يُعتبر المسجد الأعظم من أبرز المعالم التاريخية بمدينة القصر الكبير، ولا يُعرف تاريخٌ مدقق لبنائه، لكنَّ المؤرخين يرجحون أن يكونَ بُني في القرن الحادي عشر الميلادي، حسب المعلومات المضمنة في كتاب "القصر الكبير: صور تحكي"، لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالمدينة ذاتها. يُشيرُ شخص ألْفيناه في المسجد ذاته حين زيارتنا له إلى رُكنٍ قَصيّ، قالَ إنَّه كانَ مَقصدا ل"المظلومين" الذين يَفدون إليه من كلّ مكانٍ، بحْثا عن السكينة والطّمأنينة والصفاء الروحي، ومقصدا للتضرع إلى الله أنْ يُزيلَ عنْهم همومهم، مضيفا: "كانَ ذلك في سنوات خَلتْ، أمّا اليوم فلمْ يَعُد هذا الركن الذي لم تكن جنباته تُنارُ لإضفاء مزيد من السكينة عليه يقْصده المظلومون". المسجدُ الأعظم بمدينة القصر الكبير تُحفة فنّية تحفّها كثير من الأساطير، فأسُسه قائمة على حوْض مائي (مْطفيّة) كبير، نُسجتْ حوْله كثير من الحكايات، وتناقلَت عنه ألسُن أهل المدينة شائعات شتّى، فقيلَ إنَّ المكانَ يضمّ كنيسا، وقيلَ إنّه يحتوي على ضفادعَ عملاقة تسبح في مياهه، وأساطيرَ أخرى. وظلَّ الحوْض المائي محفوفا بهذه الأساطير إلى أنْ بدَّدها فاعلون في المدينة إبّانَ خضوع المسجد لإصلاحات سنة 1986.. "كانَ يُقال عن "المطفية" إنها تصلُ إلى نهرَ اللوكوس، وأنّ لها عددا من المنافذ، وحينَ نزلْنا إليها وجدْنا أنّ المكانَ عبارة عن حوض لجمْع المياه، ولمْ نلْفِ شيئا ممّا كانَ يُقال عنها من طرف العامّة"، يقول محمد أخريف، رئيس جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، الذي أشرف على عملية تنظيف "المطفية"، وأنجزَ كتابا كاملا من صور ومعلومات حولها. غيْرَ أن "المطفية" القابعة أسفل المسجد الأعظم، وإنْ لمْ تكنْ تحتوي على ضفادعَ عملاقة، ولا توجد بين جُدرانها أيّ علامات دالّة على أنّها كانت في ما مضى كنيسا، إلا أنَّ مياهها شاهدة على تاريخٍ يمتدّ لقرون، إذْ يُرجّح أنّها تعود إلى عهد المرينيّين، وهي الوحيدة الموجودة في المغرب، إلى جانب أخرى موجودة في مدينة الجديدة، خلّفها البرتغاليون؛ وتنفردُ الأولى بكونها بُنيتْ في الأسفل، بينما الثانية توجد في عل، حسب محمد أخريف. أثناء زيارتنا إلى المسجد، الذي لا تُؤدّى فيه صلاة الظهر إلا بعد مضي ساعة كاملة على رفْع الأذان، دلّنا شخص وجدناه بالمكان عينه إلى سارية بجانب المحراب، يضمُّ المسجدُ ثلاثا منها، ويُحْكى أنّه لا يُوجدُ مثيل لها في مكان آخر في المغرب. بيْنما قالَ أحدُ القيّمين على المسجد إنَّ إحدى الساريات كانَ ينبعث منها النور ليلا، قبل أن يتمَّ طلاؤها. لكنَّ أخريف اعتبرَ ذلك "مجرّد كلام". في كلّ رُكْن من أركان المسجد الأعظم بمدينة القصر الكبير ثمّة لُغْزٌ تحُفّه علامات استفهام. أسفلَ السقف، عندَ أحد المداخل، ثمّة نقش يحملُ كلماتٍ مكتوبة باللغة اللاتينية؛ يَدلّنا عليه مرافقنا، مُشيرا إليه بسبّابته، لكنّه لا يملكُ معلومات دقيقة حوْلَ سبب تواجُده على جدار الصومعة. ويُرّجِّح أنَّ المكان كانَ في ما مضى مَعبدا، جرى تحويله في ما بعد إلى مسجد من طرف المسلمين. سألْنا محمد أخريف، الملقّب ب"مؤرّخ القصر الكبير"، عن حكاية النقش المذكور، فأوضح لنا أنّ سبب تواجُده ضمْن لبنات صومعة المسجد الأعظم لا يعودُ إلى أن المكان كانَ في السابق معبدا، بلْ لأنَّ الأحجار التي بُنيت بها الصومعة كانتْ من مُخلّفات الرومان، مُشيرا إلى أنَّ "الحروف المنقوشة كُتبتْ باللغة الإغريقية، التي كانتْ لغةَ الحضارة في عهد الرومان، إذ كانت النقوش تُستعمل كشواهد للقبور". وإذا كانت النقوش المزيِّنة للمسجد الأعظم بمدينة القصر الكبير تشكّل لُغزا لغيْر الدارسين؛ فيما يفسّر بعضهم تواجدها في المسجد تفسيرات خاطئة، فهي، بالنسبة محمد أخريف مثلَ صفحاتِ كتابٍ في مادّة التاريخ؛ فحين عثر على نقش يعود إلى 291 ميلادية استخرج منه معلومة تُفيد بأن الوجود الروماني بقيَ في المنطقة إلى ما بعد 291، خلافا لما يقوله المؤرخون من كون وجود الرومان تقلص في المنطقة منذ 285 ميلادية. ولمْ يكُن المسجد الأعظم بمدينة القصر الكبير فضاء للعبادة وممارسة الشعائر الدينية فحسب، بلْ كانَ مدرسة للعلوم الشرعية؛ ذلك أنّ العالم أبا المحاسن الفاسي أنشأ به كرسيا للعلْم في القرن الحادي عشر الميلادي، وكانَ من أوائل كراسي العلم في المنطقة، ومنه تخرّج علماء كبار، ذهبوا إلى الأندلس وإلى مصر للتدريس. كما أنّ المسجد ذاته كانَ مُنطلق العمليات الجهادية في القرن السادس عشر الميلادي. ويختصر محمد أخريف هذا التاريخ العريق بالقول: "هُوَ مسجدُ تاريخ وعِلْم وكلّ شيء، ويُعتبر متحفا لمدينة القصر الكبير".