في كل شبْر من أرجاء مدينة القصر الكبير ثمّة قصة تاريخية تحكيها المآثر التاريخية العريقة التي تزخر بها المدينة؛ لكنّ البوْح بتاريخ المكان ما فتئ يخفُت رويدا رويدا، بل إنه يوشك على أن يتوقف، لأنّ الأماكنَ الناقلة تلاشى جزء كبير منها، وما تبقى منها يقف على شَفا الانقراض. كنز سياحي مُهمَل تكاد المآثر التاريخية بمدينة القصر الكبير تُعد ولا تحصى، ففي كل حارة ثمّة معلمة تاريخية، ولربما كانت مدينة “أوبيدوم نوفوم”، كما كانت تسمى قديما، تضمّ ما لا يوجد في أيّ مدينة مغربية أخرى من المآثر التاريخية؛ لكنّ اللافت هو أنّك لن تَلفي فيها ولو سائحا واحدا يستكشف هذه الكنوز. قد يبدو الأمر غريبا، لكنْ سرعان ما يتجلّى سبب عدم وفادة السياح على مدينة القصر الكبير، على الرغم من أنّ مُدنا مغربية أخرى تتوفر على مآثر أقل بكثير، يفد عليها آلاف السياح، من الداخل والخارج، بمجرد القيام بجولة على مآثرها التاريخية العريقة، إذ تبدو، جميعها، في حالة سيّئة للغاية جرّاء الإهمال الذي يهدد بطمْس معالمها وانمحائها من الوجود. يرى عدد من الفاعلين المدنيين والمواطنين، الذين التقيناهم في مدينة القصر الكبير، أنّ بإمكان مدينتهم أن تكون وِجْهة مُستقطِبة للسياح، خاصة المهتمين منهم بالسياحة الثقافية، مثل مدينة فاس، علما أنّ بعض النصوص تتحدث عن كون مدينة القصر الكبير تضمّ مآثر أقدمَ من تلك الموجودة في فاس. لا يُخفي محمد بدري، فنان تشكيلي، غضبه من الإهمال الذي طال ولا يزال المآثر التاريخية لمدينة القصر الكبير، ولا يجدُ من حيلة للتعبير عن هذا الغضب سوى أنه يقصد تلك الأماكن المهملة، حاملا معه ألوانه ويرسم على الأسوار المحيطة بها جداريات، علّ المسؤولين يتلفتون إلى أنّ تلك الكنوز بحاجة إلى مَن يصونها. في مَدخل الحي القديم وسط مدينة القصر الكبير، يوجد “درب الملاح”. في هذا المكان كان يقيم اليهود قبل هجرتهم إلى الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ما زالت تتردد في الحي تفاصيلُ ذكريات حول حياة اليهود وتعايشهم مع المغاربة المسلمين على ألْسُن بضع سيدات طاعنات في السنّ؛ لكنّ هذه الذكريات توشك على أن تتلاشى، لأنّ البُنيان الحاملة لها طُمستْ أو كادت. ثمّة بيعة كان يؤدّي فيها اليهود صلواتهم، وفي جزء منها حمّام صغير كانت تستحمّ فيها العرائس ليلة الزفاف، وبالقرب منه مكان يُغسل فيه الموتى قبل حملهم إلى مقبرة سيدي بلعباس. باب البيعة مغلق بسلسلة حديدية صدئة يَربط حلقتيْ طرفيها قُفل أصفر، أمّا داخلُها فقد تهدّم واستحال أطلالا تعجّ بالأزبال. يشير أحدُ سكان “درب اليهود” إلى سقفٍ بعرْض متْريْن، قائلا: “خلال فصل الشتاء الفائت سقط جزء من هذا السقف. تعبنا من المطالبة بإصلاحه؛ لكن لا حياة لمن تنادي”. قبل ذلك سقط جزء كبير من سور قديم قالت سيدة إنه كاد يُودي بحياة طفلتين لولا الألطاف الإلهية، ولا يزال ما تبقى منه يهدد حياة المارّة. يقول قاطنو “درب اليهود” الذين التقتهم هسبريس، إنهم تَعبوا من مناشدة المسؤولين بترميم الأبنية المهددة بالسقوط؛ لكنهم فقدوا الأمَل في أن تجدَ مناشداتهم آذانا صاغية من لدن من يعنيهم الأمر، وصار أملهم الوحيد هو أن يوفّر لهم المجلس الجماعي مبيدات للقضاء على الجرذان التي تتسرب من البيعة اليهودية إلى بيوتهم. تقول إحدى السيدات بغضب: “ننتظر شهرا كاملا على الأقل لنتوصل بالمبيدات”. مشهدٌ لا نظير له غير بعيد عن “درب اليهود”، يوجد “مزارُ سبعة رجال”، يقع بمقبرة سيدي الخطيب بطريق القطانين بحي باب الواد، وهو على شاكلة مزار سبعة رجال الموجود بمراكش. داخل هذه المقبرة يرقد سبعة رجال في قبر جماعي ذي لون أبيض تفصل بين مراقدهم حُدَب حادة. حسب المعلومات التي دوّنها محمد أخريف، الباحث في التاريخ عن “مزار سبعة رجال” بالقصر الكبير، فإنّ الرجال السبعة المدفونين هناك قد يكونون من المجاهدين من أسرة بني اشقيلولة بالقصر الكبير، الذين جاهدوا في الأندلس، أو من شهداء معركة وادي المخازن. يشبّه محمد أخريف القبر الجماعي ل”رجال القصر الكبير السبعة” بقبر الجندي المجهول المتعارَف عليه عند مختلف الشعوب، ويعبّر عن إعجابه بهذه المعلمة التاريخية كما كتب: “يخامرنا إحساس بأننا أمام مشهد متميز قد لا نجد له نظيرا في بقية المدن المغربية الأخرى”. لا يزال “مزار سبعة رجال” محافظا على رونقه، بخلاف باقي المآثر التاريخية في القصر الكبير. ويُرجَّح أنّ الفضل في ذلك يعود إلى كون مقبرة سيدي الخطيب، التي تضمّ المزار، يُدفن بها موتى بعض العائلات العريقة بمدينة القصر الكبير. في زقاق قريب من “مزار سبعة رجال”، توجد مَعلمة تاريخية أخرى، هي بيت القائد الحاج أبو سلهام. وبالمحاذاة من البيت المُغلقِ بابه الخشبي، يوجد سجْن لمْ ينْجُ بدوره من الإهمال الذي طال مآثر مدينة القصر الكبير. مآثر مدينة “أوبيدوم نوفوم” تُعد ولا تحصى؛ فهنا الجامع الأعظم، بتاريخه العريق الذي يُرجعه بعض المؤرخين إلى عهد الأدارسة، وبه نقائش رومانية، وقد كان مسرحا لعدد من الأحداث السياسية، ففيه اجتمعت ساكنة القصر الكبير لنصرة فلسطين سنة 1939، ومنه انطلقت مظاهرة 1956 ضد المحتل الأجنبي، حسب ما دوّنه المؤرخ محمد أخريف. وقد خضع المسجد الأعظم للترميم ما بين سنتي 1986 و1992. في الحي القديم بالقصر الكبير يوجد أيضا مسجد سيدي علي بن العربي الخيري. ويتميز هذا المسجد بصومعته السداسية، التي رجّح مصطفى العلالي، الباحث في التاريخ، أنْ يكون شكلها مُستلهما من الأبراج المسيحية، بعد طرد المسلمين من الأندلس. ذاكرة معركة وادي المخازن بمحاذاة المسجد الأعظم في حي القصبة، توجد معلمة تاريخية أخرى من معالم مدينة القصر الكبير. في هذا المكان يوجد بيت له دلالة رمزية كبيرة بالنسبة إلى جميع المغاربة، فإليه نُقلت جثة ملك البرتغال “دون سيباستيان”، بعد أن لقي حتفه في معركة القصر الكبير، أو معركة وادي المخازن. كان هذا البيت، الذي نُقل إليه جثمان “دون سيباستيان”، هو مقر قائد القصر الكبير، آنذاك، إبراهيم السفياني إبان معركة وادي المخازن في العام 1578 ميلادية، وهناك مكثت جثة الملك البرتغالي أربعة شهور، بعد تحنيطها بالجير وحفظها في تابوت خاص، إلى أن تمّ تسليمها إلى ممثلي ملك إسبانيا فيلب الثاني في مدينة سبتة بطلب منه. سُور مدينة القصر الكبير واحد من المعالم التاريخية للمدينة التي تتلاشى في صمْت. بُني هذا السور في العهد الموحدي. وحسب المعلومات التي دوّنها المؤرخ محمد أخريف، فقد كان هذا السور البالغ علوه ستة أمتار ويزيد عَرضه على المتر، يحيط بمدينة القصر الكبير في الثلث الأخير من القرن السابع عشر الميلادي. أما اليوم فقد أوشك على الاندثار، إذا لمْ يتبقّ منه إلا أجزاء قليلة ما زالت تقاوم، على الرغم من الإهمال. على بُعد أمتار من الجزء المتبقي من سور مدينة القصر الكبير في حي باب الواد، ثمّة معلمة تاريخية أخرى لم يتبقّ منها إلا القليل. يتعلق الأمر بمسجد البناتي، الذي انغمر في الأرض بسبب طمي الفيضانات ولم يعد يظهر منه إلا صومعته المرتفعة عن الأرض بحوالي عشرة أمتار، وتقترب، هي الأخرى، من أن تستوي مع الأرض وتنمحي. داخل هذه الصومعة يتجلّى الإهمال الفظيع الذي ترزح المآثر التاريخية تحت وطأته. نسي الناس الاسم الحقيقي للمسجد، وأصبح المكان يُعرف ب”صومعة البنات”، والسر وراء هذه التسمية هو أنّ الصومعة صارتْ قِبْلة للفتيات الراغبات في الزواج، حيث يصعدن إلى أعلاها، وهناك يُوقدن الشموع، ويتخلصن من ملابسهن الداخلية، في مشهد بشع، يجسّد، بشكل جلي، واقع المآثر التاريخية بالقصر الكبير. تطل “صومعة البنات” على دار الدباغ. المكان شبيه بدار الدباغ بفاس؛ لكن من حيث الاسم فقط، أمّا الشكل فلا مجال للمقارنة بين المكانين. فإذا كانت دار الدباغ بفاس تستقبل السياح الوافدين من كل بقاع العالم، فإنّ نظيرتها بمدينة القصر الكبير يتطلب الولوج إليها صبْرا كبيرا. المكان يعجّ بالأزبال، وتنبعث منه روائح كريهة يصعب تحمّلها. الإهمال والتخريب لم يستثْن حتى الأضرحة في مدينة القصر الكبير. يبدو ضريح الولية الصالحة للا فاطمة بين أحمد بنت الحسين الجباري مصبوغا بلون أبيض ناصع؛ لكنّ داخله يكسوه السواد. تُطلّ من نافذة بشباط حديدي، فيصدمك منظر قبر الولية الصالحة وقدْ تمّ العبث به، وتحفّه أتربة وأزبال من كل مكان. في انتظار ملايير الترميم يعترف محمد السيمو، رئيس المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير، بأنّ المآثر التاريخية للمدينة كانت عُرضة للإهمال من لدن المجالس الجماعية السابقة. وقال السيمو، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إن “القصر الكبير هي أقدم حاضرة مغربية حسب بعض النصوص التاريخية، للأسف ما عرفتش كيفاش هاد الإهمال اللي هملوها”. ووعد رئيس المجلس البلدي للقصر الكبير بأنّ المجلس سيعمل على ترميم المآثر التاريخية في المدينة عما قريب، مشيرا إلى أنّ المجلس مهّد لهذه العملية بتشوير المعالم التاريخية، بشراكة مع مؤسسة الجامعة للجميع، وأنجزَ كتيّبا وشريطا وثائقيا يعرّف بهذه المعالم. وحسب إفادة محمد السيمو، فإنّ المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير أبرم اتفاقية إطار مع كل من وزارة الثقافة ووزارة السياحة والمجلس الإقليمي ومجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة ووزارة الأوقاف، بقيمة أربعة ملايير و200 مليون درهم، تم تمريرها في دورة المجلس البلدي، وتنص على ترميم مآثر القصر الكبير، وموقع الملوك الثلاثة وموقع عبد المالك السعدي والمنصور الذهبي بجماعة السواكن، ومعالم ليكسوس بالعرائش. وسيقدم المجلس الإقليمي مساهمة بمبلغ عشرة ملايين درهم (مليار سنتيم)، وتصل مساهمة وزارة الثقافة إلى 11 مليون درهم (مليار و100 مليون سنتيم)، بينما سيساهم المجلس البلدي بخمسة ملايين درهم (500 مليون سنتيم)، علاوة على مساهمة وزارة السياحة، على أن تتولى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ترميم ضريح مولاي علي بوغالب وعدد من المساجد، كما سيتم ترميم عدد من الفنادق بالمدينة القديمة. صفقة أخرى أبرمها المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير مع وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، بقيمة 3 ملايير و600 مليون سنتيم، من أجل ترميم واجهات المدينة القديمة. محمد السيمو ذهب إلى القول إنّ “الناس الذين سيّروا مدينة القصر الكبير قبْلنا، تعاملوا مع المآثر التاريخية وكأنهم طالبان (يقصد حركة طالبان الأفغانية التي دمّرت المآثر التاريخية لأفغانستان إبّان سيطرتها”)، مضيفا “لقد دمّروا حديقة السلام، ودمروا سينما المنصور، ودار سيدي الوفي”. وأوضح المتحدث ذاته أنّ المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير بمساعدة وزارة الثقافة، سيقتني دار سيباستيان (البيت الذي مكث فيه جثمان ملك البرتغال، دون سيباستيان، بعد مقتله في معركة وادي المخازن)، بقيمة 4.25 ملايين درهم، وسيتمّ تحويل هذه المعلمة التاريخية إلى دار للضيافة لاستقبال زوار المدينة القادمين من الخارج، كما ستُعقد بها لقاءات ثقافية. وأكد رئيس المجلس البلدي للقصر الكبير أنّ المجلس يسعى إلى تسجيل أبرز المآثر التاريخية التي تزخر بها المدينة كتراث عالمي لدى منظمة اليونسكو، حيث وُضعت الورقة الأولية لهذا الغرض بمعية مدير التراث بوزارة الثقافة، مضيفا “كل المعالم التاريخية بالمدينة ستُرمّم، لأنها كنز ثمين ينبغي صيانته”.