تكتنف المنظومة القانونية الدولية، منذ انتهاء الحرب الباردة1، تحولات بنيوية شملت محتواها و وسائل تطبيقها. و يتجه المجتمع الدولي نحو التخلي، تدريجيا، عن القانون الدولي التقليدي، القائم على مبادىء عدم التدخل في شؤون الدول و اعتبار التوافقات بينها و المستمدة من المعاهدات الثنائية و متعددة الأطراف التي تبرمها، المصدر الأساسي للقانون، و تعويضه بقانون دولي يحترم وضعية الإنسان و يضمن القوة الإلزامية الفعلية للنصوص القانونية المتصلة بحقوقه. إن تكريس القوة الإلزامية للقانون الدولي " الجديد " نابع، أساسا، من تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان. و قد أثرت الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان، بصورة مباشرة، على القانون الدولي الذي انتقل من مجرد أداة للتأطير التوافقي و المُتَفاوَض بشأنه للعلاقات بين الدول، إلى توفير أدوات حقيقية لضمان احترام الحقوق الفردية و الجماعية بأجيالها الثلاثة. و استنادا إلى الدور المتعاظم الذي تقوم به الفعاليات المجتمعية (الحركات الاحتجاجية، ضغوطات جمعيات و منظمات المجتمع الدولي سواء الدولية منها أو المحلية ) قصد ضمان اعتراف فعلي بالجيل الثالث من حقوق الإنسان، ظهر وعي عالمي بضرورة حماية البيئة باعتبارها ملكا مشتركا لجميع البشر في الحاضر و المستقبل2. و يشير الإنتشار المطرد للفعاليات المجتمعية، المحلية و العالمية، التي تطالب بحماية التوازنات البيئية، إلى أن المجتمع الدولي أدرك جيدا أن استفادة الأفراد من الحقوق السياسية و الإقتصادية (التي تجسد الجيلين الأول و الثاني لحقوق الإنسان ) تستوجب فضاء عالميا يوفر للحق في السلم و البيئة حماية ملموسة. إن الحق في بيئة سليمة و الحق في عالم يسوده السلم يمثلان الركيزة الكبرى للتنمية المندمجة التي تتحقق من خلال نشاط تشريعي قادر على خلق نصوص تشريعية تضمن الحق في بيئة سليمة، و تقيد الإستثمار بشرط احترام البيئة من جهة، و من خلال نشاط اقتصادي تلتزم فيه الشركات بوضع حماية التوازنات البيئية في مقدمة شروط الإنتاج من جهة أخرى. و يكون، في المحصلة، ضمان الحق في البيئة السليمة، كأبرز حق أقره الجيل الثالث لحقوق الإنسان إلى جانب الحق في عالم آمن، مسؤولية مشتركة بين ثلاثة فاعلين أساسيين : الدولة ؛ رجال الأعمال ؛ المجتمع المدني. و نظرا للتأثير الفعال للفعاليات المجتمعية ( من خلال مؤسسات المجتمع المدني ) في تطوير الأدوات القانونية المتصلة بحماية البيئة، و نظرا لإرتباط الحد من تغير المناخ بالإقتصاد عبر ضرورة التقليل من نشاط بعض المؤسسات الانتاجية المضر بالتوازنات البيئية، فإن اتفاقية الأممالمتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، و التي يعد مؤتمر الأطراف Conférence des Parties (Cop) جهازها الأسمى، اعتمدت إدارة القرب كوسيلة محورية لتفعيل مقتضياتها. و يتجلى استدماج البعد الترابي من قبل واضعي الإتفاقية الإطارية في اقرار مبدأ التشريع البيئي الواقعي، و في اعتماد الجماعة الترابية كمستوى ترابي للتطبيق الأنجع للمقتضيات القانونية الرامية إلى حماية التوازنات البيئية. أولا : إقرار مبدأ التشريع الواقعي. تبعا لإقرار الإتفاقية الإطارية بسيادة الدول في التعاون الدولي المُوَجه للحد من التغيرات المناخية، جرى اعتماد مبدأ الواقعية التشريعية. و يجيز هذا المبدأ للدول اعتماد النصوص القانونية المنسجة مع قدراتها و خصوصياتها الاقتصادية و الترابية، ذلك أن الإمكانيات التي يمكن أن تعبئها الدول المتقدمة لضبط التغير المناخي تختلف، من حيث الحجم و الفعالية، عن الإمكانيات التي يمكن أن ترصدها الدول النامية، كما أن المناطق التي تتسبب في استشراء التغيرات المناخية يهيمن عليها الطابع الصناعي و تشكل ركائز اقتصادية بالنسبة للدول التي تنتمي إليها. تلافيا للإنعكاسات الاقتصادية لمجهودات الحد من التغيرات المناخية و التي تستوجب تخفيف أنشطة بعض المؤسسات الإنتاجية، خصوصا الوحدات الصناعية التي تستخدم الغازات المحفزة للإحتباس الحراري، اعترفت الإتفاقية الإطارية بالبعد الواقعي للتشريعات الوطنية المتصلة بالحد من التغيرات المناخية و الذي تشبثت به الدول حفاظا على نسيجها الإنتاجي. و يلاحظ، عموما، أن الدول ترفض دفع تكاليف اقتصادية باهظة في سبيل انقاذ التوازنات البيئية، فالمشكلات الاقتصادية تؤثر سلبا على الأمن الاجتماعي بينما التغيرات المناخية لا تتسم بالتأثير الآني3. و ينبغي التأكيد على أن الدول المتقدمة، التي حققت ثورتها الصناعية منذ القرن 19، هي التي تتوفر على البنيات الصناعية الثقيلة وهي التي تتحمل، بالنتيجة، القسط الأكبر من مسؤولية إلحاق الضرر بالتوازنات الإيكولوجية. إن إدراج مبدأ التشريع الواقعي ضمن مرتكزات الإتفاقية الإطارية، التي تعد نواة القانون الدولي المخصص لمكافحة التغير المناخي، يكشف أن جهود تقنين حماية البيئة تصطدم بسؤال مصيري : هل ينبغي إعطاء الأولوية للبيئة أم الإقتصاد ؟ و باستقراء سلوكات بعض القوى الاقتصادية الكبرى يمكن أن نستشف أن المجتمع الدولي يتحاشى القيام باختيار نهائي. فالولايات المتحدةالأمريكية، رغم نشاطها الصناعي الذي يفرز بكميات هائلة الغازات المفضية للإحتباس الحراري، انضمت إلى بروتوكول كيوتو4 المتعلق بتخفيض استعمال الغازات المحفزة للإحتباس الحراري ثم غادرته، كما أن معظم القوى الاقتصادية الصاعدة (روسيا، الصين، دول أمريكا الجنوبية ) تعتمد قدراتها الاقتصادية على الأنشطة الصناعية المفرزة للغازات المضرة بالبيئة، و هذا ما يؤدي إلى ضآلة الآثار الواقعية للإجراءات القانونية الهادفة لمكافحة التغير المناخي. اعتبارا لصعوبة تفعيل المقتضيات القانونية المتصلة بالمناخ على مستوى الدول، حاولت الإتفاقية الإطارية و النصوص المنبثقة عنها تفويض جزء هام من مسؤولية الحفاظ على التوازنات الإيكولوجية إلى الجماعات الترابية. ثانيا : التدبير اللامركزي لأزمة التغيرات المناخية. منحت الإتفاقية الإطارية للدول الأعضاء الحرية في وضع السياسات الوطنية المنسجمة مع أهداف محاربة التغير المناخي و تحقيق التنمية المستدامة، من خلال المزاوجة إلى الحد الممكن عمليا 5 بين الحفاظ على البيئة و تحقيق التنمية الاقتصادية. و يلاحظ أن الإتفاقية الإطارية في شموليتها لم تجعل من الإخلال بالإلتزامات محركا للمسؤولية القانونية وفق القانون الدولي، بل إنها لم تمهد له عبر وضع الأسس الأولية لما يمكن أن يشكل، فيما بعد، ضررا بيئيا يحرك المسؤولية القانونية لمقترفه. نظرا لإمتناع الدول عن وضع تعريف قانوني واضح ل " الضرر البيئي " و ذلك حفاظا على أنسجتها الإنتاجية، تم التوجه إلى مستوى الجماعات الترابية، وفق نظام التدبير الإداري للتراب الذي تشتغل به كل دولة، قصد توسيع فرص النجاح العملي لمجهودات مكافحة التغير المناخي. و قد حثت المادة السادسة6 من الإتفاقية الإطارية، صراحة، على ايلاء الفرصة، حسب الممكن القانوني و السياسي و الاقتصادي الخاص بكل دولة، للجماعات الترابية قصد تمكينها من الإسهام في جهود تقليل أخطار التغيرات المناخية. و لتكريس توجه الإتفاقية الإطارية نحو التدبير الترابي اللامركزي لأجرأة الجهود الدولية الرامية إلى الحد من التغير المناخي، تم اعتماد خطة عمل تحت اسم : L'Agenda 21 و ذلك في أعقاب مؤتمر الأرض الذي انعقد بريو دي جانيرو في يونيو 1992. و قد حددت خطة العمل مجالات التنمية المستدامة التي ينبغي أن تتم أجرأتها على صعيد الجماعات الترابية في مكافحة الهشاشة و توفير خدمات الصحة و السكن و التطهير. كما ركزت خطة العمل على حماية و تأهيل الرصيد المائي و الغابوي و الفلاحي لكل جماعة ترابية، كمساهمة منها في الجهد الوطني لتحقيق التنمية المستدامة7. و قد تفاعلت العديد من الدول-الأطراف مع خطة العمل عبر اصدار تشريعات تعزز اللامركزية الترابية و تسند إلى الجماعات الترابية أجرأة الجانب الخدماتي من السياسة الوطنية للتنمية المستدامة المعتمدة في كل دولة. و أخيرا، يمكن القول إنه لا شك أن الإهتمام الوطني و العالمي بالمخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية يتصاعد باطراد، و هو ما يثبته تعدد اللقاءات الرسمية و العلمية و المجتمعية الهادفة إلى التحسيس بالأهمية المصيرية التي ينبغي ايلاؤها للتوازنات البيئية، و يثبته، أيضا، تعدد النصوص القانونية التي تكرس حماية البيئة و الحد من الأخطار المحدقة بها. بيد أن الحماية الفعلية للبيئة تستوجب اضفاء القوة الإلزامية للترسانة القانونية، كما تستوجب تبني اجراءات عملية وقائية و ردعية، و الإيمان بأنه من الممكن تحقيق الإقلاع الاقتصادي و الصناعي دون الإساءة للبيئة، و هذا ما نترقب أن يساهم انعقاد مؤتمر الأطراف COP 22بمراكش في تدعيمه عبر تبني مخرجات قابلة للتطبيق و تترجم توافقا مستقرا بين الدول و رجال الأعمال و فعاليات المجتمع المدني. 1- تجدر الإشارة إلى أن معظم النصوص القانونية، سواء الدولية أو الوطنية، المتعلقة بحماية التوازنات البيئية و الحد من التغيرات المناخية، قد ظهرت أواخر ثمانينيات القرن الماضي و هي الفترة التي عرفت تزايد الإهتمام بحقوق الإنسان المنتمية إلى الجيل الثالث ( الحق في بيئة سليمة و الحق في عالم آمن ) التي تستوجب تطوير أدوات التعاون الدولي من أجل حمايتها. 2- القرار رقم 169/46 الصادر عن الجمعية العامة لمنظمة الأممالمتحدة بتاريخ 19 دجنبر 1991 بشأن حماية المناخ العالمي لمنفعة أجيال البشرية الحاضرة و المقبلة. 3- اعترفت الإتفاقية الإطارية بأن : " الطابع العالمي لتغير المناخ يتطلب أقصى ما يمكن من التعاون من جانب جميع البلدان (...) وفقا لمسؤوليتها المشتركة و إن كانت متباينة و وفقا لقدرات كل منها و ظروفها الإجتماعية و الاقتصادية ". 4 -يعتبر بروتوكول كيوتو الذي تم اعتماده في مؤتمر الأطراف الثالث COP 3 باليابان نصا قانونيا إلزاميا يفرض على الدول التي صادقت عليه تخفيض انبعاثاتها من الغازات السامة. جدير بالذكر أن توقيع بروتوكول كيوتو تم سنة 1997 و لم يدخل حيز التنفيذ إلا سنة 2005 أي بعد مضي ثماني سنوات على توقيعه، كما أن عددا ضئيلا من الدول الصناعية صادقت عليه و هو ما يجعل آثاره الواقعية محدودة. 5 -الفقرة (و) من المادة الرابعة لاتفاقية الأممالمتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. 6- تنطوي المادة السادسة على حزمة من الاجراءات التي يتعين تنفيذها على " الصعيد الوطني (...) و حيثما كان ملائما على الصعيدين دون-الإقليمي و الإقليمي (...) " و يعتبر التنصيص على الصعيد أو المستوى الوطني و دون-الإقليمي تحفيزا على اعتماد االتدبير الترابي اللا-مركزي لتنفيذ مقتضيات الإتفاقية الإطارية. 7- بالرجوع إلى المادة 83 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات و غيرها من المواد المتصلة باختصاصات الجماعات، نلاحظ أن أغلب الإجراءات التي اقترحت خطة العمل المنبثقة عن مؤتمر الأرض بريو دي جانيرو لسنة 1992 اسنادها إلى الجماعات الترابية قد أناطها المشرع التنظيمي المغربي بالجماعات الترابية، و إن كان لم يصرح بضرورة احترام البعد البيئي ضمن مسلسل صناعة القرار العمومي اللا مركزي، فإنه فرض على الجماعات الترابية خلال مزاولة اختصاصاتها التقيد بالإستراتيجيات الوطنية و من بينها الإستراتيجيات المتصلة بمجالات التنمية المستدامة و النجاعة الطاقية و غيرها.