل التمثيل لا الحصر- جواب الهجويري في محاولة تقديم تعريف لهذا المفهوم على المستوى العربي الإسلامي، حيث ردها إلى خمسة مذاهب في القول: «من حكماء العرب من حد الإنسانية بالروح عن الجسد بمعزل، ومنهم من حدها بالروح في اتصال بالجسد واتحاد، ومنهم من حدها بالقلب، ومنهم من حد»الإنسانية «بأنها سر إلهي أودع في جسد، ومنهم من حدها بالحياة.»(9). وقد بلغت أنظار حكماء العرب في شأن الإنسان مبلغ النزعة الإنسانية.وبحق قال الحكيم العربي: «وينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعود نفسه محبة الناس اجمع والتودد إليهم والتحنن عليهم والزلفة منهم والرحمة لهم-فإن الناس قبيل واحد متناسبون تجمعهم الإنسانية وتحلهم قوة إلهية في جميعهم وفي كل واحد منهم،وهي النفس العاقلة. وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا، وهي شرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد.والإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس. والناس كلهم بالحقيقة شيء واحد، وبالأشخاص كثير. وإذا كانت نفوسهم واحدة - والمودة إنما تكون بالنفس- فواجب أن يكونوا كلهم متحابين متوادين(....) فبحق يجب لمحب الكمال أن يكون محبا لجميع الناس،متحننا عليهم رؤوفا بهم.»(10) ومن الشعراء الذين تعاملوا مع مفهوم الإنسانية كما هي محددة سابقا،نذكر نماذج ابن عربي في ترجمان الأشواق الذي قال أبياته المشهورة: لقد صار قلبي قابلا كُلَّ صورة/ فَمَرْعًى لِغِزلانٍ ودِيرٌ لرُهْبانِ وبَيْتٌ لِأَوْثانٍ وكعبةُ طائفٍ / وألواحُ تَوْراةٍ ومُصْحَفُ قُرْآنِ أدينُ بدينِ الحُبِّ أنَّى تَوَجَّهَتْ/ رَكَائِبُهُ فالحب ديني وإيماني لنا أُسْوَةٌ في بِشرِ هندٍ وأُخْتِه/ا وقيسٍ وليْلى ،ثم مَيٍّ وغَيلانِ(11). وبهذا كله، تبقى إنسانية الشعر نابعة من القوة الحق النبيلة التي ليست هي الذات المتصارعة دوما، وإنما ما يسكن الذات الساعية إلى معانقة رسائل القيم السامية مثل الحب والعدالة والسلام والحق والخير وباقي الفضائل، المنبثقة من الاندفاعات الآتية من جميع المصادر، من المعيش المؤمن بالانفتاح على المعيش المختلف ومن الثقافة الأحادية والمتعددة ، ثقافة الأنا وثقافة الآخر، التي تصب كلها في نشر القيم السامية بكل درجاتها الدينية والدنيوية، ليبقى شعر الإنسانية مدخلا رئيسا لتحقيق ذلك، وقد عرف الشاعر الإنساني دوره بصفته إنسانا يحب ذاته ويحافظ عليها من كل مكروه، وأدرك أن تحقيق هذه الذات لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الموضوع الذي يتجسد في الآخرين، فهو ظل يشعر بإنسانيته عندما يجد صداها عند الآخرين. ولعل هذا ما جعل الشعر على المستوى العالمي أحيانا، في جوهره، واحدا في جميع اللغات مهما اختلفت المظاهر السطحية. هوامش: للتفصيل أكثر في هذه الفكرة، انظر كتاب الدكتور نبيل راغب، «موسوعة النظريات الأدبية»، الطبعة الأولى 2003، منشورات الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، مكتبة لبنان، ناشرون، من الصفحة ص51 إلى صفحة 54. 2 - شارل بودلير، اليوميات، ترجمة: آدم فتحي، الطبعة الأولى 1999، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا. 3 - انظر كتاب أرشيبالد ماكليش، الشعر والتجربة، ترجمة: سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة : توفيق صايغ، الطبعة الأولى 1963، منشورات دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت، ص73. 4 - يوسف الخال، «دفاتر الأيام»، الطبعة الأولى 1990، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، لندن، قبرص، بيروت، ص65. 5- المقصود هنا، المترجم حنا عبود، مقدمة كتاب الكوميديا الإلهية، الطبعة الأولى 2002، منشورات ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ص5-6. 6 - رابندرانت طاغور، قفة الثمار، ترجمة:سامي الرياشي، دون تاريخ، دون طبعة ،منشورات المطبعة البولسية ،جونيه، لبنان، ص29. 7 -حظيت مجموعة غوته الشعرية باهتمام خاص في الوطن العربي،فقد تولى عبدالرحمان بدوي ترجمتها إلى العربية،سنة 1944، بعنوان «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي ،ثم اصدر طبعة مزيدة مستكملة ممتازة في عام 1963،بالعنوان نفسه،وبعد ذلك قام الباحث والمترجم الراحل عبدالغفار مكاوي بتعريب هذه المجموعة الشعرية ضمن كتاب «النور والفراشة،رؤية غوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي،مع النص الكامل للديوان الشرقي،قدمه للعربية مع تعليقات وشروح الدكتور عبدالغفار مكاوي،الطبعة الأولى 2006،منشورات الجمل،كولونيا،ألمانيا،ص123. 8 - عبدالقادر الجنابي،الأنطولوجيا البيانية،في حد الشعر وتعريفه،دون طبعة ،2010،سلسلة «كتاب قصيدة النثر»،منشورات «الغاوون»،ثقافات «إيلاف»،بيروت،ص 179-180. 9 - الدكتور محمد الشيخ،كتاب الحكمة العربية،دليل التراث العربي إلى العالمية، الطبعة الأولى أيار/مايو 2008،منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر،بيروت،ص65. 10- المرجع نفسه، ص92. 11-محي الدين بن عربي،ترجمان الأشواق،الطبعة الأولى 1386ه-1966، منشورات دار صادر، بيروت، ص43،ص44.