قام الملك محمد السادس بجولة في شرق إفريقيا في النصف الثاني من شهر أكتوبر الماضي، شملت رواندا وتنزانيا هي الأولى له إلى المنطقة منذ اعتلائه العرش في سنة 1999. ومنذ وصوله إلى السلطة، أعلن الملك محمد السادس عن إستراتيجيته بعيدة المدى لإعادة توحيد المغرب مع عائلته الإفريقية، مع تحديد الهدف النهائي والمتمثل في لعب دور رائد في القارة. وبسبب مسألة الصحراء المغربية وأثرها على العلاقات الدولية للمغرب على الصعيدين الإقليمي والعالمي، كان العاهل المغربي على علم بأن مهمته ستكون شاقة؛ لكنه اختار المضي قدما بخطى تدريجية واثقة. وكانت المرحلة الأولى من إستراتيجيته هي إعادة توطيد العلاقات المغربية مع حلفائها التقليديين في غرب إفريقيا. وبعد قيامه بأكثر من 25 زيارة إلى بلدان غرب إفريقيا، والتي استطاع المغرب من خلالها تعزيز علاقاته الاقتصادية والسياسية مع دول مثل الغابون والسنغال وكوت ديفوار، وكذلك حشد دعم هذه الدول لموقفه من الصحراء؛ باشر العاهل المغربي الشروع في المرحلة الثانية من إستراتيجيته. وكانت سياسة "الكرسي الفارغ" التي اعتمدها المغرب منذ مغادرته لمنظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليا) قد ألحقت أضراراً كثيرة لمكانته في القارة وموقفه من الصحراء المغربية؛ فالمسؤولون المغاربة يدركون تماما أنه من أجل إحباط مخططات الجزائر لتقويض موقف المغرب بشأن الصراع، يتوجب على الرباط عدم الاقتصار على التعامل مع الحلفاء التقليديين، بل كذلك الوصول إلى بلدان معروفة بدعمها لجبهة البوليساريو، والخطوة الأهم هي العودة إلى الاتحاد الإفريقي. الخطوات الأولى نحو رجوع المغرب إلى مكانه الطبيعي وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في شهر يونيو الماضي عندما استقبل الملك محمد السادس الرئيس الرواندي بول كاجامي في الرباط. وكان الترحيب الحار الذي استُقبل به الزعيم الرواندي إشارة إلى بداية عهد جديد ليس فقط في العلاقات بين رواندا والمغرب، ولكن أيضا بين المغرب وبين إفريقيا الناطقة بالإنكليزية. وقد أخذ هذا التوجه في السياسة الخارجية بعدا أكبر بعد إعلان العاهل المغربي في رسالة إلى قمة الاتحاد الإفريقي، التي انعقدت في 18 يوليو في كيغالي (رواندا) عزم المغرب على العودة إلى الاتحاد الإفريقي. وأعقب هذا الإعلان الطلب الرسمي الذي قدّمه المغرب إلى الاتحاد الإفريقي في شتنبر الماضي. ومباشرة بعد إعلان المغرب عن قرار العودة إلى عائلته الإفريقية، تعالت أصوات بعض المتتبعين والمحللين المغاربة إلى أن الرباط يجب أن لا تعود إلى المنظمة ما لم يعلق الاتحاد الإفريقي عضوية ما يسمى ب"الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية". ويقول هؤلاء المتتبعون بان جلوس المغرب على طاولة واحدة مع هذا الكيان الوهمي يعتبر اعترافاً ضمنياً به. على العكس من ذلك، ينبغي التأكيد على ضرورة عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بغض النظر عن ما إذا كان قد جرى تعليق عضوية "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" أم لا. الخطوات التي اتخذها المغرب في الأسابيع الأخيرة تشير إلى أنه عاقد العزم على القطع مع سياسة "الكرسي الفارغ" التي اعتمدها على مدى العقود الأربعة الماضية. فقد اقتنع المسؤولون المغاربة بأن أفضل طريقة لمحاربة البوليساريو وأنصارها هي من داخل الاتحاد الإفريقي. وتؤكد جولة الملك محمد السادس الأخيرة إلى شرق إفريقيا، والتي لها علاقات دبلوماسية مع البوليساريو، هذا التوجه في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من أن 28 بلدا إفريقيا قدموا اقتراحا يدعو إلى تعليق عضوية البوليساريو، فإن هذه الخطوة ليست كافية لتحقيق طرد البوليساريو من الاتحاد الافريقي، إذ إن المغرب في حاجة إلى أغلبية الثلثين ليتمتع بحق الدعوة إلى تعديل ميثاق الاتحاد الإفريقي بالشكل التي يمكنه من تعليق عضوية البوليساريو. ولعل الطريقة الصحيحة لتحقيق ذلك هو الوصول إلى بلدان إفريقية أخرى التي كانت خارج مجال السياسة الخارجية المغربية لعدة عقود، وخاصة البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية؛ فالمغاربة يدركون تماما أن الخطوة الأولى التي من شأنها أن تسمح للمغرب بكسب ثقة هذه الدول في نهاية المطاف ودفعها إلى تعليق علاقاتها مع البوليساريو هي بناء الجسور الاقتصادية والسياسية والدينية. ويظهر، من خلال الوفد المهم الذي رافق للملك محمد السادس خلال جولته في شرق إفريقيا، أن المغرب عازم على جعل تعزيز علاقاته الاقتصادية مع رواندا وتنزانيا اللبنة الأساسية في اتجاه ضمان الحصول على سحب هذه الدول اعترافها بجبهة البوليساريو، وفي نهاية المطاف ضمان التصويت لصالح تعليق عضوية هذا الكيان في الاتحاد الإفريقي. ويوحي العدد الهائل من الاتفاقيات التي وقّعها المغرب مع كل من ورواندا ووتنزانيا بأن الرباط تسعى إلى جعل الاقتصاد والبنية التحتية والمشاريع الزراعية حجر الزاوية في علاقاته مع هذه الدول. ويصبو المغرب، من خلال تحويل الاقتصاد إلى أداة رئيسية لتمرير سياسته الخارجية في إفريقيا ونصرة القضايا الإفريقية في المحافل الدولية، إلى تعزيز مكانته باعتباره أحد من الفاعلين الرئيسيين في القارة، متبعا في ذلك النهج الصيني. المغرب يسير على خطى الصين على مدى العقود الستة الماضية، نهجت الصين في علاقتها مع إفريقيا مقاربة تعتمد على الخطاب المعادي للإمبريالية وحشد الدعم الدولي لدعم التنمية الاقتصادية لشركائها الأفارقة. وعلى مدى العقدين الماضيين، وبسبب طلبها المتزايد في الوقود الأحفوري، أطلقت الصين سياسة خارجية مكنتها في النهاية من تحقيق اختراف غير مسبوق العديد من البلدان، ولا سيما في البلدان المنتجة للنفط. وقد تحققت هذه النتائج بفضل اتباع إستراتيجية جعلت من المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية أداةً رئيسية في خدمة أجندة سياستها الخارجية. ونجحت الصين، من خلال إطلاق هذه المشاريع، في تأمين إمدادات ثابتة من النفط من لدن هذه البلدان. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها أمنت دعم هذه الدول لسيادتها الوطنية في المحافل الدولية مثل الأممالمتحدة. وعلى غرار المغرب في قضية الصحراء المغربية، سعت الصين إلى الحصول على دعم 54 دولة إفريقية لسياسة الصين الواحدة (One China) . وقد سمح الوجود المتزايد لبكين في إفريقيا إلى دفع العديد من البلدان الأفريقية، مثل النيجر وتشاد ومالاوي إلى قطع علاقاتها مع تايوان وتأمين دعمهم لموقفها بخصوص تيبت. وفي حين أننا لا نستطيع القول على وجه اليقين بأن المغرب سوف يضمن دعم كل من رواندا وتنزانيا لموقفه بخصوص الصحراء المغربية في المستقبل القريب، إلا أن النهج الجديد للمغرب تجاه هذه الدول على الأقل سيدفعهم إلى تبني موقف الحياد والالتزام بالعملية السياسية التي بدأت تحت رعاية الأممالمتحدة عام 2007. إن السياق الدولي والإقليمي يوفر للمغرب كافة الأوراق التي قد تسمح له بتحقيق اختراق غير مسبوق في هذا الجزء من إفريقيا؛ فبالإضافة إلى السمعة الجيدة التي حصل عليها المغرب في السنوات الأخيرة في مجال مكافحة الإرهاب وتعزيز المبادئ الحقيقية للإسلام، والدور الرئيسي الذي يلعبه في التعاون فيما بين بلدان الجنوب، فإن الخبرة التي راكمتها الشركات المغربية مكنتها من لعب دور أساسي في تطوير وتحفيز الأنشطة التنموية والمدرة للدخل في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء استناداً لمبدأ رابح-رابح. والأهم من ذلك هو أن الجزائر لم يعد لها التأثير نفسه في القارة كما كان الحال في الماضي؛ بسبب عجزها المالي الذي خلفه انخفاض أسعار النفط وعدم استقرارها السياسي. فليس هناك شك في أن الجزائر سوف تفعل كل ما في وسعها لإفشال السياسة الخارجية الجديدة التي اعتمدها المغرب في علاقته بشرق إفريقيا، وتقويض جهود الرباط لتحقيق حل سياسي للصحراء المغربية على أساس خطة الحكم الذاتي. ومع ذلك، فإن عزم المغرب على القطيعة مع الماضي واللعب في ميدان الجزائر سيجعل هذه الخيرة أمام معركة شرسة في القارة للحصول على الدعم اللازم لمخططاتها وأجندتها السياسة الخارجية الهادفة إلى عزل المغرب. *مستشار دبلوماسي ورئيس تحرير Morocco World News