لقد ولى الزمن الذي كان فيه الساسة كالبنيان المرصوص يشد بعضه البعض. كانوا فعلا زعماء سياسيين يصمدون في وجه كل من سولت له نفسه التطاول عليهم أو على أحزابهم أو على من ينضوون تحت لوائهم من مناضلين ومتعاطفين اختاروا عن طواعية واقتناع تأطير المواطنين لما فيه مصلحة "العباد والبلاد" لا يريدون جزاء ولا شكورا بل كان وازعهم الوحيد هو الدود عن حوزة الوطن والدعوة إلى تحسين تدبير الشأن العام جاعلين مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. إلى وقت قريب ظل المسؤول السياسي حريصا على أن يكون نموذجا في الأخلاق أولا ومقتنعا حتى النخاع بالمبادئ النبيلة لا تزحزحه قيد أنملة لا الإغراءات البراقة ولا المساومات المتعددة المصادر ولا التهديدات المتكررة التي قد تفقده إما مصداقيته لدى كل الجهات أو في بعض الحالات تفقده حياته. كان آنذاك القائد السياسي المحنك يحسب له ألف حساب ويصغى إلى خطابه بتمعن وتؤخد أفكاره بعين الاعتبار حتى ولو كان معارضا للنظام القائم. كان السياسي من هذا الطراز يضحي بالغالي والنفيس من أجل أن تبقى راية حزبه عالية لا تشوبها شائبة. كثيرون هم نساء ورجال السياسة الذين صمدوا في وجه خصومهم مفضلين التشبت بالقيم النبيلة بدل الارتماء في أحضان الفساد وتطلب منهم ذلك قضاء عدة سنوات من عز شبابهم في غياهب السجون بل منهم من تعرض للتصفية الجسدية على يد من كانت تزعجهم أفكارهم. أينكم؟ يا من كنتم لا تخشون لومة لائم في الجهر بالحق كيفما كان الثمن الذي كان ينتظركم! أنهضوا من قبوركم، ولو لهنيهةفقط، لتروا وتسمعوا وتستنكروا ما آلت إليه السياسة في بلد أصبح فيه الجري نحو الكراسي من أجل التنافس على اقتراف الجرائم في حق الوطن والمواطنين المستضعفين ومن أجل السباق لضرب الأرقام القياسية في الفضائح، الرياضة المفضلة لساستنا النبلاء. من المؤسف أن يصبح الساسة حتى لا أقول "السوسة" في زمننا هذا كالبنيان الآيل للسقوط لا لشيء، فقط لأنهم فقدوا المناعة التي تقف حجرة عثرة أمام من يريد إذلالهم بعدما كانوا علية أحزابهم. كيف لهم أن يصمدوا وقد أصبحت فضائحهم تتداول من طرف الخاصة والعامة؟ أين المصداقية والنزاهة والكرامة وعزة النفس التي كان يتحلى بها السلف الصالح من الأعضاء القياديين المقتدرين والتي كانت بمثابة مناعة سياسية تقيهم شر الراغبين في إركاعهم وتدنيسهم؟ ما العمل يا سادة وماذا عسانا فعله حتى نعيد للسياسة نبلها وعزها وأمجادها وللمناضالات والمناضلين مصداقيتهم ونزاهتهم وتضحياتهم؟ لا يسعني في الختام إلا أن أقتبس قول أمير الشعراء، أحمد شوقي:"وإنما الأحزاب الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاق قادتهم ذهبوا". وفي انتظار تفاعلكم، أرجو ألا يفهم من كلامي العفوي هذا أني أسعى به للتهجم على شخص ما، بل هدفي الوحيد هو محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه لمواصلة الإصلاح. *عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية