استكانت كجمولة خلف الصفوف، وعينها تراقب عن كثب مجريات النقاش المفتوح والصريح داخل لجنة المؤسسات والجماعات المحلية والقضية الوطنية، منصتة كعادتها إلى كل التدخلات باهتمام شديد، من موقع حرصها على الاستفادة من كل الانتقادات والأفكار التي قد يحملها هذا التدخل أو ذاك. مرة تنحني جانبا لتسترق لحظات مع إحدى الجالسات بجانبها، أو تهز رأسها وهي تعلن تبني موقف هذا أو ذاك، وهو الاتجاه الغالب، وحينا ترتسم في وجهها ابتسامة حتى وإن كان النقد موجها لها وفي داخلها يصدح صوت يكاد يقول مرحى لكم على صدقكم. مضت أربع تدخلات كانت نوهت بمجهوداتها التي بذلتها خلال أزمة مخيم «اكديم إزيك» وتتبعها لمجريات الأحداث منذ بدايتها، وأشادت بموقفها وآرائها حول طريقة تدبير الأزمة، بين لحظة وأخرى يخال للمرء أن ما كانت تنتظره من عرفان على كل ما قامت به يأتي من القاعة، ليعيد تأكيد اللحظات القوية لدعم الحزب والمكتب السياسي لموقفها الشجاع. انتظرت لجنة المؤسسات والجماعات المحلية والقضية الوطنية إلى ما بعد ساعة من انطلاق أشغالها، عند التدخل الرابع، الذي خالف التوجه الذي سار فيه النقاش، عندما كال سيلا من الاتهامات في حق عضوة الديوان السياسي والنائبة البرلمانية كجمولة منت ابي، ووصف نتائج تعاطيها مع الأحداث الأخيرة بالعيون بالوخيمة على الحزب، واعتبر طريقة تدبيرها لمطالب المواطنين من موقعها كنائبة برلمانية، طريقة فاشلة. وقتها لم يكن واردا أن تتدخل النائبة كجمولة في النقاش، لأن لا شيء يستدعي ذلك، وفي لحظة غبن كأن أركان الخيمة اهتزت وتداعى بنيانها، وبعد سيل الاتهامات التي شنفت مسامعها أخرجتها من لحظات الانتشاء والتأمل السياسي، فبادرت إلى التدخل. جاء صوتها متهدجا وهي تصرخ ملء فمها «لا» وألف لا، لن أقبل أن يستغل أي كان موقعه ما قمت به، ولن أقبل السكوت عن قول الحق الذي جبلت عليه، ولن أقبل أن تضيع مصداقيتي أمام نزق طفولي لمن يريد أن يحطم سمعة الحزب ومكانته في رمال الصحراء. لا ولا و لا.. كررتها أكثر من مرة حتى غدت القاعة كلها تردد معها عبارة لا ويتراجع صداها إلى الآذان كأنه الوقر. «لم أكن أريد أيها الرفاق التدخل»، بهذه الكلمات بدأت مداخلتها، قبل أن تسترسل في الكلام بالقول «إلا أنني أحسست أني معنية بتدخل من سبقني. وكما لم تقبل كجمولة، المؤمنة بما قامت به حد القداسة، قداسة القضية التي تناضل وتكافح من أجلها، السكوت عن فضح التدبير السيء لملف المخيم، لم تقبل بكل ما أوتيت به من قوة أن يصطف رفاق لها وراء من «يخونونها ويشككون في وطنيتها» عوض، ليس مساندتها، ولكن التروي في تبني مثل هذه الادعاءات المغرضة. لم يكن تدخل كجمولة رد فعل اعتباطيا، ولم تكن تتحدث من فراغ اليائس الذي يرقب بارقة أمل في الأفق المعتم، بل كل كلماتها كانت موزونة ومثيرة ومؤثرة، لم تحتج معها لأي ترتيب مسبق أو تنميق لاستدرار تعاطف الحضور، جاءت منسابة مسترسلة تتدفق مثلما تتدفق مياه نهر جارف، الفرق أن كلماتها لم تحدث خسائر لا في البلاد ولا في العباد، ولكنها وصلت إلى قلوب العقلاء قبل عقولهم، واخترقت عواطف كثيرة، واغرورقت عيون هنا وهناك بالدموع، تنهمر مدرارا من رجال غزا الشيب أهدابهم. ومع أن الرجال لا يبكون في أغلب الأحيان، إلا أن كلمات كجمولة وهي ترفع صوتها بقول «لا» حفاظا على سمعتها وسمعة حزبها، وعلى مصداقيتها التي لا تنفصل عن مصداقية الحزب، أسالت الكثير من دموعهم. وانحنت هامات كثيرة تبجيلا لهذه المناضلة التي آثرت الدفاع عن المصالح التي آمنت بها عن كل المتع والمصالح التي لو قبلت نهج سبيل آخرين لكان حالها أفضل مما هو عليه الآن، لو استكانت إلى أسلوب الريع والارتزاق «لكنت أملك فيلات ومآرب أخرى، ولاشتغلت في ميدان الأعمال أدير أعمالي بدل ركوب أهواء السياسة» على حد تعبيرها. ولمن لا يعرفها أو يتظاهر بأنه لا يعرفها عن حق، ثارت العائدة إلى الوطن عن قناعة راسخة، الساعية إلى ترسيخ الممارسة الديمقراطية بهذه البلاد، وهي تؤكد أنها لو كانت ترغب في تحقيق مكاسب مالية أو تصيب مكاسب شخصية ما اختارت أن تنخرط في العمل السياسي، وما اختارت أن تحط الرحال بحزب اسمه «حزب التقدم والاشتراكية»، لأنها تعلم علم اليقين أن مناضلي الحزب ليسوا من النوع الذي يمارس الابتزاز السياسي للوصول إلى مآربهم الذاتية. ما بين الحقيقة والادعاء خيط رفيع أوهن أن يصمد إلى ما لا نهاية، ولم تكن كجمولة تحتاج من يعطيها الدروس في الوطنية أو لشهادة ميلاد سياسية أو حزبية وهي التي خبرت خبايا التنظيم لما كانت إطارا سياسيا في الطرف الآخر، ولكنها تركت موقعها لنفس الأسباب التي تواجهها اليوم، وهاجرت ما كانت عليه، اختارت موقعا للدفاع عن مبادئ آمنت بها ولا زالت تؤمن بها، على حساب استقرارها العائلي والأسري، مسلحة بإيمانها بعدالة ووجاهة ما تقوم به، مستنيرة بتوجهات زملائها في قيادة الحزب. لا تخشى لومة لائم أن تجهر بالحق وأن تقول للشيطان « أنت أعمى عن رؤية الحقيقة».